بقدر ما كنت سعيدا بعودتي إلى القاهرة مظفرا، فى رحلتي إلى بلجراد التي أمضيت فيها عشرة أيام إلى جوار خالد عبد الناصر، انتابني شعور بالانقباض بمجرد نزولى من الطائرة، كنت أعلم إنني مدرج على قوائم الوصول منذ أن عدت من دمشق منهيا فترة لجوئي السياسي أيام السادات، فقد كان معنى ذلك أننى سأبقى رهن الاعتقال فى المطار لعدة ساعات لا تسمح فيها السلطات بالمغادرة إلا بعد مضايقات أقلها أسئلة من قبيل، لماذا غادرت ومن قابلت وماذا قلت وما فعلت ومن قال لك وماذا كتبت إلى آخره؟.. تقدمت بخطى متثاقلة لضابط الجوازات الذى بمجرد أن فتح جواز سفرى رمقنى بنظرة فاحصة قبل أن ينصرف بناظريه إلى الكمبيوتر أمامه، وبعد لحظة صمت، طلب منى الانتظار قليلا فى مكان قريب أشار إليه بإصبعه، ثم أمسك بالهاتف متحدثا ببعض الكلمات قبل أن يلقى بالسماعة لينظر إلي متابعا اتجاه خطواتي، وبعد برهة تقدم منى أحد الضباط وسألني ما إذا كنت فلان الفلانى، وحينما تأكد أنني الشخص المطلوب طلب منى مصاحبته إلى أحد المكاتب وهناك قابلت ضابطا آخر يبدو أنه أعلي رتبة من سابقه، كان فى لهجته بعض الود الذى يخلو منه عادة حديث ضباط الشرطة، إذ قال لى: حمد لله ع السلامة، ثم طلب لى كوبا من الليمون قام من مكانه مغادرا ثم عاد ليبدى أسفه الشديد، قائلا لى: إن جواز سفرى محجوز لديهم، ويمكنني استلامه بعد العاشرة من صباح الغد فى إدارة أمن الدولة بلاظغولى، وحين سألته عن اسم المختص المكلف بتسليمي الجواز قال لى: إنك ستعرفه حين تذكر اسمك لدى الاستعلامات هناك، وبمجرد أن ذكرت اسمى لمسئول الاستعلامات بإدارة لاظغولى ، قام أحد أمناء الشرطة من مكانه، يبدوا أنه كان ينتظرني شخصيا، فاصطحبني إلى أحد المكاتب بالأدوار العليا من مبنى الإدارة، طلب منى الانتظار لدى أحد الأبواب ودخل بمفرده ثم عاد ليفتح لى الباب وأشار لى بالدخول فى المقابل وجدت المسئول بملابسه المدنية جالسا على مكتبه، مد يده بالسلام وهو جالس فى مكانه، ثم طلب منى الجلوس لمحت جواز سفرى أمامه قبل أن يمسك به مستعرضا محتواه ثم سألني هل تعرف خالد عبد الناصر من زمان، وكيف بدأت علاقتك به، ثم توالت الأسئلة عن الأشخاص الذين قابلتهم هناك فى بلجراد عربا وأعاجم، ثم طلب منى وصفا دقيقا لمقر إقامته، ودور رجال الأمن اليوغسلاف فى حمايته، وهل جرى تفتيشي قبل الدخول إليه، وهل هناك مصريون يعملون لخدمته وما هي أسماؤهم؟. أجبت عن كل تلك الأسئلة باستفاضة وفى حدود علمى بذلك، فلم يكن فيها ما يثير إحساسي بالريبة أو الخوف، فهو فى النهاية جهاز امن وطني يهمه سلامة خالد فى المقام الأول، حتى وإن كان فى الموقف المعارض له، وبعد ساعتين من الأسئلة والإجابات سلمنى الجواز قائلا: إنه فى إمكاني الآن مغادرة المكان، وبينما اتجهت مستعدا للخروج مواليا ظهرى له، استوقفني مفاجئا بسؤال هل تعتقد أن خالد بريء من التهمة، أم أنه متورط بالفعل فى القضية. قلت له الله أعلم. فأنا لم أذهب إليه وكيلا للنيابة ولكنى ذهبت كصحفي، وسؤال كهذا من الصعب أن يوجهه صحفيا لمتهم فى قضية شائكة وخطيرة كهذه، هز رأسه قبل أن يشر إلى الباب قائلا: اتفضل طوال الطريق إلى منزلى وأنا أفكر فيما قلت له جوابا عن أسألته، ترانى قلت ما يلحق الضرر بخالد أو ما يسيئ لموقفه فى القضية، أم أن ما قلته كان فى حدود الأمان، سألت نفسى وأجبتها، نعم كنت موفقا فى إجاباتي بما يتوافق أكيد مع ما حصلوا عليه من مصادر غيرى، ولولا أننى كنت صادقا وصريحا ما تركني أخرج فى سلام.