في الطائرة التي حملتني إلي الجزائر اكتشفت إنني لا أحمل أي أوراق تثبت شخصيتي, لا هوية, لا جواز سفر,ربما فقدتها في الطريق الي المطار,أصبحت مشغولا بعدها بالتفكير في الطريقة التي تمكنني من الخروج من المطار, هل سأتمكن من الاتصال بالفريق الشاذلي ليضمن لي الدخول بطريقة آمنة, وهل ستسمح لي السلطات الجزائرية بالدخول أم سيلقون القبض علي وإيداعي بالحبس؟! استسلمت للنوم هروبا من التفكير, ولم يوقظني سوي صوت بكاء شاب فلسطيني كان يجلس بجواري في الطائرة, لم يكن قد تجاوز الخامسة عشرة من عمره علي أفضل تقدير, تصورت في البداية انه فقد أحد أبويه أو كليهما في الحرب, سألت عن سبب بكائه فأخبرتني أمه التي كانت تجلس إلي الخلف منا مع أطفالها, انه كان يريد البقاء مع أبيه ليحارب إلي جانبه, ولكن أباه أجبره علي مغادرة بيروت لتولي امر اخوته الصغار في الجزائر, انشرح صدري لدي سماعي سبب بكاء هذا الشاب اليافع, الذي كان يفضل الموت إلي جوار أبيه علي المغادرة هروبا من الحرب, وسرعان ما أعادني هذا المشهد للتفكير في نفسي, كيف سمحت لهؤلاء بإخراجي من ساحة الحرب التي يتمني البقاء فيها طفل في هذه السن؟! هبطت الطائرة في مطار الجزائر بعد ثلاث ساعات من الطيران كأنها الدهر كله, وجدت ساحة المطار تعج بالشبان الذين كانوا يبدون بلباس الحرب كاملا, كانوا جالسين علي الارض في صفوف منتظمة, وحين سألت عنهم علمت أنهم الطلاب الفلسطينيون الذين كانوا يدرسون بالجزائر, وقد تأهبوا للذهاب الي بيروت للقتال إلي جانب اشقائهم هناك, وقد جلسوا في انتظار نفس الطائرة التي وصلت للتو من سوريا لتحملهم اليها, ومن هناك سيدخلون الي بيروت عبر طرق جبلية يعلمون مسالكها, فوجدتها فرصة للعودة معهم, فاندسست وسطهم جالساً, في انتظار التسلل معهم الي داخل الطائرة, ولأنني كنت ارتدي الملابس المدنية وسط حشود بالملابس العسكرية, فكان من السهل علي المراقبين أن يكتشفوا وجودي, بل وأن أثير شكوكهم, فتقدم مني احد رجال الامن الجزائريين يسألني عن هويتي وسبب وجودي هنا, وما أن علم انني مصري ولا أحمل اية اوراق تثبت هويتي حتي امسك بي وصاح في زملائه ليساعدوه في القبض عليَ باعتباري جاسوساً من بلد السادات اندس وسط الجنود ليفجر بهم الطائرة, اقتادوني لمكتب رئاسة الأمن بالمطار وسط حراسة مشددة والبنادق مصوبة إلي من كل اتجاه, أجلسوني علي الكراسي إلي أن جاء ضابط كبير بالامن ليسألني عن سبب تسللي وسط الجنود من الشبان الفلسطينيين, فأخذت اشرح له الامر موضحاً سلامة قصدي, وما ان ذكرت له اسم "الجنرال" الشاذلي حتي أخذ يتفرسني بنظرة فاحصة ملؤها الشك, ثم تركني مغادرا المكان, وعاد بعد برهة ليصحبني الي احد المكاتب لأقابل به شخصاً آخر سألني هل اسمك فلان الفلاني, فقلت له نعم, فقال وكيف اعرف وانت لا تحمل اية اوراق؟ فقلت له الفريق الشاذلي يعرفني جيدا, خذني اليه وستري بنفسك, تركني وغادر المكان, ثم عاد ليطلب مني مرافقته الي سيارة كانت تقف بالخارج خرج منها شخص تبدو عليه أمارات الهيبة وقدم لي نفسه باسم "شريف مساعدية" الأمين العام لجبهة التحرير الجزائرية, وانه جاء ليرافقني الي الفريق الشاذلي في مقر اقامته, تقدمت لأجلس بجوار السائق تاركا له المقعد الخلفي ولكنه طلب منى أن اجلس بجواره, وفي الطريق اعتذر لي الرجل عما حدث لي بالمطار مبررا ذلك بالضرورات الامنية التي تستوجبها الظروف, ثم سألني عن الموقف في بيروت وهل صحيح وصل القتال الي مشارف المدينة كما تقول الإذاعات, بدت علي وجه الرجل علامات الحزن والاسي وأنا اشرح له الموقف الصعب الذي يعيشه لبنان هذه الساعة, وعبر طريق جبلي وسط غابات كثيفة وصلنا الي فيلا محاطة بالجنود والمدرعات, أدركت حينها اننا وصلنا الي مقر إقامة الفريق الشاذلي, الذي خرج لمقابلتنا مرتديا لباسه العسكري الذي اعتدت علي رؤيته به أثناء الحرب.