من مزارات سياحية ودينية وتاريخية إلي "مقالب قمامة ومياه جوفية ومجارى طافحة ..هذا هو حال عشرات المساجد الأثرية التى سقطت فى قبضة الإهمال سنوات طويلة.. المآذن سقطت وذابت بفعل المياه والجدران تتعرض يوميا للتآكل والشقوق والتصدعات تسكنها الحشرات، فى الوقت الذى توقفت فيه تماما شعائر الصلاة.. عمليات الترميم توقفت فى ظل ضآلة الميزانيات فى الوقت الذى ترفض فيه وزارتى الآثار والأوقاف مشاركة الأهالى لإنقاذ بيوت الله بالجهود الذاتية .. إنه ملف ساخن ومحزن سعينا لننقله لكم من خلال سطور هذا التحقيق الذى قمنا فيه بجولة شاملة على هذه المساجد قبل أن نفاجىء ذات صباح بانهيارها وزوالها .. سيدي مدين البداية كانت من مسجد سيدي مدين الأشموني بباب الشعرية، وهو مسجد أثري مسجل برقم 82، يرجع تاريخه لأكثر من خمسمائة وخمسين عاما, فقد تم إنشاؤه عام (1465م-870هج), أمرت ببنائه إبنة كبير القضاة وكاتم السر بالديار المصرية في عهد السلطان مؤيد شيخ, وكانت من مريدي الشيخ أحمد مدين وهو أحد كبار المتصوفين وعلماء المالكية الذين أتوا منذ أكثر من خمسمائة عام من المغرب، المسجد سقط فى قبضة الاهمال تحديدا منذ عام 1983 حينما اجتاحت مياه الصرف الصحي المنطقة وقام الحي والسكان بردم الحارو أكثر من مره حتي عام "1990" وشراء مواتير وشفط المياه حتي لا تصل إلى داخل المسجد وتغرقه ولكن هذا ما حدث بالفعل! ومنذ ذلك التاريخ والمسجد غارق في مياه الصرف الصحي والفطريات, ومحاط من كل النواحي بتلال القمامة ومياه المجاري التي وصلت من متر ونصف لمترين داخل المسجد، وتغمر المياه مأذنة مفككة من الأحجار الكريمة والجرانيت تم فكها منذ عام 1990 لترميم المسجد ولكن هذا لم ينفذ، وظلت داخل المسجد الغارق بالصرف الصحي حتي الان رغم إدراجه ضمن خطه الترميم التي يقوم بها المجلس الأعلى للأثار الإسلامية منذ سنوات. من جانبه يقول الحاج محمد عبد المقصود، خادم المسجد، أن هيئة آثار باب الشعرية التابع لها المسجد بمنطقه الظاهر قامت بفك المأذنة والقبة وأصبح السكان يلقون القمامة على المسجد وعلى "غرفة الخدمة" التابعة للمقام نظراً لإختفاء أي معلم يدل علي وجود مسجد هنا, فأصبح المكان ملوث من كافة النواحى, وجاءت لجنة من شركة الصرف الصحى بالقاهرة لمعاينة المسجد وتخطيط المشروع لإنقاذه ووجدوا أنه لابد من هدم كافة المبانى السكنية المحيطة بالمسجد شرط إصلاحه! الظاهر بيبرس أما في مسجد الظاهر بيبرس, فالوضع لا يختلف كثيراً, فمثله مثل كافة أثارنا الإسلامية التاريخية التي عانت ولازالت تعاني من اّفة الإهمال في بلادنا، أنشأه الظاهر بيبرس عام (1269 م- 667هج )، ولم تكن شواغلة الحربية لتعوقه عن الاهتمام بالعمارة والبناء فترك العديد من المنشآت التاريخية والدينية أهمها هذا المسجد العريق بحي الضاهر أعلي كوبري غمرة. تم استخدام هذا الصرح الكبير كقلعة حربية في عهد الحملة الفرنسية, ثم عاني هذا الأثر من إهمال شديد علي مدار سنوات طويلة تحول خلالها لمقلب للقمامة وملجأ للحيوانات الضالة علاوة علي إرتفاع منسوب المياة الجوفية التي أصابها العفن لطيلة ركودها والتي لم تعالج حتي الان بل وتهدد بقاء المسجد. بدأ التفكير في ترميم هذا المسجد عام 2007 حينما شرعت شركة مصرية للمقاولات في ترميم المسجد بميزانية قدرها 53 مليون جنية وقتها, ونشر في ذلك الحين أن أعمال الترميم مشتركة ما بين مصر وكازاخستان لعودة جذور الظاهر بيبرس إليها, وظلت أعمال الترميم حتي 2010 إلا أن عملية الترميم لم تكتمل حتى الآن رغم أنه كان من المفترض الإنتهاء من عملية ترميم المسجد عام 2011 علي يد شركة "المقاولون العرب" إلا أن الثورة والأحداث التي حدثت بجانب مشدات بين الشركة ووزارة الاّثار حالت دون ذلك. تقول الحاجة جمالات إحدى سكان المنطقة أن هذا المسجد كان من أجمل المساجد لكنه غرق فى المياه الجوفية, مؤكدة أن أعمال الترميم توقفت من قبل عام 2009، وهناك شعور بالحزن لأنه بيت من بيوت الله. الشيخ عبد الرؤوف في مسجد الشيخ عبد الرؤوف المناوي بشارع باب البحر بحي باب الشعرية أيضاً الوضع يشبه تماماً وضع المساجد السابقة حيث أدى تراكم المياه الجوفية أسفله إلي سقوط ضريح المسجد تحت الأرض,علاوة علي الكسور والشقوق الكبيرة, الأهالى من جانبهم حاولوا استخراج تصاريح لترميم المسجد على نفقتهم الخاصة ولكن لم يحصلوا علي ذلك التصريح وانتهى الحال إلى غلق المسجد منذ أكثر من 4 سنوات. هذا المسجد تم انشاؤه عام "1621" وهو مسجل أثر برقم "254"، و"عبد الرؤوف المناوي" هو أحد أعلام التفسير, وله مؤلفات عدة منها "شروح العقائد" وكتاب "إعلام الأعلام للسعد ", وعقب وفاته دفن بالقبة التي أنشأها بجوار زاويته الكائنة بحي باب البحر. من جانبها تقول السيدة فاطمة "زوجة خادم المسجد" أن المسجد على هذا الحال منذ أكثر من 4 سنوات, مما يتسبب في ضيق وحزن لها ولزوجها "خادم المسجد" الذي أصابة المرض بعدما تدهور حال المسجد من شدة تعلقه به, والسبب فى تعطل ترميم المسجد يعود لوزارة الآثار. مسجد الفكهاني أما مسجد الفكهانى, الذى يعود تاريخه للقرن السادس الهجرى "الحادي عشر الميلادي" , فهو مسجل كأثر برقم "109" , ويعد تحفه معمارية غاية في الجمال، شوهت وضاعت معالمها بين مخلفات باعة الفاكهة والأطعمة والملابس, يتكون من مدخلان: مدخل أمامى ولكنه مغلق أمام الزائرين والمصلين وتتصدره أقفاص الفاكهة الفارغة وبقايا الطعام والمهملات, ومدخل خلفى مكتظ بأجولة الرمل والأسمنت, تكاد تكون الصلاة به مستحيلة, هذا فضلاً عن سرقة بعض القطع من منبر المسجد، حسب قول السكان المحيطين بتلك المنطقة، والتي تعد من القطع النادرة للغاية والتي كانت تحمل الطابع الإسلامي المميز, كل هذا وسط تصريحات "منسوخة" ومكررة للمسئولين حول أهمية ترميمه دون جدوى. قبة فاطمة خاتون وفي حي السيدة نفيسة, وتحديدا شارع الخليفة المعروف باسم شارع الأشراف، يوجد أثران غاية في الأهمية يعودان لعام 1350م وهم قبتا "فاطمة خاتون" و "الأشرف خليل ابن قلاوون" , واللذان يعودان للعصر المملوكي, إلا أن معالمهما اختفت نتيجة تاّكل الجدران بفعل المياه الجوفية الراكدة منذ عشرات السنين فضلاً عن تحول القبتين لمستودع معروف لإلقاء القمامة، ومأوى للحيوانات الضالة والثعابين والحشرات، وأصبحا يشكلان خطراً على سكان المناطق المجاورة والأطفال خاصة تلك المباني السكنية الملاصقة للقبتين التي يعلن أهلها صراحة تعديهم علي جزء من الأرض والبناء بجانبها في ظل تجاهل الجهات المعنية بتلك الآثار وعدم وجود مأوى لهم غير ذلك. ويستغيث السكان المجاورون لقبتي "الأشرف خليل بن قلاوون" و" فاطمة خاتون" من الثعابين والحشرات السامة التى تأوى بالمكان نظرا لإهماله منذ عشرات السنين وترك تلال القمامة والصرف الصحى تتراكم به. تعليقا على هذه المشاهد المؤسفة التى تتعرض لها الآثار الإسلامية ؤكد الدكتور حسين السيد خليل، المتحدث الإعلامي لوزارة الأوقاف، أن وزارة الآثار هي المسئولة عن المساجد الأثرية التى تحتاج لترميم والتي يبلغ عددها نحو 90 مسجداً، حيث أن الأوقاف مسئولة فقط عن التمويل، مشيرا إلى أن الأوقاف تهتم بالمساجد بكل ما تحتويه ولكن لضآلة الإمكانيات ونقص الميزانية نحاول علي الأقل الاهتمام بالأولويات وما يحتاج للترميم. وحول مشاركة الأهالى فى عمليات الترميم، أضاف: لا نستطيع ترك الأهالي يتدخلون في عملية الترميمات بأنفسهم، هذه مساجد أثريه خاضعة لوزارة الأثار بالتعاون مع وزارة الأوقاف ومن اختصاصنا العمل علي ترميمها والحفاظ عليها، والوزارة تفتح باب التبرعات لمن يهتم ويريد المساعدة في الحفاظ علي بيوت الله. ومن جانبه أكد محمد عبد اللطيف، الرئيس السابق لقطاع الآثار الإسلامية والقبطية بوزارة الآثار أن الامكانيات المتاحة ضئيلة والميزانية لا تخدم الخطة الموضوعة، مشيرا إلى أن وزارة الأوقاف هي المسئولة عن دفع مبلغ الترميم بحسب المادة 30 من قانون حماية الأثار والتي تنص علي أن الأوقاف هي التى تتحمل أي تكلفة تخص المساجد. وعلق الدكتور محمد الكحلاوى، أمين عام اتحاد الأثريين العرب، على هذه المشكلة قائلا: فيما يتعلق بمسجد الظاهر بيبرس كمثال نظراً لكونة الأقدم, نجد أن تاريخ المسجد تعرض لنكبات عديدة نظرًا لمساحته الضخمة والكبيرة بالإضافة إلى الزلزال الذى حدث فى التسعينيات والذى أدى لتصدعه، ولهذا قامت هيئة الآثار بمحاولة ترميم هذا المبنى ولكن للأسف الشديد قامت بتسليمه لشركات المقاولات التى بدورها قامت بالقضاء على المبنى وليس ترميمه حيث قامت بعمل مشروعات لا تتوافق مع الأصول المعمارية لعمارة المسجد مما أدى إلى خروج المسجد عن أصوله المعمارية الأولى . أما عن تعامل كل من وزارتي الآثار والأوقاف مع آثارنا الإسلامية والآثار بشكل عام، يضيف الكحلاوي : الموضوع يعكس مدى إهمالنا وتعاملنا مع آثارنا الإسلامية وتاريخنا بشكل عام, ففي الوقت الذي يقوم فيه الناس بكل ما بوسعهم لإضاءة المساجد والحفاظ علي بيوت الله, ماذا تفعل وزارة الأثار وقطاع الآثار الإسلاميه فى مصر؟ مع الأسف القصة والصور محزنة ومخزية للغاية، وعلى وزارة الآثار على وجه التحديد أن تتحمل مسئوليتها تجاه هذه المشكلة.