قضية عجيبة ولغز مثير طُرح أمامنا دفعة واحدة، "مصر هبة الكيمياء" هكذا كتب أحد مستخدمي شبكة التواصل الاجتماعي فيسبوك، يُدعى طاهر الدمرداش، يتحدث عن عالم مصري اسمه الدكتور فتحي أحمد عبدالحافظ، ويقول أنه يستحق جائزة نوبل في الكيمياء، وأن عالما أمريكيا يُدعى دونالد كارل وآخرين قد اكملوا مسيرته العلمية وحصلوا على الجائزة بالفعل عام 1987. كان البحث صعبا للغاية، تتبعنا كل أطراف الخيوط، بحثنا على المواقع الرسمية لكليات الزراعة والعلوم في جامعات القاهرة وعين شمس والمنيا، لنقتفي أثر العالم المفقود، ولم نجد شيئا، حتى أجيال من الأساتذة والباحثين من تلك الكليات لم يعرف أحدهم عنه شيئا، وكأنه سقط من ذاكرة الجميع. ولكن كانت المفاجأة عندما وجدنا اسمه على عدد من المواقع الأجنبية، ونكتشف أن الدكتور فتحي أحمد عبدالحافظ كان قد نشر بالاشتراك مع العالم الأمريكي دونالد كرام تسعة أبحاث بين عامي 1952 و1957، في دورية Journal of the American Chemical Society، بأمريكا، وهي الأبحاث التي وجدناها أيضا منشورة على موقع الدورية المذكورة، وكذلك موقع Research gate، حيث عملا معا في جامعة كاليفورنيا بمدينة لوس أنجلوس في ولاية كاليفورنيا، وذلك كما تشير الصفحة الأولى في إحدى دراساتهما. ويقول طاهر الدمرداش – مستخدم الفيسبوك الذي أثار الموضوع- أنه في عام 1952 قام عالم الكيمياء المصري الدكتور عبد الحافظ ومعه دونالد كرام بعمل دراسة في الكيمياء الفراغية Stereochemistry بعنوان Steric Control of Asymmetric Induction ووضعا معا قاعدة في الكيمياء سميت بقاعدة عبد الحافظ-كرام Abd Elhafez-Cram Rule. ويضيف أن عملهما كان host-guest complexation chemistry وبالتحديد النظام البيولوجي، وكان الهدف هو تخليق مواد عضوية معمليا يمكن للإنزيمات أن تتعامل معها وكأنها الطبيعية الموجودة داخل الكائن الحي بشرط أن يكون وزنها الجزيئي أقل، وحتى يحدث هذا لابد من إعادة التشكيل الفراغي للجزئ بحيث يتلائم مع الوضع الهندسي للإنزيم اعتمادا على نظرية إميل فيشر، وبعد عام 1957 عاد عبدالحافظ إلى مصر واستمر دونالد كرام في البحث، وأصدر بعدها عددا من الأبحاث المتعلقة بالموضوع الأساسي وهو "إنتاج المركبات غير الحلقية". وفي عام 1967 ظهر تشارلز بريدسون Charles J. Pedersen ونجح في إنتاج أول مركب أحادي الحلقة، وفي سنة 1969 استطاع جين ماري Jean-Marie Lehn أن يقوم بإنتاج المركبات ثنائية الحلقة، وبذلك اكتمل الإنجاز العلمي.
وبناء على كل ما سبق حصل العلماء الثلاثة، دونالد كرام من جامعة كاليفورنيا بمدينة لوس أنجلوس في ولاية كاليفورنيا الامريكية، وتشارلز بريدسون من جامعة لويز باستير في ستراسبورج وكلية فرنسا في باريسبفرنسا، وجين ماري في مدينة ويلمنجتون في ولاية ديلاوير الامريكية، حصل ثلاثتهم – مشاركة - على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1987. وقد أشار الموقع الرسمي لجائزة نوبل العالمية الشهيرة صراحة إلى أن "التقدم نحو تحقيق هذا الهدف استمر لنحو 20عاما، وأن هذا هو الإنجاز الرائد في هذا المجال البحثي الذي تحقق الآن". "and it is the pioneering achievements in this particular area that are now being recognized" http://www.nobelprize.org/nobel_prizes/chemistry/laureates/1987/press.html وبذلك يمكن القول أن الأبحاث الأصلية التي أجراها عبدالحافظ وكرام هي التي أدت إلى هذا الإنجاز، الذي نتج عنه إنتاج المركبات غير الحلقية، وهو ما يعني أن نوبل التي حصل عليها العلماء الثلاثة كان لعبدالحافظ نصيب فيها، ربما لم يحصل عليه لأن نوبل لا تُمنح لعالم بعد وفاته، هذا إن فرضنا أن الوفاة حدثت بالفعل قبل تاريخ الحصول على الجائزة وهي المعلومة التي لاتزال غائبة عنا حتى الآن. الجدير بالذكر أنه لم يُعرف إلى الآن مصير الدكتور عبدالحافظ بعد عودته إلى مصر، ولا الجامعة التي قام بالتدريس بها، غير أننا وجدنا للدكتور عبدالحافظ كتابين هما "مقدمة في الكيمياء العضوية" الصادر سنة 1958 عن دار الهنا بالقاهرة، و"المدخل إلى الكيمياء التحليليه الكمية" الصادر سنة 1966 عن نفس دار النشر، وتوجد نسخة من الكتاب الأخير على موقع "نيل وفرات.كوم" على الانترنت صادرة عام 1978 عن دار الأنجلو المصرية. ويقول الدكتور طاهر الدمرداش – مستخدم الفيسبوك الذي أثار الموضوع- أن كل ما يعرفه عن العالم المجهول هو أنه كان أستاذا في كلية العلوم بجامعة المنيا. ولكن ببحثنا على موقع الكلية الرسمي لم نجد أية معلومات عنه. كما أننا حاولنا التواصل مع الدكتور طاهر الدمرداش، ولم يستجب. ويضيف الدكتور عبدالحميد سليمان - خريج زراعة القاهرة والمقيم خارج مصر منذ عام 1977- تعليقا على ما سبق أن الدكتور فتحي عبد الحافظ كان أستاذا للكيمياء العضوية، ودرّس له في قسم الكيمياء الحيوية في كلية الزراعة بجامعة القاهرة، ودرّس لأخيه في كلية الزراعة بجامعة عين شمس، وكان أشهر من النار علي علم لحدة مزاجه ولسانه، لكنه كان مبهرا في قدرته علي تبسيط أعقد مسائل الكيمياء، وكانت هناك أحاديث عن أنه تمت إعادته إلي مصر بعد انتهاء بعثته قسرا، ويبدو أنه أراد أن يستأنف عمله في الولاياتالمتحدة. واختتم حديثه قائلا: "يمكن الرجوع إلى بعض أساتذة زراعة القاهرة ولكن لا أظن أن ليدهم المزيد عنه ليقولوه". وبالرجوع إلى الدكتور أحمد أبوالعينين أستاذ الكيمياء بزراعة القاهرة أكد أنه كان أحد تلامذة الدكتور عبدالحافظ، وأنه كان منتدبا من كلية الزراعة في جامعة عين شمس للتدريس في جامعة القاهرة تقريبا خلال الفترة ما بين 1965 و 1968، وأضاف: "كان متخصصا في الكيمياء التحليلية والعضوية، أعتقد أن كلية الزراعة بعين شمس قد تفيدك". "ومن لا يعرف الدكتور عبدالحافظ؟!".. هكذا بدأ معنا أحمد عادل المعيد في كلية الزراعة بجامعة عين شمس حديثه، وأضاف: "هو علم من أعلام العلوم الزراعية في مصر تماما كالدكتور أحمد مستجير"، وبسؤاله عن موضوع نوبل قال: "لم أتعامل معه شخصيا فقد رحل قبل مولدي بسنوات طويلة جدا، الدكتور عبدالحافظ عالم كبير، وكل تلامذته يذكرونه بالاعتزاز والفخر والاحترام، ويشيدون بعلمه الوافر، وتتردد أقاويل حول أنه أعيد إلى مصر قسرا في حقبة الستينات، البعض يقول خوفا عليه من الاغتيال والبعض يقول غير ذلك، والموضوع يكتنفه بعض الغموض". حتى كانت نهاية اللغز على يد الدكتور حسين محمد جلال أستاذ الكيمياء العضوية في زراعة عين شمس ورئيس القسم سابقا، والذي قال: "نعم الدكتور عبدالحافظ أستاذي، ومشرفي في رسالة الماجستير، وهو من الأساتذة المرموقين في التخصص، وعندما سافرت إلى الولاياتالمتحدة للحصول على الدكتوراة درست أبحاثه هناك، وبالفعل حصل دونالد كرام على نوبل عن الأبحاث التي أجراها مع الدكتور عبدالحافظ، وتوجد قاعدة كيميائية اسمها "قاعدة كرام - عبدالحافظ". وعن سبب عودة عبدالحافظ إلى مصر في الستينات يقول: "يُقال أن عبدالناصر ضغط عليه ليعود، وعاش بمصر حتى وفاته عام 1980 أو 1981". ويشير الدكتور حسين إلى أن الدكتور عبدالحافظ كان علما من أعلام الكيمياء الحيوية في الجامعات المصرية بعد عودته إلى مصر، ودرّس في جامعة عين شمس وغيرها، لدرجة أن "كُمسرية الاوتوبيس" كانوا يسمون المحطة القريبة من كلية الزراعة بجامعة عين شمس "محطة فتحي عبدالحافظ". ويضيف تلميذ عبدالحافظ بحسرة قائلا: "عشت في أمريكا ست سنوات، ويمكنني الجزم بوجود ما بين أستاذين أو ثلاثة أساتذة مصريين في كل جامعة من أهم أربعين جامعة في أمريكا، أتكلم عن الأساتذة "المتميزين" هذا بخلاف الباحثين الصغار، نحن في مصر لا نعرف علماءنا لا في الداخل ولا في الخارج، ولا نعرفهم إلا بعد حصولهم على نوبل، أنا عرفت زويل في أمريكا قبل أن يعرفه أحد في مصر، وعرفنا الدكتور مصطفى السيد متأخرا جدا رغم أنه أستاذ زويل، وكان محررا لدورية الفيزياء الكيميائية، وعضوا في لجنة الحكم التي رشحت زويل لنيل نوبل، في الخارج يتابعون العلماء عن قرب، ليتوقعوا من يمكنه الفوز بنوبل أو غيرها من الجوائز الكبرى، وإسرائيل منحت زويل جائزة قبل نوبل، العالم يكون عظيما ثم ولذلك يحصل على نوبل، وليس العكس". ويختتم حديثه قائلا: "في مصر الأسوأ يرتقى لأعلى حيث الشهرة، بينما الأفضل يهبط لأسفل، أغلبية الوزراء ليس لهم باع في العلم ولا البحث، حتى رؤساء الجامعات لا يتم اختيارهم على "سيفيهاتهم" وإنما بمنطق أهل الثقة"....