يونيو 2005 .. كنت متردداً في بداية المشوار ، ليس فقط لأن منزلها الكائن بأحد الأحياء الشعبية صعب الوصول إليه.. لكن أيضاً لأنني لم أكن أعرف الكثير عن الحاجة فايزة والتى تم تكليفي بعمل حوار معها باعتبارها " سوبر ستار الكومبارس " ، فقد كنت مندهشاً من فنانة وجهها معروف إلي حد ما .. لكنها تظل نحو 50 عاماً – و10 أعوام بعد ذلك – مكتفية تماماً بجملة أو " خناقة " أو مجرد المرور من أمام الكاميرا ، كانت تشتهر – بسبب ملامحها القاسية وصوتها الغليظ - إما بدور السجانة أو السجينة أو البلطجية .. وظهرت في أكثر من 170 عملاً سينمائياً وتليفزيونياً وتم تكريمها في مهرجان الإسكندرية السينمائي ورغم ذلك رفضت نقابة الممثلين عضويتها ، وسعت كثيرا للبحث عن إنشاء جمعية للكومبارس أو نقابة لحمايتهم وصرف معاشات لهم إلا أن كل محاولاتها باءت بالفشل ، المهم ذهبت إلي فايزة عبد الجواد واستمعت إليها لمدة ساعتين بكل شغف ..كانت علي عكس ما تظهر دائمة الضحك .. وتبدو شديدة الثقافة والفهم الكامل لعالم السينما وتقنياته ، ذكرياتها كثيرة ومقتنعة بمشوارها وفخورة بلقب " كومبارس " ، تركتها ولدي شعور مزيج من السعادة والرضاء والحزن والإعجاب.
تأمل ملامحها جيداً ..حاول أن تتذكر أين شاهدت صاحبة الصورة .. ربما هي التى كانت تمر في فيلم " الأرض " من أمام محمود المليجى في أحد المشاهد .. أو تقف مع المجاميع لتستمع لغناء فايزة أحمد في فيلم " تمر حنة " .. أليست هي التى كانت تقوم بدور السجانة في فيلم " الحب في الزنزانة " ؟ .. بالتأكيد هي الكومبارس التى ضربتها ليلي علوي في فيلم " أى أى " أو التى أعطت علقة ساخنة لسعاد نصر في " هنا القاهرة " ، كل هذا صحيح ومعه مئات المشاهد في أشهر أفلام السينما المصرية علي مدي 50 عاماً ، ولكن السؤال الأصعب : هل تعرف اسمها الحقيقي ؟ .. الإجابة بالتأكيد ستكون " لا " ، وهذا طبيعي لأن عالم الفن مثل الحياة .. هناك نجوم تتصدر اسماؤهم وصورهم الصحف والمجلات .. وهناك آخرون " كومبارس " أو مهمشون ، وفايزة عبد الجواد أقدم وأشهر كومبارس في السينما المصرية ، وهي تعتبر نفسها نجمة شعبية ورمزاً لكل من يتمني الكلام أمام الكادر ليحصل علي حقه في الظهور .. ولكن غالباً غير مسموح له سوي بالمرور في الصمت وإلا الخروج من المشهد نهائياً ! .
*في البداية سألتها .. بعد 50 عاماً هل يضايقك لقب " كومبارس " ؟
ردت بثقة مدهشة : وهل يمكن سؤال عادل إمام إذا كان يضايقه لقب " النجم " ؟ هذه هي مهنتي ولن أخجل منها ، وأنا أعرف أنني مهمة وأدوار الكومبارس هي اساس السينما .. تخيل الفيلم بدوننا .. مجرد بطل وبطلة فقط .. شارع لا يمشي فيه أحد أو أرض بدون فلاحين أو مشهد سجن لا يوجد فيه سجناء .. مشاجرة يضرب فيها البطل نفسه ! أكيد هذا لا يحدث .. وليس ذنبي أن البعض يعتبرنا " كمالة عدد " .
*هل معني ذلك أنك لم تتخيلي نفسك نجمة وبطلة للأفلام التى ظهرت فيها ؟
ترد ضاحكة : أنظر لي .. " ده شكل بطلة " ؟ الحمد لله علي ما أعطاني وأنا راضية بما وصلت إليه وأنا لي أدواري التى لا تستطيع ليلي علوي أو سعاد حسني القيام بها حتى ولو كانوا " كومبارس " لأن ملامح الوجه لها معيار مهم في توزيع الأدوار بغض النظر عن حجمها ، ولذلك معظم أعمالي قدمت فيها دور الفتوة والشر في المعارك السينمائية ، ثم أن الكومبارس من الصعب أن يصبح نجماً لعدم امتلاكه مواصفات البطولة إلا في بعض الحالات الاستثنائية ، ولكن هذا لا ينفي عنه إنه المحرك الأساسي للدراما بوجوده في كل المشاهد لأننا الخلفية التى تميز الأبطال .. تماماً مثل شمعة حمراء ووراءها ستارة بيضاء ! .
*عندما بدأت مشوارك مع الفن .. ماذا كان طموحك ؟
ببساطة لا شيء سوي العمل في السينما ، فقد كان المخرج الراحل حسين فوزى يقوم بتصوير فيلم " تمر حنة " في قريتي بنزلة السمان وخرجت مع الأهالي لمشاهدة أبطال الفيلم ، ولمحنى النجم رشدي أباظة فأشار إلي وقال لي : هل ترغبين في العمل معنا ؟ أكيد أصابني الذهول وكنت سعيدة وتوقعت أن يسند لي أى دور في الفيلم ، ولكنه أشار لي بالوقوف مع مجموعة من الفتيات في أثناء مشهد أغنية للفنانة فايزة أحمد ، وبعد المشهد أنتهي الأمر ، وعندما عرض الفيلم كانت سعادتي طاغية عندما شاهدت نفسي علي الشاشة مع رشدي أباظة ونعيمة عاكف وأحمد رمزي وغيرهم ، وتعبت كثيراً حتى وصلت لرقم تليفون رشدي أباظة لكي يساعدني علي العمل في السينما مرة أخري ، وبالفعل كان كريماً معي وأشركني في عدد من أفلامه علي سبيل التفاؤل بوجودي ، لكنها كانت أدواراً صامتة ولمجرد الظهور علي الشاشة فقط .
*هل تذكرين أول أجر تقاضيته ؟
75 قرشاً وكان كبيراً مقارنة بأجرة الكومبارس وقتها ، وكبيراً جداً إذا ما قارنته بخمسين جنيهاً هي ما أتقاضاه حالياً ، وكان المنتجون يعطونني جنيهاً عن كل سنة خبرة في الفن ! .
*ومتي تحولت إلي كومبارس متكلم .. أقصد الدور الذي تعتبرينه انطلاقتك وتأكيداً لوجودك في عالم الكومبارس ؟
ترد ضاحكة : أنا لو كنت انطلقت علي مدي 50 عاماً لما ظللت مجرد كومبارس .. ثم نحن حتى لم نرتق للدور الثاني مثل " صديقة البطلة " .. لكن ممكن تقول الدور السابع أو الثامن .. وأحياناً السبعين حسب نهاية الاسماء التى تراها علي تترات الأفلام ، ثم بعد ذلك نأتي نحن الكومبارس والذين لا تكتب اسماؤهم ، عموماً أنا ظللت 25 عاماً اظهر في أدوار صامتة .. أى كنت كومبارس للكومبارس المتكلم ، وظهرت في أفلام مهمة جداً مثل " وأسلاماه " و " رصيف نمرة 5 " و " المومياء " و " أفواه وأرانب " و " أم العروسة " وغيرها الكثير ، وفي فيلم " آخر الرجال المحترمين " مع النجم نور الشريف قال لي إنه يشاهدني في الأفلام منذ صغره ولابد أن أطور من نفسي ونصحني بعدم قبول أدوار صامتة مرة أخري ، وكانت هذه البداية لكي يمثل معي صوتي .. وأصبح هدفي بعد ذلك أن أقول أى شيء ، ونظراً لملامح وجهي فإن المخرجين كانوا يستعينون بي في مشاهد المشاجرات والمعارك وظهرت في أفلام كثيرة أشهرها " رجب فوق صفيح ساخن " مع عادل إمام و " المتوحشة " مع نادية الجندي و " هنا القاهرة " مع محمد صبحي .
*علي مدي مشوارك الطويل مع المهنة .. ما هو الفارق بين الكومبارس قديماً وحالياً ؟
تماماً مثل الفارق بين النجوم الكبار قديماً والممثلين الشباب حالياً ، فنحن نعمل معهم ونتأثر بما يحدث لهم ، ولكن علي مستوي مهنة الكومبارس فإنها اصبحت للأسف أقل قيمة وأهمية .. زمان وفي أحد الأفلام الدينية قلت للنجم شكرى سرحان حينما كنا نصور في الصحراء أن مسئولي الإنتاج لا يعطون الكومبارس إلا الماء المغلي من حرارة الجو ليشربوه بينما الماء المثلج للنجوم ، فغضب بشدة وكاد يترك التصوير واشترط أن يتم توزيع الماء المثلج علي الجميع ، وكانت تحية كاريوكا وهند رستم وفريد شوقي ورشدي أباظة وكلهم في أوج نجوميتهم لا يأكلون إلا معنا علي الأرض وفي الشارع ، وكانت سعاد حسني لا تهتم بملابس دورها بقدر حرصها علي أن تكون ملابس الكومبارس ملائمة للمشهد ، أما أحمد مظهر فكان يعطي للكومبارس " يومية " إضافية من ماله الخاص إذا تمت إعادة المشاهد كثيراً ، كانت الروح جميلة بدون غرور لأننا في النهاية بشر ونحب الفن ، ولكن الآن أنا أسكن في الحي العاشر ويتم إبلاغي بأن التصوير سيكون في مدينة الإنتاج الإعلامى بالسادس من أكتوبر وأظل في سني هذه طوال اليوم بدون طعام .. ويعتبر أبطال الأفلام أن مجرد إلقاء السلام علي الكومبارس تنازلاً كبيراً ، وفي نهاية اليوم أجرة موحدة 50 جنيهاً ، وصدقني هذا لا يضايقني لأن الفن جحد بأبطال كبار .. فلماذا سيكون وفياً معي ؟
* ألا توجد نقابة تدافع عنكم ؟
أى نقابة .. ؟ نحن مثل الباعة الجائلين مكتوب في بطاقاتهم الشخصية " بدون عمل " لأن نقابة الممثلين لا تعترف بنا ولا تمنحنا عضويتها ، حتى بعدما كرمتني الدولة وفزت بجائزة تقديرية في مهرجان الإسكندرية السينمائي .. رفضت النقابة قبول عضويتي ! ولكن يكفيني أن أترك أثراً يحس الناس من خلاله بوجودى ..
*أحكي لي عن تفاصيل يوم عمل بالنسبة لك ؟
يتصل بي الريجيسير قبلها بيوم ليخبرني بموعد التصوير ، وبالمناسبة .. الكومبارس هو الوحيد الذي يعمل في الفيلم ولا يعرف قصته ، وليس مطلوباً منه معرفة تفاصيل العمل لأنه لا يقرأ السيناريو أصلاً ، وكل الأفلام التى عملت بها كنت أعرف قصتها بعد عرضها في السينما مثل الجمهور تماماً ! وبالتالي أذهب في موعد التصوير لأعرف مع غيري من " المجاميع " ماذا علينا أن نفعله .. هل هي " مشاجرة " أم مظاهرة أم ناسي تمشي في سوق ، وقد نعيد المشهد عشرات المرات .. خاصة وأن مهنة الكومبارس دخل عليها أخيراً عدد كبير من غير الموهوبين ؟!!.
*موهوبون في ماذا ؟
في الصمت .. وعدم الوقوع في الأخطاء إذا كانوا متكلمين حتى لا يضيعوا جهد بقية الممثلين ، كما أنه لابد أن يتوافر لديهم الحد الأدني من موهبة التعبير بالملامح ، إلي جانب بعض المميزات الجسدية الضرورية في أدوار محددة ، خاصة في أفلام الأكشن والحروب ، والمهم أيضاً أن يعرف الكومبارس حدوده ولا يحاول أن " يسرق الكاميرا " بالتعبير السينمائي .
*هل صحيح أنك ستكتبين مذكراتك ؟
نعم .. رغم أنني متأكدة أنه لن يقرأها أو يشتريها أحد لأنني هذه المرة سأكون البطلة ، وقد سجلتها بالفعل علي شرائط وأعطيتها لأحد أحفادى – وعددهم بالمناسبة 17 ولداً وبنتاً – ليقوم بكتابتها لأننى لا أعرف القراءة ولا الكتابة ، وقلت فيها اسرار وكواليس 50 سنة فن عاشرت خلالها مشاهير نجوم السينما عبر عدة أجيال .
*من هم المخرجون الذين تأثرت بهم ؟
حسن الإمام علمني عدم النظر إلي الكاميرا نهائياً وأنا أؤدى أى مشهد ، إلي جانب تنفيذ ما يطلبه منى بدقة من أول مرة ، أما صلاح أبو سيف فأهم ما تعلمته منه هو ألا أخجل من مهنتى وكان يقول لي إن معظم الممثلين الكبار دخلوا التمثيل بأدوار صغيرة وكان من الوارد ألا يلتفت إليهم أحد ويظلوا مجرد " كومبارس " والمهم ليس حجم الدور ولكن أهميته ، واكتسبت من محمد فاضل صفة تكوين الكادر السينمائي .. بمعني كيفية التواجد بجوار أو أمام أو خلف الممثل والحركة السريعة في كل الإتجاهات والتلقائية في رد الفعل .
*لو طلب منك أحد أولادك أو أحفادك العمل في مهنة الكومبارس .. هل توافقين ؟
بالتأكيد سأوافق لأسباب كثيرة .. فمثلاً قد يبتسم الحظ ويمنحهم ما حرمني منه ويصبحون نجوماً ، كما أن البطالة طالت الجميع والكومبارس مهنة ومصدر رزق ، كما إنها عمل شريف في النهاية .
*أخيراً .. ماذا تبقي من الأحلام لديك ؟
من لا يحلم وهو شاب من المستحيل أن يفعل ذلك وهو علي أعتاب السبعين .. حلمي هو أن أظل في بلاتوهات التصوير حتى أخر يوم في عمري ، فقد عشت " كومبارس " وأتمني أن أموت " كومبارس " ! .