"دمه علينا وعلى أولادنا"..شكلت هذه العبارة- التي قالها أنصار السيد المسيح وقت محاكمة اليهود له- العلاقة بين المسيحية واليهودية في الشرق الأوسط على وجه الخصوص. لكنه تشكيل مخل؛ لأن المسيحية ليسj هي الأرثوذكسية المصرية فقط، واليهودية بالطبع ليست هي دولة إسرائيل فقط. ملف خاص يكتبه - سامح سامي: - موقف الكنيسة من إسرائيل لخصه البابا شنوده: هؤلاء احتلوا فلسطين بوعد من بلفور وليس بوعد من الله - باباوات الكنيسة القبطية لم يتعاملوا مع إسرائيل من منطلق الوطنية فقط - الوطنية في ذيل قائمة تعامل باباوات الكنيسة القبطية مع إسرائيل.. والخلاف الأبرز حول دير السلطان - البابا كيرلس السادس عارض تبرئة إسرائيل من دم المسيح والبابا شنوده كان الأكثر تشددا == أثارت زيارة البابا تواضروس الثاني بطريرك الأقباط الأرثوذكس الكثير من الجدل بين مؤيد ومعارض. وما يهمني هنا المناقشة الهادئة لزيارة البابا تواضروس الثاني للقدس. وأقول لمن يدافع عن زيارة البابا من الأقباط:"للأسف الكنيسة تؤكد أن موقفها ثابت لم يتغير"، أي ليس هناك مجال للدفاع عن حرية التنقل، أو السماح بزيارة القدس، ولمن يدافع عن موقف البابا الراحل الأنبا شنودة الثالث أرجوه أن يعلم أن الموقف ليس كله وطني كما يظنون، ولمن يفرق بين السياسة والوطنية أقول له إن الكوارث تأتي من الكلام الناعم غير الحازم، ولمن يدعي أنه من حق الأقباط زيارة القدس أذكره أن من فعل ذلك ومنع الأقباط من الزيارة هو البابا شنوده الثالث نفسه، وبالتالي دفاعك عن زيارة البابا تواضروس انتقاصا لبابا آخر، ومفارقة للتقليد الكنسي. لكن ما يهمنا أكثر هنا هو بيان موقف الكنيسة الأرثوذكسية المصرية من إسرائيل الذي سبق قيام الدولة الفعلي. فإسرائيل هو شخص "أي يعقوب" وشعب " أي العبرانيين"، ثم تحوّل هذا الشخص إلى فكرة "الصهيونية"، وذلك الشعب إلى دولة "إسرائيل المحتلة". بداية يجب على القارئ معرفة أن الكنيسة المصرية تمتلك أملاكا في القدس، منها دير السلطان الشهير الذي عليه نزاع بين الكنيسة ودولة إسرائيل، والتي قبل تأسيسها كفكرة أو كدولة، كانت الكنيسة القبطية ترسل بعثات إلى القدس. ويذكر كتاب " أقباط ومسلمون" لجاك تاجر أنه وفق دعوة الملكة هيلانة أم الإمبراطور قسطنطين خلال الحكم المملوكي لمصر (1250-1517)، أصبح لبابا الإسكندرية ممثل في القدس، بعد أن كان الأقباط في عهد المماليك يعانون صعوبات كثيرة للحصول على إذن بالحج إلى الأراضي المقدسة. لكنهم استطاعوا بعد ذلك أن يقوموا كل عام بهذا الغرض تحت رعاية السلطات. وأشار جاك تاجر إلى أوجه الشبه بين المسلمين والمسيحيين في مصر، حيث تعلق الأقباط بالحج إلى كنيسة القيامة بالقدس كي ينالوا لقب «حاج» ولا يفوتهم أن يحيطوا سفرهم إلى القدس بنفس المظاهر التي كان يحيط بها المسلمون سفرهم، فكانوا يذهبون على هيئة قوافل عددية. وظل التقديس "الحج" هدفا لكل المسيحيين في مصر، كغيرهم من المسيحيين حول العالم. لكنه لم يخفت إلا بعد تأسيس دولة إسرائيل، إلا أنه لم ينقطع، حتى مع عنفوان قرار البابا شنوده الثالث منع السفر للقدس؛ لأن قرار البابا شنوده كان توظيفا سياسيا بالأساس، لقرار سابقه البابا كيرلس السادس الذي كان قراره يخص "شأن إداري كنسي". وقد شهد أربعة بابوات للكنيسة القبطية الأرثوذكسية نشأة إسرائيل كدولة في 1948، وهم البابا يوساب الثاني (1946-1956)، وبعد رحيله ظلت الكنيسة ثلاث سنوات بدون بابا على كرسي مار مرقص الرسولي، ثم جاء البابا كيرلس السادس (1959- 1971)، وبعده البابا شنودة الثالث (1971- 2012)، وأخيرا البابا تواضروس الثاني (2012- ) والبابا يوساب الثاني، وهو أحد الباباوات المثيرين للجدل في تاريخ الكنيسة، معروف عنه أنه ترهبن بدير القديس الأنبا أنطونيوس 1900 باسمه الأصلي اقلاديوس، وكان له من العمر 15 عاما، ثم أوفده البابا كيرلس الخامس في بعثة علمية إلى أثينا سنة 1902. وبعد عودته تولى مناصب دينية كثيرة، وفي سنة 1912 عين رئيسا لأديرة الأقباط في القدسوفلسطين ثم وكيلا عاما لأيباراشية الكرسي الأورشليمي، وهو الكرسي الذي كان يجلس عليه أنبا آبراهام مطرانا، والذي توفى وبسببه سافر البابا تواضروس الثاني للقدس. ثم جاء البابا كيرلس السادس الذي كان على علاقة طيبة مع الرئيس جمال عبد الناصر، وتزامن مع فترة بابوية الأنبا كيرلس السادس ظهور صريح للصهيونية العالمية التي واصلت حملاتها الإعلامية لإقرار وثيقة التبرئة من دم السيد المسيح، ولمحو عبارة " دمه علينا وعلى أولادنا"، ونجحت في تعبئة الرأي العام الأوروبي والأمريكي. وفي جو هذه الحملة افتتحت الدورة الثالثة للمجمع المسكوني للفاتيكان في 16/5/1964 وعرضت فيها الوثيقة للمناقشة. وقد طالب أحد الكاردينالات أعضاء المجمع المسكوني بضرورة "الاقتداء بالمسيح في محبته للشعب اليهودي". ورفض الفاتيكان كثيرا فكرة التبرئة إلا أنهافي النهاية تمت في 1964، وأثار قرار الوثيقة في أوساط الطوائف المسيحية الشرقية – خاصة في مصر وفلسطين وسوريا- عاصفة من الانتقادات تركزت بالدرجة الرئيسية على انكار صلاحية المجمع المسكوني الفاتيكاني "الكاثوليك" لتغيير نصوص الإنجيل الصريحة. وفي مصر أعلنت الكنيسة القبطية برئاسة البابا كيرلس السادس في 26/9/1964 معارضتها لاقرار الوثيقة واتهمت الصهيونية بتضليل الكنيسة الكاثوليكية. وبعد نكسة 1967 وهزيمة مصر أمام دولة إسرائيل المحتلة، ومحاولتها تهويد القدس، قرر البابا كيرلس السادس منع زيارة الأقباط إلى الأماكن المقدسة؛ وذلك بعد أن مكنت إسرائيل بعض الرهبان الأحباش من الاستيلاء على الأديرة القبطية، وخاصة دير السلطان، وكذلك كنيسة القيامة، فكان موقف البابا كيرلس احتجاجا على تعنت إسرائيل مع الأقباط، والاستيلاء على ممتلكاتهم هناك. ورحل البابا كيرلس السادس، وجاء بعده البابا شنوده الثالث فكان الأكثر وضوحا في مسألة علاقة الكنيسة القبطية بإسرائيل، كفكرة وكدولة، حيث رفض البابا شنوده الثالث في نقابة الصحفيين، فكرة وجود شعب الله المختار، قائلا إن "الشعب الإسرائيلي المحتل لفلسطين ليس شعب الله المختار"، وكان غرضه من ذلك سد الطريق أمام أفكار "الصهيونية المسيحية" التي تؤمن بأن قيام دولة إسرائيل عام 1948 كان ضرورة حتمية؛ لأنها تتمم نبؤات الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، وتشكل المقدمة لمجيء السيد المسيح الثاني إلى الأرض كملك منتصر، حيث يعتقد الصهاينة المسيحيون أنه من واجبهم الدفاع عن الشعب اليهودي بشكل عام، وعن الدولة الإسرائيلية العبرية بشكل خاص. ثم أكمل البابا شنوده الثالث، الذي سمي ب" بابا العرب"، مواقفه الرافضة لشعب إسرائيل المحتل فلسطين، حيث قال أكثر مرة إن "هؤلاء احتلوا فلسطين بوعد من بلفور، وليس بوعد من الله، وإنهم يتخذون من آيات كتابية يحرفونها ويفسرونها كما يحلو لهم تبريرا لأفكارهم ومواقفهم العنصرية". وكان البابا شنوده الثالث كثيرا ما كان يتحدث عن منع زيارة القدس- الذي هو قرار سابقه البابا كيرلس- بسبب تعنت إسرائيل، وعدم تنفيذها حكم قضائي يقضي باستعادة دير السلطان رسميا إلى الكنيسة، وكان يقول :"ويسرى هذا القرار تلقائيا طالما أن الدير لم يتم إستعادته، أو لم يصدر قرار من المجمع بخلاف ذلك" ولكن بعد توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل، وخلافه مع الرئيس أنور السادات رفض البابا شنوده الثالث السفر للقدس من منطلق وطني، قائلا عبارته الشهيرة :"الأقباط لن يسافروا للقدس إلا مع المسلمين بعد تحريرها من الاحتلال الإسرائيلي"، بل كثيرا ما دعا البابا شنوده الأقباط المتشوقين إلى زيارة القدس لضبط النفس، وعدم الاندفاع العاطفي؛ لأن الوقت المناسب لم يحن بعد. وكانت تعتبر الكنيسة، أيام البابا الراحل الأنبا شنوده الثالث، أن سفر الأقباط لإسرائيل "رحلات فردية"، وينطبق عليهم الحرمان الكنسي، أي عدم "التناول" عقب القداس الإلهى، وهو أحد أهم أسرار الكنيسة السبعة، ولم يتغير الموقف كثيرا مع حلول البابا تواضروس وجلوسه على كرسي الإسكندرية خلفا للبابا شنوده، فقد صرَّح بأنه: :"لا تغير في موقف الكنيسة في ذلك الموضوع منذ عهد البابا الراحل شنودة الثالث ولا علاقة لنا بالكنائس التي تسمح بالسفر"، ويقصد بالكنائس هنا، الإنجيلية والكاثوليكية. لكن يلاحظ أن المنع في عهد البابا تواضروس لا تواكبه أو تصاحبه تهديدات كنسية أو حرمات دينية، بل ينظر إلى كل حالة لزائر على حدة، كما اختفت كذلك مسألة الاعتذارات الرسمية على صدر الصحف الرئيسية في الدولة، التي كان معمول بها أيام البابا شنوده الثالث. وجاءت زيارة البابا تواضروس الثاني الأخيرة للقدس لتفتح باب الجدل المجاني حول مدى تغيير مواقف الكنيسة القبطية من زيارة القدس، ليتبين لنا أن موقف الكنيسة من زيارة القدس موقف فردي يتخذه رئيس الكنيسة أو مجمعه المقدس، فلا يكون له علاقة في الأغلب بالوطنية، أو بالمسيحية.