اتفقنا في البداية أننا لا نقدم حواديت عن القصور أو نميمة تنهش في لحم صيد ثمين استسلم في قفص الاتهام , فهدفنا من الحوار مع الكاتب الكبير صلاح منتصر وكتابه ' الصعود والسقوط .. من المنصة إلي المحكمة ' لم يكن مجرد تقديم روايات مسلية وجذابة , بل هي دعوة للتأمل فيما كان يجري في مصر بعدعام كامل اختلطت فيه الحقائق بالأكاذيب , فلا مكان هنا للشائعات ولكنها أحداث مؤكدة بدأها الأستاذ صلاح منتصر دائما بكلمات ' شاهدت ' أو ' عرفت ' أو ' سمعت ' واستعان بشهادات أشخاص مازالوا علي قيد الحياة وكان يمكنهم النفي أو التكذيب لكنهم لم يفعلوا .. في الجزء الأول من الحكاية تحدث الأستاذ صلاح منتصر عن الصدفة التي جاءت بمبارك رغم أنه كان مرعوبا بعدما قام الرئيس السادات بتعيينه نائبا له , لكن يوم حادث المنصة وقف السادات مندهشا ومتصديا لما يراه فأصبح شهيدا , بينما اختفي مبارك تحت الكرسي فأصبح رئيسا , كما قدمنا اجابات واضحة عن عدة أسئلة منها ' لماذا أرسل السادات تسجيلا بصوت مبارك لأحد المسئولين اللبنانيين ؟ ! وما سبب إيثار مبارك للصمت بعدما قدمه المذيع باعتباره أحد الضباط الأحرار ؟ ! وما هي أسرار اعتراض المشير عبد الحليم أبو غزالة علي الجنزوري ؟ ! ' , ثم قدم الأستاذ صلاح منتصر تفسيرا لأسباب التغيير الكبير الذي طرأ علي مبارك سواء من خلال طريقة اختياره للمسئولين أو حرصه الزائد علي حراسته وسر عداوته الشهيرة مع منصور حسن وكيف أفسح المجال لولديه علاء وجمال للدخول في عالم البيزنس والسياسة ؟ .. وفي الجزء الثاني والأخير من رحلة مبارك ' من العرش إلي البورش ' نمر بمحطات مهمة كانت السبب الرئيسي فيما نعيشه الآن .. الوريث ! الملاحظة التي لم يتوقف عندها الكثيرون هي دلالة بداية ظهور جمال مبارك علي الساحة في عام 2000 .. فلماذا في هذا العام بالتحديد ؟ ! الحكاية ببساطة هو أن سوريا كانت أول دولة جمهورية تبتكر حكاية التوريث .. فقد توفي حافظ الأسد في ذلك العام وكان عمر ابنه بشار وقتها 35 عاما , بينما الدستور السوري يقضي بألا يقل عمر المرشح للرئاسة عن 40 عاما , وخلال يوم واحد أقيمت جلسة للبرلمان السوري وتم تعديل الدستور ليهبط بسن المرشح للرئاسة إلي 34 عاما ليصبح بشار رئيسا , وكان طبيعيا لشاب في مصر اسمه ' جمال ' يكبر بشار بعامين أن يطمع هو الآخر في أن يرث حكم أبيه الذي امتد حكمه إلي 6 فترات , واللافت هنا الصعود الصاروخي لجمال مبارك في العمل السياسي .. فقد كان حتي عام 2000 بعيدا عن كل شيء حتي اخترعوا له حكاية جمعية جيل المستقبل .. وبعدها بعامين اخترعوا له لجنة السياسات بالحزب الوطني , ومن الحكايات الغريبة التي تروي أن الشرطة قبضت في عام 2004 علي شاب تم ضبطه وهو يكتب علي حائط منزله ' لا للتوريث ' وعندما علم مبارك أمر بالإفراج عنه وقال لعمر بطيشة رئيس الإذاعة بالنص ' احنا نظامنا جمهوري .. لا توريث للحكم في مصر وكون ان حد يقول توريث فهذه شائعة ظهرت قام بتأليفها بعض الناس وصدقوها ' لكن بعد عام واحد فقط أصبح جمال مبارك هو الذي يعين وزراء حكومة أحمد نظيف ! وخلال 6 سنوات كان جمال مبارك يعامل كرئيس دولة تحت الانتظار او ولي عهد تحيط به حراسة خاصة لم تكن لرئيس الوزراء وسلطات مطلقة في كل شيء , وكل هذا بعلم والده بدليل رفضه المساس بالمادة 77 من الدستور التي تحدد فترات الرئاسة بمدتين فقط .. أي كان يريدها لابنه للأبد ! وكان مبارك نفسه هو الذي تحدث عن الصفقة التي قام بها ابنه جمال عندما كان في لندن وأتم من خلالها شراء ديون مصر لصالح الصين مقابل عمولة .. وكان الأب فخورا في حوار له مع مجلة ' المصور ' سنة 1993 بمهارة ابنه وموهبته في المفاوضات لدرجة أن البنك الدولي منحه مكافأة خاصة قيمتها 90 ألف دولار , وعقب موقعة الجمل دعا مبارك إلي اجتماع كان أهم اقتراح معروض فيه لمحاولة امتصاص غضب الشعب حل البرلمان بمجلسيه الشعب والشوري , وقد أيد فتحي سرور وممدوح مرعي حل مجلس الشعب , إلا أن الاجتماع انتهي دون صدور أي قرار يمس البرلمان , وقال صفوت الشريف لبعض معاونيه متفاخرا : إنه بالفعل كان هناك قرار بالحل علي وشك الصدور ولكنه استطاع أن يوقفه , فقد عارض صفوت الشريف وأحمد عز بقوة القرار بحجة أن إجراء انتخابات جديدة للمجلس خلال 60 يوما كما يقضي الدستور لن تضمن للحزب الوطني أغلبية مثل التي حصل عليها في انتخابات ديسمبر 2010 , وكان وهم التوريث مازال مسيطرا والكل يتطلع إلي الأغلبية البرلمانية التي تحققه . طلقات رصاص ! في شهادة الأستاذ صلاح منتصر ما يمكن أن نسميها ' طلقات رصاص ' والتي تدوي بصوت عال لتصيب هدفها وهو الصندوق الأسود لأسرار كثيرة , مثلا .. ما كان يثار حول قيمة معاش مبارك الذي ينفق منه علي تكاليف علاجه , فقد أشار إلي أنه حصل علي نجمة سيناء في حرب 73 .. وهي توفر له معاشا شهريا وصل حاليا ل 20 ألف جنيه , كما منح نفسه وهو رئيس نجمة الشرف مرتين آخراهما بعد ولايته الخامسة , وهما أيضا توفران له معاشا كبيرا يورث للزوجة . كما يروي تفاصيل غريبة عن حدوتة ثراء علاء مبارك وحميه مجدي راسخ .. نبدأ بعلاء الذي حاول مبارك في بداية رئاسته أن يقوم بتعيينه في شركة إنبي للبترول .. لكن علاء طموحه كان أكبر فاتجه إلي تسويق البترول وحصل علي كمية كبيرة لكنه فشل في بيعها بسبب وزير البترول وقتها د . عبد الهادي قنديل الذي تم اقصاؤه من منصبه بشكل مفاجيء .. وخلال سنوات قليلة بعد ذلك أصبح يشار لعلاء باعتباره ' رجل أعمال ناجحا ' ثروته بالمليارات خاصة بعد صفقات الغاز مع قدوم سامح فهمي لوزارة البترول سنة 1999 , أما الحكاية الأغرب فكانت لحميه مجدي راسخ . والتي يرويها الأستاذ صلاح منتصر كشاهد عيان .. حيث كان مجدي طالبا في الكلية الفنية العسكرية لكنه لم يتحمل نظامها فتركها إلي التجارة وبعد تخرجه عمل في مركز الأهرام للمعلومات والحاسب الآلي عام 1968 ثم سافر للعمل في الكويت .. وظل يعيش في الظل حياة عادية جدا حتي قامت صديقة لسوزان مبارك بتعريفها علي هايدي ابنة مجدي راسخ , وبعدها تعرف عليها علاء مبارك ونشأت بينهما قصة حب وتزوجا عام 1991 .. وفي 1992 بعد عام واحد فقط قام بتوريد مليون فانلة من منتجات شركة المحلة إلي الخليج بسعر دولار للواحدة .. بينما اشتراها من شركة المحلة بجنيه واحد وحصل علي الفارق , وبمرور الوقت تحول إلي امبراطورية ضخمة ووصلت ثروته لعدة مليارات .. ولذلك كان طبيعيا أن يكون أول الهاربين بعد الثورة . انتظار النهاية ! المتأمل لمشوار مبارك نحو السقوط ربما يتخيل وكأنه كان يسير بإرادته نحو النهاية , حقائق كثيرة كانت أمامه لكنه تجاهلها , مثلا .. عمر سليمان نائب الرئيس ورئيس المخابرات السابق قال في التحقيقات التي جرت معه عقب الثورة : إنه كانت هناك معلومات كثيرة جدا منذ أكتوبر 2010 بخصوص الاتصالات بين الشباب والمعارضة وحركة كفاية وحركة 6 ابريل علي الفيس بوك وتويتر يعبرون فيها عن ضرورة عمل شيء لتغيير الوضع الحالي , كما أن السفارة الأمريكية بدأت ومنذ 2005 برنامج ' الديمقراطية والحكم الرشيد ' والذي بمرور الوقت بدأت ميزانيته يتم تخصيصها بعيدا عن أعين الحكومة المصرية , وكان يتم تدريب الشباب في أمريكا وبولندا والأردن علي كيفية القيام بالمظاهرات وأساليب الاحتجاجات والتجمعات , كما كان هناك اجتماع شهير يوم 20 يناير حضره عدد من المسئولين للتحذير من يوم 25 يناير لكن بلا فائدة , لكن الجديد هنا هو ما تم الكشف عنه بخصوص اجتماع عاجل تم يوم الخميس 27 يناير 2011 لإنقاذ الموقف قبل جمعة الغضب , وقد روي الدكتور أحمد درويش وزير التنمية الإدارية السابق للأستاذ صلاح منتصر تفاصيل كثيرة أبرزها مثلا الطريقة التي كان يعتقد صفوت الشريف أنه يمكن حل الموقف بها وصرف الملايين من الشوارع .. فقد اقترح تعيين العمالة المؤقتة وإدراج عدد من السلع بالسعر المدعم في بطاقات التموين وزيادة الأجور , أما أحمد نظيف فكان علي النقيض .. يدرك خطورة ما ينتظر حكومته والحزب الوطني والنظام بالكامل , وحسبما جاء في شهادة الدكتور دوريش بالنص فإن نظيف تصور أن استخدام مصطلحات إنجليزية يمكن أن تخفف من وقع كلماته , فقد قال ' من ذهبوا إلي التحرير لهم 3 مطالب وهي Police brutality أي عنف الشرطة و f reedom and democracy أي الحرية والديمقراطية و longevity of period أي طول مدة الحكم ' وانتهي الاجتماع بما يمكن اعتباره المسمار الأخير في نعش النظام .. حيث اتصل حبيب العادلي بمبارك وأبلغه بقرارهم النهائي وهو : ' ياريس لا يمكن أن أعطي تنازلات لهؤلاء الأولاد ولسه مافاتش غير يومين بس .. احنا ننتظر يوم الجمعة واحنا قادرين علي أن ننهي هذا الموضوع ' , وطبعا في هذه اللحظة أدرك أحمد نظيف أنه أصبح رئيس وزراء سابقا . الاستاذ صلاح منتصر يوم الاجتماع مع المجلس ! من الأشياء التي يعيد الأستاذ صلاح منتصر طرحها أيضا قصة اجتماع مبارك يوم السبت 29 يناير مع أعضاء المجلس العسكري , هو من خلال مصادر موثوق بها من المجلس نشر أن مبارك أراد فقط أن تصوره كاميرات التليفزيون مع أعضاء المجلس العسكري ليوحي للجميع أن مقاليد الأمور مازالت في يده .. لكنه لم ينطق بكلمة واحدة واكتفي بالظهور ورحل , وهو ما فهمه أعضاء المجلس وردوا عليه في اليوم الثاني ببيان من وزارة الدفاع إلي الشعب الوحيد الذي لم يأخذ رقما - قبل أن تتوالي البيانات فيما بعد , وهذه الرواية رغم بساطتها لكنها تكذب طبعا رواية أخري روج لها الكثيرون ربما نفاقا لأعضاء المجلس العسكري لم يكونوا أصلا في حاجة إليه : وهي أن مبارك جاء أصلا لكي يطلب منهم مواجهة المتظاهرين بالقوة لكنهم اتفقوا جميعا في وجود المشير محمد حسين طنطاوي والفريق سامي عنان علي رفض أي استخدام للقوة مع الشعب , وكانت هذه الرواية المنتشرة جدا هي سبب صدمة الكثيرين من شهادة المشير طنطاوي .. فقد صدقوها لدرجة أنهم شككوا في شهادة المشير والتي نفي فيها وهذا منطقي طبقا لرواية الأستاذ صلاح منتصر أن مبارك طلب منهم استخدام القوة .. علي الأقل في هذا الموقف . الغضب .. والجمل ! يومان حاسمان لا يمكن نسيانهما , ومازالت عليهما علامات استفهام كثيرة بلا إجابات , الأول هو جمعة الغضب 28 يناير 2011 والذي شهد أسرع هزيمة لجهاز أمني في التاريخ , لا أحد يعرف كيف انهارت الشرطة المصرية خلال ساعات رغم أن عدد أفرادها يقدرون بمليون فرد , فجأة انسحب أفراد هذا الجهاز الضخم من مواقعهم .. واعتبارا من الخامسة مساء ولسبب غير معلوم توقفت جميع اتصالات الشرطة في كل أنحاء مصر نتيجة سقوط شبكة الجهاز من العريش إلي حلايب وشلاتين والسلوم , مما قطع حتي الاتصالات بين وزير الداخلية ومساعديه , كما تم الهجوم علي 17 سجنا وتهريب أكثر من 23 ألف سجين .. هذا بخلاف الآلاف الذين كانوا موجودين في أقسام الشرطة .. ومن الأمور الغريبة التي رصدها الأستاذ صلاح منتصر البرقية التي بعثت بها وزارة الخارجية إلي وزارة الداخلية يوم 18 فبراير 2011 .. وهي كانت نص رسالة من مكتب تمثيل مصر في رام الله تقول : نقلا عن مصادر بقطاع غزة تلاحظ مؤخرا وجود عشرات السيارات المهربة من مصر والتي مازالت تحمل لوحات شرطة وحكومة . أما اليوم الثاني فكان الأربعاء 2 فبراير والذي شهد موقعة الجمل , وهنا تفسير جديد حسب توالي الأحداث .. ففي يوم 30 يناير زار مبارك مركز عمليات القوات المسلحة , ويوم 31 يناير تم نشر صور الزيارة في التليفزيون والصحف في محاولة لعكس سيطرة وخضوع الجيش لمبارك , ويوم 1 فبراير ردت القوات المسلحة ببيان تعلن فيه : أنها لن ترفع سلاحها في وجه الشعب , وفي يوم 2 فبراير جاءت موقعة الجمل التي لم يكن هدفها المعتصمين فقط .. بل كانت أيضا مؤامرة ضد القوات المسلحة وبيانها , وحسب شهادة الأستاذ صلاح منتصر فقد قال له أحد أعضاء المجلس الأعلي للقوات المسلحة : إن هذا اليوم كان الأصعب والأحرج لدرجة أن المشير محمد حسين طنطاوي استبد به الغضب وأجري اتصالا مع رئاسة الجمهورية وصرخ في المسئول الذي تحدث إليه قائلا : إيه التهريج اللي بيحصل ده ؟ ! هو أنا مش مسئول معاكم ؟ ! لو انتم لكم يد في الموضوع ده ينتهي فورا , فقد فوجئت المظاهرات الموجودة في ميدان التحرير بهجوم من مؤيدي النظام .. وكان منطقيا أن يتدخل الجيش الموجود بالميدان ويقف إلي جانب شباب التحرير ويهاجم المعتدين , وهذا بالضبط ما كان يخطط له الذين رتبوا لهذه المؤامرة , فهم كانوا يريدون أن يتدخل الجيش ليبدو في اليوم الثاني لبيانه أنه نقض عهده بعدم استعمال العنف مع الشعب , وكما قال عضو المجلس العسكري فإن ضبط النفس كان أهم وأصعب سلاح واجهوا به هذا الموقف , خاصة أن أسلحة الشرطة اصاباتها محدودة .. بينما جندي الجيش لو أطلق سلاحه يمكن أن يسقط العشرات دون تفرقة , لكن يبقي السؤال : من هو الغبي الذي رتب لهذه المعركة بعد يوم واحد من خطاب لمبارك دغدغ فيه مشاعر بعض المصريين وكسب إلي جانبه نسبة من عواطفهم؟ ! الرئيس والمشير ! حاول مبارك يوم السبت 29 يناير المناورة وتعيين المشير محمد حسين طنطاوي نائبا لرئيس الجمهورية ورغم إلحاح مبارك عليه فقد أصر المشير علي الاعتذار فكان أن عين اللواء عمر سليمان في المنصب الذي ظل خاليا 30 سنة كما عين الفريق أحمد شفيق رئيسا للوزراء . وقبل المشير طنطاوي أن يبقي وزيرا في هذه الوزارة وليس نائب رئيس وزراء كما كانوا يعدون مرسوم قرار الوزارة , وبالفعل فإن الوزراء الذين كانوا ينتظرون دورهم لأداء اليمين أمام مبارك ويتم المناداة عليهم واحدا بعد الآخر سمعوا اسم المشير طنطاوي ينادي عليه كنائب لرئيس الوزراء إلا أن المشير لم يقبل وأصر علي البقاء وزيرا للدفاع والقائد العام للقوات المسلحة مما اضطر المسئولين برئاسة الجمهورية إلي تغيير القرار الجمهوري الصادر بتشكيل الوزارة وطبعه في الجريدة الرسمية بالصورة التي أصر عليها المشير , ولابد أن قراءة المشير للأحداث قد أكدت أنه أمام نظام ينهار ولا أمل في بقائه بل لا يجوز إنقاذه وأن دور القوات المسلحة في الفترة التالية يجب أن يكون محوريا في العبور بالوطن سالما خلال أزمة غير مسبوقة في تاريخه . يؤكد هذا أن المشير عندما طلب إليه مبارك نزول القوات المسلحة مساء الجمعة 28 يناير بعد أن استنفد جهاز الشرطة قواه واستعصي عليه مواجهة مظاهرات الغضب المتزايدة فإن القوات العسكرية التي نزلت إلي الشارع كان معظمها دبابات ومصفحات مدرعة وهي في التعبير العسكري قوات ميدان وليست قوات اشتباك , وقد لفت ذلك نظر مبارك وسأل المشير طنطاوي سؤالا مباشرا وكان رد طنطاوي : وهل تريد من الجيش أن يضرب المواطنين؟ ! ولم يكتف المشير طنطاوي بالتلميح وإنما عمد إلي التصريح من خلال البيان الذي أصدره المتحدث الرسمي بلسان وزارة الدفاع يوم أول فبراير مع ملاحظة أن المشير طنطاوي هو وزير الدفاع . وقد كان هذا البيان هو الوحيد الذي صدر عن وزارة الدفاع بينما صدرت البيانات التالية اعتبارا من يوم 10 فبراير باسم المجلس الاعلي . لعنة النائب ! طوال 30 عاما حكم فيها مبارك مصر ظل قرار تعيين نائب الرئيس موضوعا بالغ الحساسية بالنسبة له مصرا علي عدم الاقتراب منه إلي أن اضطرته ظروف الأحداث بعد 25 يناير إلي إصدار هذا القرار , وحسبما يؤكد الأستاذ صلاح منتصر فإن مبارك حاول مساء يوم 28 يناير ولأكثر من ساعة الضغط علي المشير محمد حسين طنطاوي لتولي هذا المنصب ولكن المشير ظل مصمما علي الاعتذار فلما وجد مبارك إصراره علي رفضه منصب نائب رئيس الجمهورية أمر بتعيينه نائبا لرئيس الوزراء في وزارة الفريق أحمد شفيق , لقد ظل تصميم وعناد مبارك علي عدم شغل منصب نائب الرئيس إلي درجة اهانة الشعب المصري عندما قال اكثر من مرة إنه لا يجد الشخص المناسب لشغل المنصب بينما الشواهد تشير إلي أنه كان يتخوف إلي درجة التشاؤم من فكرة تعيين نائب للرئيس وهو احساس يبدو أنه لم يكن مخطئا فيه فبعد 14 يوما فقط من تعيينه عمر سليمان خرج مبارك من الحكم بصورة لم يتوقعها احد , حتي الراغبون في الخلاص منه وخرج معه عمر سليمان الذي ظل يعمل رئيسا للمخابرات العامة 18 سنة كان خلالها مثار الاحترام لشخصه ولجهاز المخابرات الذي رأسه , خلال أيام الأزمة وجه حسني مبارك ثلاثة خطابات ألقاها بنفسه إلا أنه هرب من قراءة بيان التنحي تاركا ذلك للواء عمر سليمان الذي بدا ان تعيينه نائبا للرئيس بعد 30 سنة ظل فيها المنصب خاليا كان خصيصا من أجل ان يقرأ ال 35 كلمة التي تضمنها إعلان نهاية نظام مبارك . يوم التنحي ! شهد يوم الأربعاء 9 فبراير نقاشا طويلا بين مبارك وجمال وأنس الفقي الذي أصبح مقيما في القصر الجمهوري حول الخطاب الذي كان مبارك يعده لتوجيهه إلي الشعب مساء ذلك اليوم , لكن الاتفاق علي محتواه استمر إلي ما بعد منتصف الليل بسبب رفض جمال وأنس تنازل مبارك فتقرر تأجيله إلي اليوم التالي , وعندما أعلن حسام بدراوي لقناة بي بي سي أن مبارك سيستقيل قرر أنس الفقي تحديه وأعلن في شريط الأنباء الذي يذاع مع برامج القنوات المصرية ولعدة مرات ( عاجل : أنس الفقي .. مبارك لن يقدم استقالته ).. وفي يوم 11 فبراير عندما ألقي اللواء عمر سليمان بيانه الذي كان نصه ' أيها المواطنون في هذه الظروف العصيبة التي تمر بها البلاد قرر الرئيس محمد حسني مبارك تخليه عن منصب رئيس الجمهورية وكلف المجلس الأعلي للقوات المسلحة إدارة شئون البلاد والله الموفق والمستعان ' عمت الفرحة كل مصر وبدا الأمر أشبه بانتصار دولة أعلن العدو استسلامه لها . لم يسأل واحد هل كتب الرئيس أو وقع قرارا بذلك وهل في الدستور الذي ينظم قواعد انتهاء دور الرئيس إشارة إلي كلمة تخلي الرئيس عن سلطاته أو تكليفه القوات المسلحة بالمهمة التي أعلنها؟ لم يسأل أحد ويعرف أن كل هذه الكلمات والإجراءات ليست لها علاقة بالدستور فقد كانت الفرحة بانتهاء حكم مبارك أهم من أي تفاصيل دستورية , والحقيقة أن حسني مبارك لم يوقع أي قرار مكتوب يفيد بتخليه عن منصبه برغم أنها كلمة غير موجودة في الدستور وليست هناك وثيقة واحدة وقع عليها مبارك بهذا المعني . والبيان الذي سمعه الملايين كان اللواء عمر سليمان نائب الرئيس هو الذي كتبه في مكتب المشير محمد حسين طنطاوي وقرأه في التليفون علي مبارك الذي كان قد سافر إلي شرم الشيخ وقد وافق مبارك علي البيان باستثناء كلمة واحدة تم تعديلها وطلب من اللواء عمر سليمان تأجيل إذاعة البيان حتي تكون الطائرة التي حملت علاء وجمال قد غادرت مطار الماظة الي شرم الشيخ , وفور المكالمة قام عمر سليمان بتسجيل البيان في مقر وزارة الدفاع وأرسل الشريط الي ماسبيرو مع تعليمات بإذاعته فور إبلاغهم بذلك , وبالفعل فإنه فور مغادرة طائرة علاء وجمال مطار الماظة صدر أمر إذاعة البيان الذي فجر أكبر فرحة في تاريخ مصر , وكما يقول الأستاذ صلاح منتصر فإن مبارك أحسن بعدم اتباعه الطريق الدستورية فلم يكن متصورا أن يتولي د . فتحي سرور رئيس مجلس الشعب المنحل لم يكن قد تم حله مسئولية رئاسة البلاد التي كانت ستواجه حربا طاحنة لو تولي سرور الرئاسة وكان لابد أن ينتهي الأمر إلي الجيش , وعلي حد تعبير فقيه دستوري فإنه حتي آخر دقيقة في منصبه لم يحترم حسني مبارك الدستور الذي أقسم اليمين علي احترامه واخترع أسلوبا جديدا غير مسبوق في إنهاء رئاسته لاعلاقة له بالدستور . بيان التنحي ! أثار عدم وجود قرار مكتوب بتنازل مبارك عن الرئاسة تعليقات عدد من الدستوريين , فصدر بعدها بشهرين عدد خاص من الجريدة الرسمية بتاريخ قديم وهو 12 فبراير 2011 اليوم التالي للتنحي جاء فيه الخطاب التالي : إلي السيد المشير محمد حسين طنطاوي , القائد العام للقوات المسلحة رئيس المجلس الأعلي للقوات المسلحة , إدراكا من السيد الرئيس محمد حسني مبارك لمسئولياته التاريخية تجاه الوطن واستجابة لمطالب الشعب التي عبرت عنها جموعه , ورغبة منه في تجنيب البلاد مخاطر الفرقة , فقد أبلغني سيادته ظهر يوم الجمعة الموافق الحادي عشر من فبراير سنة 2011 بتخليه عن منصبه كرئيس لجمهورية مصر العربية وتكليف المجلس الأعلي للقوات المسلحة بإدارة مقاليد البلاد , وطلب مني أن أعلن ذلك للشعب , وقد أعلنت ذلك فور تكليفي به . إمضاء : نائب رئيس الجمهورية عمر محمود سليمان . مشاهد السقوط ! ذروة الدراما في نهاية دور ' الرئيس ' بالنسبة لمبارك بدأت يوم 12 فبراير 2011 عندما تم نزع واسقاط صور مبارك من جميع المكاتب الرسمية والوزارات في إشارة إلي نهاية الرئيس بأمر الشعب , محطة أخري رصدها الأستاذ صلاح منتصر يوم 3 أغسطس .. فبعدما تعودنا أن يسبق دخول مبارك زعقة التشريفاتي معلنا بفخر : السيد رئيس الجمهورية , فيقف كل من في المكان انتظارا لظهوره ويهللون بالتصفيق , كان محاطا بالمهابة والقوة والسلطة , يأمر فيطاع ويتسابق المسئولون لإعلان أنهم ينفذون توجيهاته , أما في هذا اليوم فقد انكمش داخل القفص لا حول له ولا قوة بعد أن أصبح متهما ينتظر صيحة الحاجب عندما يزعق بكلمة واحدة : محكمة , فيكون مستعدا ليقول لرئيس المحكمة : أفندم , وليس بجانبه سوي علاء وجمال وقد ظلا واقفين في محاولة يائسة لحجب ابيهما عن عدسات التليفزيون والمصورين , ومن الصعود الذي بلغ قمته .. بدأ السقوط الذي انتهي به متهما أمام المحكمة التي دخل قفص اتهامها راقدا علي سرير طبي مما يثير تساؤلا : هل هي حالته الصحية التي جعلته كذلك فعلا .. أم أنها بقية من كبرياء جعلته يتهرب من الوقوف في القفص احتراما للمحكمة .. وهو الذي كان يقف له الكل عند دخوله أي مكان؟ ! كلمة أخيرة ! في النهاية سألت الكاتب الكبير صلاح منتصر : لو قدر لك زيارة مبارك في سجنه لدقيقة واحدة .. ماذا تقول له ؟ ! رد بسرعة : لن أقول له سوي عبارة واحدة : ابدأ دفاعك عن نفسك باعتذار واضح للمصريين عن الشهداء والمصابين والأخطاء .. وبعدها نتكلم !