رواية «رواة الأخبار فى سيرة الحاكم بأمر الله» للكاتب محمد جبريل، تاريخية تناصية، ارتكز فيها الكاتب على وقائع من التاريخ، وشيّدها على شكل منصات بصفتها مرتكزات؛ للتحليق فى عوالم سرديته السير غيرية أحيانًا، والتخييلية أحيانًا أخرى، إضافة إلى إسقاط أحداثها على الواقع المعيش من زوايا متباينة. واشتغل هذا الروائى الجميل على سحر التاريخ؛ إذ نقله بكامل أبهته وعظمته، فجعل عبق العشق فى قصور الخلافة الفاطمية متغلغلًا فى حنايا نصّه، عن طريق وصفه لعلاقات غراميّة أهمّها: كانت بين الطباخ والمربيّة أو الوصيفة خيرات، أو حيننقل وصف الشعراءِ ل (ستَّ الملك) الجميلة والمحبوبة؛ إذ وظّف لغةً شاعريّةً وجدانيّة، ثمّ قدّم مستويات أخرى للّغة منها: الحوارات المتسمة ببساطة العبارة، كما استعار لغة التأريخ لأحداث نصّه المفعم بأخبار نقلها عن الرواة، ولم يوارب فى ذلك؛ فقد عنون روايته؛ بما يدلّ إلى توظيفه ما روى عن الحاكم بأمر الله، ولعلّه حلّق بلغة الوصف لعوالم سحريّة الطابع؛ وأضفى على لغة نصّه تنوّعًا فى التخييل - سردًا ووصفًا وتأريخًا وحوارًا - وخلق توليفةً حكائيّة من داخل القصور الفاطميّة متكاملةً مع سحر قصص العشق الأرستقراطى،وقد نجح فى توظيف السرد التاريخى داخل سياق نصّه؛ فصاغ نصًّا روائيًّا تاريخيًّا متضمنًا تخييلًا روائيًّا وحكايات ساحرة ووصفًا، نصًا حمل روائح الأنوثة المجيدة فى قصر ست الملك، ورائحة دماء الجريمة فى قصر الحاكم. لم يستخدم جبريل شواهد تاريخية مقتبسة عن الرواة على شكل أيقونات، بل استدعى أخبارًا موزّعة - عن حاكمٍ ظالمٍ - فيكتب التاريخ، كما استقى من الذاكرة الجمعيّة العربيّة، حاكمًايتماهى مع استبداده وظلمه وبذخه الحكّام العرب المعاصرون؛ الذين شهد الكاتب على سياساتهم زمن كتابة روايته.. إنّه الحاكم بأمر الله، الخليفة الفاطمى (375 – 411 ه) الذى لا يزال حيًّا فينا ومن حولنا، وقد ذكر فى مستهلّ كلّ مشهد عالجه جملة «قال الرواة» ثمّ أخذ يفصّل أو يعلّق أو يذكر رأيه، إن كان ظاهرًا أو مبطّنًا بين السطور، ولعلّ أسلوبه الحكائى يذكّر بتقنية الحكواتى المرتبطة بالمخيال الشعبى والقصّ؛ الذى يعدّ جزءًا أساسيًّا من الذائقة الشعبية المستمدة من التراث الشعبى، مما مكّنه من منح نصّه الطابع الجمالى المتعلّق بالقارئ اقترانًا بتاريخيّته. منح الكاتب جبريل بنية نصّه أبعادًا سرديًّة حكائيًّة تساوقًا مع سردٍ روائى أقامه على فعل درامى محبوك، وإن كان قد اتكأ على أخبار الرواة التاريخية الواردة فى «اتعاظ الحنفا» و«الخطط» للمقريزى، وفى «النجوم الزاهرة» لابن تغرى بردى، والأنطاكى ودراسات حديثة عالجت حكم الفاطميين بمصر والشام، مثل كتاب الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطميّة لعبدالله عنان، ومحمد كامل حسين وعبد المنعم ماجد والعقاد، وأعمال مسرحية مثلما ورد لدى مسرحية إبراهيم رمزى، وعلى باكثير، ولكنّه اهتمّ بالحاضر – أيضًا – آخذا من القارئ شريكًا مشاركًا فى صياغة النصّ؛ ليمكّنه من إعادة بنائهوفق ما يعيشه حاضرًا. ولعلّ رواية رواة الأخبار فى سيرة الحاكم بأمر الله تندرج ضمن النصوص المعاندة لآفاق توقّع المتلقين؛ تبعًا لموضوعها الذى يحتاج خيالًا خصبًا واستعدادًا معرفيًّا ووعيًّا بالتاريخ الممتد إلى واقع يعيشه القارئ، الذى يضعه نصّ جبريل فى حالة من التفكّر بأحداث عشق ساحر غير اعتيادى، وبشخوص متخيّلة تحتاج إلى تأويل وإعادة بناء؛ لتعينه على رسم ملامح جديدة لحياته المعيشة، وعلى معرفة مصيره وسط عيوب نسقيّة مجتمعيّة ممتدة من عصر الحاكم بأمر الله؛ حتى الزمن الحالى فى مجتمعنا. لدى محمد جبريل محاولات ناجحة؛ لتفعيل التخييل الروائى، ولعلّ تصويره لشخصيتين نسائيتين هما ست الملك، وهى شخصية تاريخية، والأخرى خيرات، وهى من نسج خيال الكاتب مناصيًّا مع محظيات ذكرن تاريخيًّا؛ إذ حوّلها إلى شخصية مثيرة تحمل أبعادًا إنسانيًّة وفاعليّة فى عالم ذكورى فضائحى مستندًا على ظاهرة كتمان الأنوثة وأسرارها وتسويغها، ليظهرها مصدرًا لقوتها ونجاحها، وكادتا تكونا الوحيدتين؛ اللتين لم يستطع الحاكم بأمر الله تقييدهما وفرض سلطانه عليهما، بل نلاحظ انتصار ست الملك عليه فى نهاية الأمر، وبقاء وجهها الآخر الشخصية النسائية الأخرى خيرات على قيد الحياة؛ تلك الجميلة التى ظلّت متمردة على واقعها إلى جانب سيدتها غير مستكينة؛ لجبروت الحاكم وسلطانه، على نقيض الشخصيات الذكورية التى وإن ظهر بعضها فى بداية الرواية متحررةً من سلطان الحاكم كبرجوان الصقلبى والحسن بن عمار، إلّا أنهما سرعان ما هزما أمامه، إضافة إلى هزيمة ابن دوّاس أمام ست الملك فى نهاية الأمر. واستدعى جبريل مشاهد العشق ووصف القصور الفاطمية ودروبها ومواكب الخليفة وأنواع الأطعمة و... التى عالجها باقتدار الروائى المجرّب بغية الكشف عن أبهة مشاهد العشق ومتعات الأنثى التى تجد من يلبّى لها رغباتها؛ فأضفى على سرده تقنيات الرواية السحرية والخيال الخصب. وإذا كان جبريل قد اعتمد على واقعيّة الفانتازيا السحريّة، مثل وصفه لبيئة عشق خيرات وتوق ست الملك للتفوق على ذكورية منقوصة، أو نقله للأجواء السحرية مثل كسوف الشمس حزنًا على موت الدمنهورى لإضفاء روح القداسة تماشيًّا مع المعجزات، أو حلم الشيخ مصابيح المستحوذ على عصا النبى صالح؛ التى تدور باتجاه دوران الشمس؛ لتنكشف له الغيوب عن طريق صلته بالجن، وأيضًا الشيطان الذى يظهر للحاكم على صورة زحل، والأشباح التى تتراقص أمامه وفى الردهات وعلى السلالم، وقدرة الحاكم على معرفة نوايا خصومه ووصفه للمشاهد الدموية البشعة وغير المعقولة، فإنها وبحسب ما كتب عنها حامد أبو أحمد: «هكذا نجد أنفسنا دائمًا أمام رواية من روايات الحكم البشع الفاسد المتسلّط، حيث الحكّام لا رقابة عليهم، ولا شىء يحول دون ارتكابهم لأفظع المظالم، ولا شىء يردعهم عن الحرام، واللصوصية، وتكديس الثروات، فهذا حكم العصور الوسطى الذى ما زال مستمّرًا فى بلادنا إلى الآن» حامد، ص138. وفى متن الرواية نجد عبق التاريخ يفوح عن طريق اتكائها على نصوص تاريخية نقلت صراعات بين قوى سلطوية مثّلتها شخصيات تناقضت مقاصدها، فتعدّدت مستويات لغة خطابها؛ إلى أن استطاع جبريل أن يضفى لغة مغايرة لنمطية رواية التاريخ، لا سيّماحين تخييله السردى، حين اختار شخصيات نسائية قمن بمغامرات عاطفية، فجاءت لغتهن وجدانية، وفاضت بالروح الأنثوية التى أضفت دهشة وبهجة داخل السياق السردى. ولم يشأ جبريل أن ينهى أحداث روايته قبل أن يعلن موقفه من المجوس والباطنية، الذين عطّلوا الشرائع وشتموا الأنبياء، وخرّبوا ودمّروا ملّة الإسلام، وصرفوا الناس عن الإيمان، ولا أظنّ موقف جبريل هذا صادر عن تبرئته للحاكم المحاط ببطانة منتفعة أساءت لحكمه من دون علم منه، وأخيرًا يخبر الروائى الكبير عن موت الحاكم بأمر الله، منهيًّا روايته ب : «هذا ما أخبرنى به رواة الأخبار».