في البدء كانت الكلمة، ثم خلق الله العالم » علي صورته، فكانت الصورة ثم جاء الإنسان ومنح الجملة ،«... الصورة من روحه، فكانت السينما التي تراوغنا حين يكتبها المخرج السوري محمد لمخرج آخر هو » زمن الحياة « ملص في نهاية فيلم الجزائري، المقيم في فرنسا، حميد بن عمرة، إذ بهذه الجملة تتسلل من حيز المراوغة والمناورة، لتكون كشافاً نبصر في نوره، الفكرة الحرة التي يأخذنا بن عمرة نحوها، مداً وجذراً، صعوداً وهبوطاً، لفاً ودوراناً، في طريق الأسئلة الوجودية.. فهل الطريق كله هباء، أم هناك سمو ما؟! لا إجابات قاطعة وإنما هي حالة تستعد لتصبح سؤالاً، كحالة مخرج الفيلم ذاته؛ هذا الفنان المترقب، المشاكس، المعاند، المتمرد، غير المستكين، كلما صادفته في مهرجان سينمائي؛ أجده يتحرك بكاميرا في يده ويفيض في التقاط الصور، كأنه يوثق اللحظة أو بالأحري يصنعها، يركض من مشهد إلي آخر،كما لو كان يحاول اللحاق بأقصي نقطة في خياله، عما قليل أو أكثر سوف يستخدم هذه الصور بالفعل في أفلامه اللاحقة. الصورة إذن، هي هاجسه، شاغله، بشارته، فيلمه الذي يطيل التأمل في العابرين ويغوص في نفوس شخوصه، مستسلماً للتداعي الحر في نص يتوهج بانعتاقه من التقليدي، متفاعلاً مع التجربة بحدس واع بالانفعالات الإنسانية والجدل الداخلي، هذا الجدل الذي يكشف عن روح عنيدة، سواء للشخصيات التي يختارها في أفلامه؛ أو لمخرج يقف بنا عند عتبات السؤال: لماذا يصنع سينما؟ وهل المغاير الذي يصنعه؛ يشكل أثراً سينمائياً ما أو يمنحه حصة في هذه الحياة؟ السؤال علي قدر المغامرة التي لا تتبع بالتأكيد الأشكال الكلاسيكية،فليس هناك حكاية سردية تخوض في مناطق ألفناها وأحببناها، وإنما يتوغل في مساحات ملغزة، غموضها يجعلها غير مضمونة النتائج، لكنها مدهشة، غير متوقعة، لها صدي يملأ فراغ ما، بحيث لا يصبح الغموض مجرد مجاز شكلي أو حتي موضوعي، وإنما سبيلاً للاكتشاف والخلق والتكوين المتعافي من الاعتيادي والدارج. إنه الولع بالتفكيك والتحليل والجدل مع الكون المحيط، إنه لا يرغب ولا يتعب حاله في الوصول إلي إجابات قاطعة؛ كما سبق أن أشرنا، تحسم سجاله، بل يسعي ليكون بارعاً في اللعبة المسلية والوقورة في ذات الوقت، وقارها يتأتي من أهميتها في منح الحياة بعض الدلال والطزاجة، كي يمكن احتمال ثقلها الزاحف إلي النفس والجسد، ومخاوف موروثة أو مستحدثة لا يهم، فهي في كل الأحوال تسد دروب الحالمين في أقاصيها، لذا فما يصنعه حميد بن عمرة يبدو وحشياً في جموحه، طموحاً نافراً يحسم نحو 30 عاماً هي مساره السينمائي المستقل، غير الخاضع لأباطرة السوق أو الفكرة الثابتة، ومن هذه الزاوية جاءت أفلامه تلو بعضها؛ تستكمل إيقاعه التمردي الجامح، أفلام لم تلتزم بشكل محدد، فهذا لا يعنيه ولا يشغله أن يكون معلقاً بين توصيف الوثائقي أو الدرامي، فقط أراد أن يصنع هذه السينما كمافي خياله، مصغياً لموجته الخصوصية التي تعني بالصورة وتشكيلها البارع المتماهي مع الموسيقي والحضور الإنساني الأخاذ لشخصياته الموزعة بينالذاتي والعام، بين الكلمة والصورة ثم السينما؛ زمن « كما أشارت الجملة المكتوبة في نهاية حاسمة بتلقائية حواره المستمر بين واقعه ،» الحياة وخياله، وسؤالنا السابق: لماذا يصنع حميد بن عمرة السينما؟ أظنه يصنعها من هذا التسلسل الطبيعي للإبداع والجمال والقدرة علي الفاعلية في حياة تفيض بالتشوش، فاعلية حرة، مستقلة، ترغب في الانفلات من القولبة والصيغ الجاهزة. زمن « إلي هذه النقطة انتهي فيلم كعلامة خاطفة؛ ينتبه إليها المتابعين ،» الحياة ،» حزام « : لتجربة بن عمرة وأف امه السابقة أو شركائه الذين يلهثون معه ،» هواجس الممثل « وراء فيلم مختلف كما يتشكل في خيالهم، وفي هذا الفيلم نجد ستيفاني بن عمرة، الزوجة والشريكة، المخرج السوري محمد ملص، الناقد الأردني عدنان مدانات، وحتي الأطفال، هم عناوين بارزة لهذا الاختلاف المنجز بشتي الأوجه، كإشارات تضيء الواقع بعد أن تختبره، ناجية من انكساراته وانعطفاته القاسية، أو علي الأقل محاولة أن تصل إلي نقطة نجاة، إلي الكلمة، الصورة التي منحها الإنسان من روحه، فأصبحت السينما، من هنا كانت البداية، الولادة، ولادة الحياة، ثم صارت قوة الظل والخيال، التباس ثنائية الحقيقة والمثال. الفكرة شجاعة، جريئة، مغامرة، ملهمة إلي أقصي درجات الإزعاج، قد يبدو تشبيهاً صادماً، لكنها الحقيقة، فالإلهام هنا ينبع من الغرابة التي لا مرجعية لها، الدهشة التي تقود إلي مسار لا تحكمه المقاييس العامة، مسار لا ينتهي عند أبواب مشرعة علي الطمأنينة، ما يجعله مستفزاً لأنه أولاً غير شائع، وثانياً لأنه لا يملك أية ضمانات للسكينة والهدوء أو للنجاح الجماهيري، لكنه مثير للفرجة ومتابعة ما يمكن أن يؤول إليه شكلاً ومضموناَ، وكذلك مواصلة السؤال: لماذا يصنع هذه السينما؟ هل ليكون الشريك المخالف » حميد « الذي يجيش خياله بالاستحداث والاكتشاف؟ هل ليطفو خفيفاً كأنه لا يحمل شيئاً، بعيداً عن موجات التورط في الحاضر والموجود والجاهز؟ أم لأنه يريد أن يقدم خدوش الروح بطلعات جمالية، غير مرغم علي التخلي عن وعيه الحر؟.. من السهل أن تنشأ الأسئلة، لكن كما اتفقنا منذ البداية لا رهان علي أية إجابة، ومن هذه النقطة الشاملة فيلم لا يُخمد الأسئلة ولا ،» زمن الحياة « فإن يقدم نظرية لقياس أو ابتكار جماليات الصورة السينمائية، لكنه يمشي علي ضفاف خصوصيته حتي نقطة التقاء تتعانق فيها الأسئلة مع الصورة، هذا العناق الذي لا يجعله أجمل الأفلام أو أكثرها إثارة للجدل، وإنما يضعه في مساحة من الصدق كافية لتجعل من القلق والارتباك والوجع سينما لافتة. الصورة في الفيلم هي الحكاية غير المروية بأسلوب تقليدي، انفعال يتناثر علي الشاشة من زوايا مختلفة، محكوم برؤية تفتح أبواب التأويل وترسم أشكالها الهندسية والفنية وتطل بألوانها المتباينة، كما ينبغي للوحة أن تكون، واللوحة هنا شريك لصوت ستيفاني، الراوية، الصوت الذي يلازم السرد البصري، وهي أيضاً شريك للصوت الخارجي للموسيقي المصاحبة، أو الصخب الداخلي والحراك الوجداني الذي يختبيء تحت الجلد،الصورة إذن ليست جزءً من جماليات شكلية ترتكن علي الإبهار، كما أداء الذي يحمل في كل حركة أو إيماءة » ستيفاني « معني، ويترك أثراً يستدعي قدرات هذه الممثلة القوية في مواجهاتها للكاميرا من زوايا مختلفة، هذه المرأة التي تتجلي صوب الكاميرا وأمام المرآة، إنها ممثلة وامرأة حامل في فيلم موضوعه الأساسي هو الحمل والولادة، أي الحياة تتشكل رويداً رويداً، تقرر ستيفاني أن تلد بمفردها في البيت، ويستعرض الفيلم تفاصيلها وانفعالاتها وبطنها الذي يحمل الحياة الجديدة المطوقة بالحب والخوف والترقب، ستيفاني محاطة بشخصيات هي الأخري تحمل جنين أحلامها، الأم تستعد لخروج حياة من رحمها، أما المحيطون يتماهون مع أسئلة الحياة والأمل رغم الحرب التي تجعل الطيور تفر وتختبيء من دوي الانفجارات، ورغم المهاجرين في قوارب الموت بين الضفاف والشواطيء، ورغم اختلافات اللون، شخصيات مثل محمد ملص وعدنان مدانات، درسا السينما في روسيا وعاشا في بلاد طعنتها الحروب، دمشق وبيروت، الفنانة الفرنسية ميك دارها، الراقص الإفريقي برايس بوما، أشخاص حقيقيون، موجودون في حياة حميد وستيفاني، حضورهم في الفيلم يكرس لهواجسهم في الواقع، ويربط فيما بينهم بتطلعهم الموحد نحو أفق الخلاص، كما يرسخ أيضاً لحالة إبداعية استثنائية. الأشخاص حقيقيون والواقع حاضر، لكن الفيلم روائي وليس تسجيلياً، لأن كل العناصر تم توظيفها حسب متطلبات الفكرة، كما يصرح لي المخرج أنا أمشي علي حبل ولا أعرف حتي ما « : ويقول إنه يغامر إذن بكاميرا تلازمه أغلب ،» يوجد تحتي الأوقات، وتوافقه علي صنيعه السينمائي المغاير، الجمال هنا لم يوثق لأن الكاميرا هي مصدره « وليس العكس، كل وجه لؤلؤة فقط لأن الكاميرا هي تصنع الأيقونة وليس العكس، التركيب هو الذي يخلق الأداء و ليس العكس، الكاميرا والنظرة المجهرية الهندسية التركيب هي التي تنحت من الوجه العادي لؤلؤته الباطنية، هذه السينما التي ولو ،» لا يريد أن يعترف بها لا العرب ولا الغرب عدنا إلي سؤالنا الملح: لماذا يصنع حميد السينما؟ زمن « تكون الإجابة ببساطة، ليقدم فيلماً مثل ترويه امرأة لحساسيته الأنثوية كما » الحياة يصفه مخرجه، وفيه الكبار المتعبون يحلمون أكثر، والصغار مثل هناء الابنة تدخل طور الاكتشاف هي الأخري، وليصنع مثل هذه اللحظة التي يقف فيها محمد ملص ممثلاً، يسرد ذكرياته القديمة مع والده ويصف مشهداً من مشاهد النزوح الفلسطيني في العام 1948 بمدينته السورية القنيطرة، ويمر علي محطات كثيرة حتي يصل إلي دمشق وهو يحكي كيف كرس عمره في السينما من أجل استعادة الشارع عندما كان كله حياة، لأن السينما في نظره هي الحياة، ثم استلهاماً لفيلمه 2014 (،يصعد سلّماً ويطلق ( » سلّم إلي دمشق « ،» بدي فيلم « و » حرية « صرخته الممزوجة بين كلمتي بتقطيع ،» مذاق البلح « كما يقرأ نصوصاً من كتابه سينمائي يستعيد فيه ذكريات السينما والحب، إذن يصنع حميد بن عمرة السينما، لأن السينما كما قال ملص هي الحياة.