لا مراء في أن المجتمع المصري سنة 1919 كان في الجملة أكثر تقدماً عما كان عليه في السنوات الماضية فإن انتشار التعليم وتطور الأفكار واتساع المدارك وارتقاء أساليب الحياة والنهضة الأدبية والعلمية والصحفية والنهضة النسوية، كل ذلك قد ساعد علي نمو الروح السياسية وجعل المجتمع أكثر تطلعاً إلي المثل العليا وأشد تبرماً بالنظم الاستعمارية أو الاستبدادية التي ترجع به إلي الوراء وتفقده كرامته الإنسانية وحقوقه الطبيعية. يلزمنا أن ننوه علي الأخص بما كان للأدب والصحافة من فضل كبير في بث الروح الوطنية في نفوس الجيل فإن الأدباء عامة والشعراء بوجه خاص قد ناصروا الحركة الوطنية في عهدها الأول وغذوها بقصائدهم ومقالاتهم وسجلوا حوادثها البارزة وعبروا أصدق تعبير عن آمال هذا الشعب وآلامه وأشادوا بمفاخره وأهابوا به أن ينهض ويستعيد مجده القديم واستصرخوا الإنسانية لتهب لنصرته وتنتصف من الظلم الذي يحيق به وإن كثيراً من روائع الأدب التي جادت بها قرائح الشعراء والادباء كانت معالم للحركة الوطنية وكان الشباب يحفظها عن ظهر قلب فتذكي في نفوسه روح الوطنيه والشجاعة والإخلاص وللصحافة الوطنية الفضل الأكبر في بعث هذه الروح بما كانت تنشر من الدروس والعظات التي تستخلصها من الحوادث الغابرة أو الحوادث اليومية التي كانت تقع في مصر والخارج فأدت واجبها في تثقيف عقول النشء وتفهيمهم الحقائق وتبصيرهم بما يراد للبلاد من خير أو شر وما يرجي لها من نفع أو يبيت لها من ضر. ومن هنا صار المجتمع أكثر استعداداً لقبول الدعوة إلي الجهاد السلمي ثم إلي الثورة ومما لا شك فيه أن هذا المجتمع كان في أواخر سنة 1881 أكثر إدراكا وأقوي شعوراً مما كان عليه منذ عشر سنوات أو عشرين سنة مضت اعتبر ذلك فيها كانت تقابل به دعوة مصطفي كامل سنة 1890 ومحمد فريد وأنصارهما وتلاميذهما علي توالي السنين فقد كانت تلبي في بيئات محدودة ولا يظهر صداها إلا في دائرة ضيقة من الشباب وفريق من المثقفين والأعيان والمزارعين والعمال ولكن غالبية الشعب ومعظم الطبقات المثقفة التي تشغل المناصب الحكومية وكانوا بمنأي عن الحركة الوطنية، أما في سنة 1918 و1919 فقد اتسع مداها وانضمت إليها طبقات كانت من قبل بمعزل عنها كالموظفين والفلاحين وهذا ولا شك راجع إلي التقدم الاجتماعي فإن أحداً لم يكن يتوقع أن يشترك الموظفون في الحركة الوطنية ويساهموا فيها إلي درجة الاحتجاج علي نظام الحكومة ثم الاضراب عن العمل لغرض سياسي. حقا قد يكون الباعث المباشر لانضمام الموظفين إلي حركة سنة 1919 استياءهم من احتكار الانجليز للمناصب الحكومية الكبري وازدياد عددهم وتفاقم امتيازاتهم وسدهم طريق الترقي في وجوه الموظفين المصريين ولكن كل هذا لا يحول دون اعتبار هذه البواعث الشخصية من العوامل التي أذكت الروح الوطنية في نفوس الموظفين ولو إلي حين. كما أن أعيان البلاد كانوا إلا النادر لا يميلون من قبل إلي معارضة الحكومة ومناوأتها بل كان همهم توطيد علاقتهم بالحكومة والحكام والتودد إليهم حرصاً علي مصالحهم ثم جرفهم التيار فانضموا إلي الحركة في سنة 1919 وبعضهم منذ سنة 1921 ومهما قيل من أن انضمامهم إليها لم يخل من قصد الانتفاع الشخصي ورعاية مصالحهم من طريق مسايرة التطور السياسي الجديد فإن انضمامهم إلي الحركة كان علي أي حال مظهرا من مظاهر التقدم الاجتماعي للامة. أما عن طبقة الفلاحين فلم يكن أحد يتوقع أن الفلاح الساذج البعيد بفطرته عن غمار السياسة وعواصفها يندمج فيها إلي درجة الثورة وخلع قضبان السكك الحديدية وقطع المواصلات وبذل الروح فداء للوطن. كل هذا يدلك علي تقدم الأفكار في طبقات الموظفين والأعيان والفلاحين ويدلك علي تقدم المجتمع في شتي نواحيه. وقد ظهرت نتائج التقدم الاجتماعي في كون الثورة قد لزمها شعور من النبل والترفع عن الدنايا فكانت ثورة سياسية بكل معاني الكلمة ولم يشبها التعصب الديني ولا الصراع بين الطبقات بل كان رائدها الوحدة القومية سواء بين المسلمين والاقباط أو بين طبقات المجتمع من أغنياء ومتوسطين وفقراء ولم تنتقض أي طبقة علي الاخري كما جري في كثير من الثورات الدموية في فرنسا أو روسيا أو إسبانيا أو غيرها. وبلغ النضج السياسي والاجتماعي خلال الثورة أن حرص منظمو المظاهرات علي رعاية مصالح الأجانب حتي لا يستهدفوا لعداوتهم فكانوا يدعون دائما إلي عدم التعرض لهم بسوء وكان إذا وقع اعتداء عليهم يبدون شديد الاسف لوقوعه ويأخذون الحيطة لعدم تكراره. ومن مظاهر التقدم الاجتماعي مساهمة النساء في هذه الثورة واشتراكهن بأقلامهن وأفكارهن في إذكاء الروح الوطنية وحثهن الرجال علي التضحية وتأليفهن المظاهرات والجمعيات واللجان للتعبير عن شعورهن والمساهمة في النهضة الوطنية وقد استهدفن أحيانا للعنت والمشقة في سبيل اشتراكهن في الكفاح. وصفوة القول أن التقدم الاجتماعي كان له أثره في ظهور ثورة سنة 1919. توكيل الوفد عمل الوفد علي أن يثبت لهيئته صفة التحدث عن الأمة ورأي أن الوسيلة العملية في ذلك وضع صيغة توكيل يوقعها أعضاء الهيئات النيابية القائمة في ذلك الحين كالجمعية التشريعية ومجالس المديريات والمجالس البلدية وغيرها وأكثر عدد ممكن من ذوي الرأي والاعيان وسائر طبقات الشعب. صيغة التوكيل الأولي وضع الوفد صيغة أولي للتوكيل أذاعها في البلاد وهذا نصها: »نحن الموقعين علي هذا قد أنبنا عنا حضرات سعد زغلول باشا وعلي شعراوي باشا وعبد العزيز فهمي بك ومحمد علي بك وعبد اللطيف المكباتي بك ومحمد محمود باشا وأحمد لطفي السيد بك ولهم أن يضموا إليهم من يختارون في أن يسعوا بالطرق السليمة المشروعة حيثما وجدا للسعي سبيلاً في استقلال مصر تطبيقا لمبادئ الحرية والعدل التي تنشر رايتها دولة بريطانيا العظمي وحلفاؤها ويؤيدرن بموجبها تحرير الشعوب«. جمع التوكيلات طبعت الصيغة الأخيرة للتوكيل وأذيعت بين أعضاء الهيئات النيابية والجماعات المصرية علي اختلاف طبقاتها للتوقيع عليها فأقبل الناس عن طيب خاطر وحماسة يوقعون عليها في مختلف الأوساط وانتشرت من العاصمة إلي الاقاليم فصادفت نفس الحماسة التي قوبلت بها في القاهرة. وإذا كانت وزارة رشدي باشا مؤيدة للوفد فقد أصدرت تعليماتها إلي مديري الأقاليم بعد التعرض لحركة التوقيع علي توكيل الوفد فساعد هذا الموقف علي انتشار الحركة واتساع مداها. تصدي السلطة العسكرية علي أن السلطة العسكرية البريطانية حين رأت أن حركة التوكيلات آخذة في الاتساع في المدن والاقاليم وأنها توشك أن تكون أساساً لحركة عامة للمطالبة بالاستقلال التام أوجست منها خفية وعملت علي إحباطها فأصدر المستر هينز المستشار البريطاني لوزارة الداخلية أوامره مباشرة إلي المديرين بمنع تداول التوكيلات أو التوقيع عليها بكل ما لديهم من قوة فلما علم الوفد بهذه الأوامر كتب سعد باشا إلي حسين رشدي باشا الخطاب الآتي يشكو من هذه الاجراءات ويطلب إليه بلهجة ودية أن يأمر بترك الناس أحراراً في التوقيع علي التوكيلات قال: «حضرة صاحب الدولة رئيس الوزراء ووزير الداخلية أتشرف بأن أرفع لدولتكم ما يلي: لا يخفي علي دولتكم أنه علي أثر فوز مبادئ الحرية والعدل التي جاهدت بريطانيا العظمي وشركاؤها لتحقيقها. ألفت مع جماعة من ثقاب الامة ونوايها وأصحاب الرأي فيها وفدا لينوب عنها في التعبير عن رأيها في مستقبلها تطبيقاً لتلك المبادئ السامية لذلك شرعنا في جمع هذا الرأي بصيغة توكيل خاص فوق ما لكثير منا من النيابة العامة. فاقبل الناس علي إمضاء هذا التوكيل إقبالا عظيماً مع السكينة والهدوء وهذا أقل مظهر نعرفه من مظاهر الاعراب عن رأي الأمة في مصيرها. لكنه قد اتصل بنا أن وزارة الداخلية قد أمرت بالكف عن إمضاء هذه التوكيلات ونظرا إلي أن هذا التصرف يمنع من ظهور الرأي العام في مصر علي حقيقته فيتعطل بذلك أجل مقصد من مقاصد بريطانيا العظمي وشركائها وتحرم الأمة المصرية من الانتفاع بهذا المقصد الجليل ألتمس من دولتكم باسم الحرية والعدل أن تأمروا بترك الناس وحريتهم يتمون عملهم المشروع. وإذا كانت هناك ضرورة قصوي ألجأت الحكومة علي هذا المنع فإني أكون سعيداً لو كتبتم لي بذلك حتي نكون علي بصيرة من أمرنا ونساعد الحكومة بما في وسعنا علي الكف عن إمضاء تلك التوكيلات. «وفي انتظار الرد تفضلوا يادولة الرئيس بقبول شكري سلفاً علي تأييد مبادئ الحرية الشخصية وعظيم احترامي لشخصكم الكريم» «الوكيل المنتخب للجمعية التشريعية ورئيس الوفد المصري 23 نوفمبر- 1918».