وشب مبروك عن الطوق وصار رغم دراسته في الازهر خير عون لابيه. لم أسأل أبي ماذا أفعل، فقد علمني كل شيء بالعمل، لا بالخطب. السبت: قد يهون العمر الا ساعة هكذا قال شوقي وقلت لحظة مراعاة لفارق التوقيت، فقد كانت الساعة في زمان الشاعر متوفرة حيث لا إلهاب بسرعة، ولا سوء بمرور، والشاهد واحد ان العمر كله قد يهون ولكن وقتا ما منه لا يهون، تري لم عز علي الحي ان تهون لحظة او ساعة من عمره، بينما لم يعز عليه ان يهون عمره كله فليذهب كل العمر سدي وهباء، ولتبق هذه اللحظة وما من شك في ان هذه اللحظة قد مضت كما مضي العمر كله الذي منه هذه اللحظة، لكنها مضت واقعا وبقيت خيالا او واقعا جديدا، تسري انهاره امام عين من لم تهن تلك اللحظة عليه، فلا مياهها براكدة، ولا شمسها المتوهجة بغائبة ابدا، تري ما عسي ان تكون هذه اللحظة؟ وبم استحقت تلك القيمة العظيمة؟ والجواب يختلف باختلاف المشرب، والثقافات، فأهل التعبير بالدين صدقوا او كانوا من الكاذبين يرون ان تلك اللحظة التي قد تكون يوما كيوم عرفة هي ما قضوه في طاعة ربهم، في صلاة وتسبيح ولقاء أخ في الله بلا غرض من اغراض الحياة الدنيا، واهل الفن يرون تلك اللحظة هي ما قضوه في ساعة تجل وكشف والهام فرسموا او نحتوا او عزفوا، او نظموا، فأبدعوا، واهل الهوي يرون هذه اللحظة لقاء حبيب او استمتاع به في غياب العزول والوشاة وغياب الرقيب عموما، صفا الجو فكانت مناجاة الروح للروح، واستدعاء كوامن العشق التي حفرت قيمة هذه اللحظة، في سويداء الفؤاد، فمنها سري الدم ومنها كان النبض، فكانت الحياة، واهل المعدة يرون ان تلك اللحظة كانت في وليمة عظيمة، ولقمة شهية يقال فيها لا تعوض ابدا، وصدق من قال: كل يبكي علي ليلاه والجامع بينهم ليلي حروفا دون معني، فلكل ليلي مختلفة عن ليلي أخيه. وتهون الأرض إلا موضعا الأحد: والحق ان تتمة هذا البيت مهمة، وهي : وتهون الارض إلا موضعا، وفي فكري ووجداني بل وفي وجدان كل من ذاق معني الانتماء: وتهون الارض الا وطنا. ووطنا: فعلن، اصلها: فاعلا، ولو وضعت موضع »موضعا» فلا يؤدي ذلك الي كسر البيت، لكن امير الشعراء امير البيان، والمعني ان اصغر شيء وهو وضع الذي قد يكون موضع فنجان صغير في مقابلة الارض الواسعة تهون بوسعها تلك الارض وهذا الموضع الصغير الضئيل لا يهون، وذلك يدل علي قيمته عند من لم يهن عنده، او عليه، ويمكن استثمار هذا المعني تربويا واجتماعيا، اعني ان نربي ابناءنا علي ان يكون في حياتهم وقت تهون القرون ولا يهون، اي لا تكون الحياة كلها سواء حتي لو كان بعضها اغلي من بعض، وهيهات ان يصلوا الي مرادنا هذا الا اذا رأوا منا ذلك اي اذا كنا اسوة لهم، فالحياة في سياق التربية قائمة علي المحاكاة، اكثر منها قائمة علي التلقين، والنفس تميل الي المحاكاة بسهولة ونعومة اكثر مما تميل الي التلقين لان التقليد والمحاكاة بمثابة المشي علي الجادة، والتلقين بمثابة التنقل في الحفر وسط البنيات- اي الطرق المتعرجة المرهقة للسائرين في جوف ليل بلا نجوم- تتخبط بهم الخطا، وتتعثر بهم المراحل ولا دليل ولا رفيق وهؤلاء ان وصلوا فوصولهم عشوائي، وان ماتوا في الطريق فلا لوم الا علي انفسهم، ولكن اين انفسهم التي هي محل لهم وقد ماتوا، انما ينفع اللوم اذا وصلوا متأخرين وسبقهم غيرهم ففاز وحده بما كانوا مشتركين فيه ومتطلعين اليه »اللي سبق اكل النبق»، عندئذ يقتلهم الندم بلا سكين، ويصح ان تطلق عليهم »مساكين»، لكن من المساكين من لا يصعب عليك حاله، لانه فرط حيث حفظ غيره، واهمل حيث اجتهد غيره، ونام في غير اوقات النوم حيث صحا غيره وافاق، فلا تقولن لولدك: احرص علي صلاة الفجر، وهو يراك غير حريص عليها، انما يحرص عليها ولدك حين يكون ذراعه في ذراعك وانت متجه لادائها في المسجد، او قائم تصليها في بيتك وهو عن يمينك او وراءك، اذا كان معه اخوته، ونحن امة غير اكثرها المعاني فهدموا بذلك المباني، فقد صار معظمنا خطباء واعظين لا أئمة فاعلين، فأين نحن من قول الله تعالي: »واجعلنا للمتقين إماما»، وفي الحديث الصحيح يقول النبي صلي الله عليه وسلم: »انما جعل الإمام ليؤتم به»، ولا يؤتم في بناء الامم بخطيب وانما يؤتم بفاعل، ويذكر التاريخ ان عثمان رضي الله عنه حين خطب أول خطبة له فرّ منه الكلام فقال: »الناس في حاجة الي أمير فعال لا الي امير قوال»، وقد كانت مصر ايام الراحل جمال عبدالناصر يجري علي لسانها: »متي سيخطب الرئيس؟»، لانها تتطلع الي خبر سار يسر كتأميم قناة السويس. وحين خطب الرئيس عبدالفتاح السيسي إثر الحادث الأليم الذي راح ضحيته مئات الابرياء علي يد حمقي جهلاء خفف من آلامنا لتوعده لهؤلاء المجرمين الارهابيين، والثأر لشهدائنا الابرار، وهكذا تتطلع النفوس الي الخطب التي تعلو بها الرايات في سماء الانسانية. »وذرفت عيناي الدمع» الإثنين: علي الشاطيء الايسر لترعة قريتنا الرئيسية حقل فتحت عينيّ عليه، وعرفت خطاي اليه، فمن صلب دارنا الي عمق حقلنا عرفت الحياة، لم ينشدني ابي رحمة الله عليه قصيدة في حبه، ولم يحك لي ذكرياته فيه، وانما تعلقت اناملي الصغيرة بطرف جلبابه وهو متجه اليه بعد ركعتي الفجر، عاشقا ليس في حياته معشوق سواه فأدركت معني الحب بدون حروفه وقرأت كل شيء مجسدا امام عيني دون ان افتح صفحته في كتاب، فقد كانت كل الصفحات مفتوحة امامي حجرة ضيقة ملتصقة بحظيرة المواشي كانت اوسع- ومازالت- من الدنيا وما فيها لانها كانت تحوي كل شيء فيها، نومة لمن اراد ان يضطجع، وفوقه نافذة صغيرة تزف اليه نسائم كل الحقول وفيها زجاجة الزيت المباركة التي لا انسي شكلها متربة من الخارج لكن زيتها بالداخل انظف من النظافة وإلي جوارها حبات البصل والثوم والملح والفلفل الاسود وبرطمان الشاي، واخوه برطمان السكر وعلبة الكبريت التي كانت تغنيني عن سؤال الناس عودا من الكبريت وشطاطة، واسفل هذه الحجرة مكان صغير زرع ابي كل شيء فيه النفس تشتهيه وهو علي الترتيب كما رأت عيني: بامية، وفلفل اخضر، وباذنجان، وجرجير، وبصل، وحبات من الطماطم، وبطيخ كان يقال فيه شيطاني، وقد عدلتها الي رباني، فان الشيطان لا ينبت طعاما وكان هذا المكان يسمي »رأس الغيط»، واسفله الزراعات المعتادة من القمح والذرة والبرسيم في الشتاء تزينه اعواد من الفول الحراتي »الاخضر»، وحين كنت اصل مع والدي الي هذا الفدان الذي كان والدي يستأجر فدانا الي جواره اجد انفاس ابي قد هدأت، فعرفت دون ان يشرح لي ان راحته في هذا المكان. ولما قرأ في عيني سؤالا يقول: لماذا يا أبت تحرص كل هذا الحرص علي بقائك في الحقل لا تغادره ابدا؟ فأجابني بقوله دون ان يسمع مني: لعلك تقول يا مبروك لماذا نعتكف علي حقلنا والجواب باختصار انه سر حياتنا وموضع رزق الله لنا، والفلاح الشاطر هو الذي لا يغادر حقله بل يمكث فيه يعالج ضعيف زرعته ويمنع اعتداء عود علي عود، فيرفع المعتدي عن المعتدي عليه، يسنده بطوبة، فيستوي العودان وبالعدل يتجاوران فلا يميل قوي علي ضعيف فإن مال بعد تعديله كان طعمة للجاموسة. وشب مبروك عن الطوق وصار رغم دراسته في الازهر خير عون لابيه. لم أسأل أبي ماذا أفعل، فقد علمني كل شيء بالعمل، لا بالخطب، وحين مات ابي وجدت رغبة عند اخوتي ان يبيعوه، فذرفت عيناي الدمع، ولما وجدت رسالة الدمع في عيني لم تصل، فتحت كيسي واخرجت مدخراتي واشتريته، فكانت وسيلة المال اسرع، وتركته لهم يزرعونه وما بقي لي فيه الا ذكريات تبعث من موات نفسي وتسقي بماء الطهر وجداني. ومنذ حوالي ثلاثة اشهر زرته وبصحبتي اصغر رجالي عطية مبروك، فلم يلتفت الي شيء فيه، ولم يذكره حينما ذكرته به وانا اكتب هذه السطور وسبب واحد هو الذي جعل ولدي ينساه انه لم يرني كما رأيت جده اذهب اليه كل يوم. »وعلي باب الحارة وقفت ملهوفة» الثلاثاء: كنا وسائر الفلاحين نعود الي ديارنا بمواشينا مع غروب الشمس وكان يتحقق فينا قول الله تعالي: »ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون» اي ان جمال المواشي يكون اعلي في الرواح منه في الخروج بها اول النهار، وسر علو الجمال في المواشي عند الرواح انها قد شبعت، وعادت تسر اعين الناظرين، فلا جمال مع الجوع والعطش، ولا حضارة مع التخلف والغباء. ومن النادر ان يتأخر فلاح في عودته بمواشيه بعد المغرب بساعة فالضرورة موجودة في كل زمان ومكان حبل في رقبة الجاموسة قد قطع او ري للزرع لم يكتمل، او جاءت ساعة المخاض لبقرة أبت الا ان تلد في الحقل، ولم تكن في ايدي الفلاحين ولله الحمد موبايلات يتصلون من خلالها بمن ينتظرونهم، واحمد الله علي فقدان تلك النعمة والا لفسد الحرث والزرع والمواشي وتحولت انغام السواقي واصوات الطيور ومناجاة الفقراء ربّ الارض والسماء ان يبارك لهم في زرعتهم وذرياتهم الي موسيقي ورنات ورغي وحكايات. وعرضت لنا ضرورة كهذه فتأخرنا وحين عدنا وجدت امي علي باب الحارة واقفة ملهوفة ليس علي لسانها الا »يا رب استر» فلما رأتنا من بعيد هرعت الينا حافية القدمين من شدة فرحتها بعودتنا وقد تعلمت من هذه السيدة درسا لم اجده الا في صحيح البخاري وهذا الدرس انها كانت لا تسأل عن سبب التأخير لانها مشغولة بفرحة العودة ومن ثم كتبت فيها وانا تلميذ في الصف الرابع الابتدائي مخاطبا أبي: »يا ليلة عدت فيها في المساء، وناديت بعمق ما فيك وقلت: يا بت، أمي ست لكنها كانت تستعذب منك البنت، اين كنت؟ لا، لم تأخرت؟ لا، كل شيء كان فيها، كل معني يحتويها انك الان جئت». وفرحت أمي بعودتنا، ولم تلبث ان جاءت لنا بالعشاء الذي تناولناه علي جوع وانقلبنا بعده كأنا اصحاب الكهف حين ذهبوا في نوم عميق.