اصطحبني الشاويش إلي خارج مكتب المأمور، وفي الطريق انضم إلينا عسكري آخر. كان الجو قارسا في ذروة يناير، وكان الليل قد تقدم وازدادت البرودة. انتبهتُ إلي أننا نعبر بوابات وأبواب عديدة فأحصيتها. كان عددها لايقل عن اثني عشر بابا وبوابة، كان الشاويش يفتح كل منها بمفتاح يدور في القفل عدة مرات، ثم يغلقه خلفه ويدور المفتاح في القفل عدة مرات، علي الرغم من أنه أغلب الظن سيلقي بي في زنزانة ويعود أدراجه. كانت تلك أولي ملاحظاتي التي تدعمت بعد ذلك علي مدي الشهور الخمسة التالية. عشرات الأبواب المغلقة في السجون، يتم فتح كل منها ثم إغلاقه قبل مغادرة المكان. هناك أبواب مغلقة في كل مكان، وهناك أيضا حرص بالغ علي إغلاقها وراء من يغادر. لا أتذكر أننا تبادلنا كلاما أنا ومن اصطحباني. كانت طرقات السجن تبدو غامضة أمامي والضوء يكشف ما أمامك بالكاد، لذلك كنتُ غير قادر علي تبين ما حولي من عنابر أو مبان، حتي وصلنا إلي زنزانة فتحها الشاويش وألقي بي في داخلها. كانت زنزانة متوسطة الحجم 3×6 أمتار ، وكان الضوء قليلا لكنه كاف لأتبين آثار حياة. كان هناك لصق الجدران أبراش وبطاطين وملابس ملقاة وما إلي ذلك. بعد قليل فُتح الباب مرة أخري، وألقي لي الشاويش ببُرش وبطانيتين وأغلق باب الزنزانة خلفه. كانت تلك هي الحبسة الأولي لي، فالأيام التي أمضيتها عام 1972 في معهد أمناء الشرطة بطرة كانت أشبه بمعسكر طلابي، حسبما كتبتُ من قبل في أعقاب فض الاعتصام. كنتُ خائفا بالطبع وأشعر ببرودة الجو في الزنزانة المغلقة، لكنني مع ذلك كنتُ أسمع أصواتا قريبة. أغلب الظن أن عائشة الآن وصلت إلي سجن القناطر، وسوف تواجه ما أواجهه أنا هنا، ولمّا كنتُ واثقا في ثباتها وما أبدته في الطريق من الوادي الجديد وحتي وصولنا إلي طرة من ثبات وتماسك، فعليّ أن أطمئن، ورحتُ أطمئن نفسي فعائشة جدعة خصوصا في المواقف والأحداث الحاسمة، كما أن الحكاية كلها فيما يبدو »لمّة» تقوم بها الداخلية، وهي حكاية اعتدناها منذ بداية السبعينيات، بل وفي يناير بالتحديد، تقوم أجهزة الأمن بتجريدة تلمّ فيها بضع عشرات يمضون عدة شهور في السجون، ثم تستأنف. تلك الأجهزة شهور الحبس الاحتياطي، ولايجد القاضي الذي ينظر في القضية ما يستوجب استمرار الحبس بالطبع، يصدر قراره بالإفراج. وفي غضون ذلك يكون قد تم شحططتك أنت وأهلك. يكون البعض قد هرب، وجري حبس البعض الآخر، وجري انشغال الأهل والمحامين.. اعتدنا إذن منذ أوائل سبعينيات القرن المنصرم ألا تكون هناك جرائم أو دلائل جادة تستدعي إلقاء القبض، بل مجرد وضع أصحاب الأسماء التي تحت يد الداخلية من الطلاب والنقابيين والكتاب والفنانين في تلك الحالة من توقع الاعتقال . تلك الحالة من القلق والانشغال وما يرتبط بها من التوتر وعدم الاطمئنان . لذلك فالأسماء تتكرر هي هي نفسها، وكان من بين الفضائح في القضية 100 حصر أمن دولة عليا الخاصة بأحداث 18 و19 يناير 1977 أن تتضمن كشوف الداخلية أسماء بعض الأشخاص الذين كانوا قد ماتوا بالفعل قبل تاريخ الوقائع المنسوبة لهم، أو سافروا خارج البلاد! هكذا كنتُ أفكر بعد أن وضعت بُرشي في مكان خال واستلقيتُ عليه، ثم سمعت ضجيجا وأصوتا عالية في الخا رج بالقرب من الزنزانة.. أستكمل في الأسبوع المقبل إذا امتد الأجل.