من أجمل ما قرأنا ونحن صغار (وكبارا أيضا) مجموعة حكايات الأديب والشاعر الأيرلندي العبقري وغريب الأطوار، أوسكار وايلد (1854 1900) تلك التي حملت اسم أول وأشهر حكاياتها »الأمير السعيد». لقد انتقيت لحضرتك تلك الحكاية وحكاية أخري من هذه المجموعة، لأسباب ومعانٍ قد تتبينها وتلتقطها بنفسك وقد تكتفي بالمتعة فحسب، وحسبي ذلك هدفا.. فأما »الأمير السعيد» فحكايته أنه عاش حياته كلها بعيدا معزولا عن الناس ولم يسمح لنفسه أبدا أن يعرف ويتعرف علي همومهم وبؤسهم، فلما مات أقيم له تمثال عالٍ انتصب في قلب المدينة، ومن ثم استطاعت روحه التي سكنت هذا التمثال أن تطل مباشرة علي أحوال العباد ورعيته الجوعي الفقراء فهاله ما رأي من أوضاع وحقائق فاته أن يلمسها ويدركها وهو حي يرزق.. ولأنه صار الآن روحا بغير جسد يتحرك استعان بأنثي طائر »السنونو» التي بَنت عشها في التمثال ثم أضحت بالعشرة صديقته الوحيدة، وراح الأمير ينزع قطعا من الجواهر والذهب التي تزين الثوب الفخم المنسدل علي صنمه ويعطيها للسنونو الطيبة التي بدورها تقوم بتوصيلها إلي المحتاجين والمعوذين المحظوظين من شعبه. غير أنه في نهاية الأمر كان لابد للثروة الصغيرة أن تنفد، إذ سرعان ما تعري ثوب التمثال تماما من الحلي الموشي بها ولم تعد لروح الأمير قدرة علي تعويض ما فاته وهو علي قيد الحياة، لكن المأساة تكتمل عندما تشتد وطأة الصقيع علي صديقته السنونو الطيبة بسبب أن اندفاعهما في مساعدة البائسين بالجواهر والذهب أفقد التمثال ظل هذه الأشياء الثمينة التي كان الطائر المسكين يستظل بها ويلتمس الدفء تحتها، وإذ يدرك الأمير خطورة وعبثية محاولة علاج خطايا حياته بعد فوات الأوان، وكيف أن هذه المحاولة لم تنتشل كل رعاياه البائسين من بؤسهم وإنما وصلت لعدد ضئيل منهم فقط، فضلا عن أنها أدت إلي دفع صديقته السنونو المخلصة إلي حافة الهلاك وهي تكابد زمهرير البرد، جاهد عبثا لكي ينقذها فدعاها إلي قبلة حارة من شفتيه لعل وعسي يسري الدفء في أوصالها فتعيش.. لكن السنونو المسكينة بعدما تفعل تسوء حالتها وتستسلم للموت تاركة روح الأمير غارقة في ندم وحزن أبديين. الحكاية الثانية، حكاية »العندليب والوردة» وملخصها أن عندليبا كان ذات يوم سابحا في ملكوته فإذا به يسمع شكوي شاب صغير من أن الفتاة التي يحبها صدته بقسوة وكسرت قلبه وأبت مراقصته لأنه عجز عن أن يأتي لها بوردة حمراء.. يرق قلب العندليب لهذا الفتي المجروح في عواطفه ويطير فورا إلي أقرب بستان باحثا بين شجيرات الورد عن وردة حمراء فلا يجد، وبينما هو يغالب الحيرة تخبره إحدي الشجرات بأنها تستطيع أن تبرعم له زهرة حمراء في غير أوانها شرط أن يمنحها حياته ثمنا لذلك. يجزع العندليب من هذا الثمن الباهظ ويطير هاربا عائدا إلي حيث الشاب الحزين يتوجع ويشكو بمرارة وحسرة وقد سالت دموعه علي خديه، عندئذ ينفطر قلب الطائر الطيب ويقرر أن يدفع روحه ثمنا للوردة الحمراء التي ستسعد الحبيبين وتعيدهما لبعضهما.. وبغير تردد يعود العندليب أدراجه إلي البستان ويندفع نحو الشجرة التي قدمت له العرض الدامي، وفورا يغرس شوكها في قلبه فيتدفق دمه غزيرا علي زهورها مخضبا إياها بلونه الأحمر القاني. بعد ذلك يعثر الشاب بسهولة علي الزهرة التي طلبتها فتاته فيحملها إليها مغمورا بفرح عارم، غير أن الفتاة تعود وتصده ثانية.. لماذا؟ لأن شابا آخر غنيا عوضها عن الوردة بياقوتة حمراء، عندئذ لم يعد للزهرة التي دفع فيها العندليب روحه أية قيمة أمام تلك الجوهرة الثمينة!!