المولد هو عيد شعبي ديني يقام تكريما لأحد الأولياء في مصر، وهو عادة إسلامية تماثل الأعياد والمواسم التي تقام في أوروبا لتكريم بعض القديسين المسيحيين، ورغم أن من الصعوبة القول بأن الموالد قد أصبحت عادة قومية في مصر في مقدم القرن الثالث عشر الميلادي، أو حتي اعتبارها شيئا من ذلك كلية – أو حتي قد اعترف بها رسميا حتي القرن الخامس عشر الميلادي- فإن هذه الموالد في أحوال كثيرة استمرار لأعياد قامت لسنوات بلغت المئات بل وحتي الآلاف قبل النبي، تماما مثل احتفالات مسيحية كثيرة يمكن تتبع أصولها إلي قرون قبل المسيح. ويشكل العيد انقطاعا في سير الحياة تحشد فيه الطاقات بعد تشتت،كما ينوب صخب المشاركة الجماعية عن سكينة العمل الإفرادي.إنه زمن الانعتاق من إلزام العمل المنتظم وإكراهات الوضع البشري،كما إنه زمن الإباحة والإفراط والتبذير، الذي يجري فيه تعليق النظام الكوني تعليقا يرمز إلي عصر الخواء السابق لفترة الخلق الأولي، فيسمح بالتجاوزات والانتهاكات من كل نوع ،تماهيا بكائنات العهد الذهبي الذين كانوا يجهلون التحريم . وما طقوس الموالد –التي يرفضها البعض الآن- إلا دليل علي إرادة التجديد هذه، والتي تجد في الإفراط علاجا للتلف وفي التبذير تكثيرا للثروات وتحريضا للغلال، وفي الهياج تعبيرا عن عافية واعدة بالبحبوحة والازدهار. يقول الجبرتي إن ما شاهده يوم الاحتفال بذكري السيد أحمد البدوي بطنطا يخرج عن التزام الشرع، من عزف ورقص وغناء، لكنه يعلق في الخاتمة قائلا: طالما إن العلماء يُجيزون ذلك فلا ضرر، رغم إبداء تحفظه. ويقوم العيد هنا بصفتهُ الظاهرة الكلية التي يتجلي من خلالها مجد الجماعة واغتباطها بما لديها وانتعاش كيانها، وإذا كان مقدس الاحترام هو الذي يتحكم بسير الحياة الاجتماعية المعتاد، فإن ما يسود في ذروتها هو مقدس الإنتهاك. علي أنه لابد لقوي الإفراط الضرورية هذه، بعد أن تفرغ من تجديد العالم، من أن تُخلي المكان لروح الانضباط ، الذي يلجم الإفراط ويرسي النظام ويحمي نظام العالم، بإنشائه المحظور من جديد. وأول الموالد وأعظمها- بإستثناء مولد النبي- هو مولد سيدي أحمد البدوي (1199-1276م) في مدينة طنطا، ويعتبر مولد سيدي السيد البدوي عند الكثير من المشتغلين بعلم المصريات إحياء لمولد المعبود القديم »شو» إله مدينة سيبنيتوس Sebennytus، التي تقع علي الفرع السبنيتي هو أحد فروع دلتا النيل (فرع البرلس) - ذكره العالم سترابون، وكذلك هيرودوت - والذي جري قرب مدينة طنطا ، ومدينة شو المعروفة الآن باسم (سمنود)، وهذا الفرع تلاشي مع الفرع الثالث للنيل، وربما ظلت بعض الذكريات القديمة حية بسبب مياه الترعة التي أخذت قاع هذا النهر القديم.كما ذكر عنها علماء الحملة الفرنسية لكن لماذا الربط بين الشيخ (البشري) الحديث وهذا المعبود (الإلهي) العتيق وهل يكفي العامل الجغرافي من قرب المكان للجمع بينهما أم أن هناك ما هو أكثر من ذلك؟ إن تحديد ما كان المصريون الأوائل يدركونه لمفهوم الإله ليس بالأمر الهين، وبرغم كل شيء ، فإنه من الملائم إطلاق العنان للتفكير بأن الإله كان في الأصل عديم الشكل غير متبلور إلي حد ما ،ثم أصبح واضحا تدريجيا من خلال علاقته بالعالم،أي بالظواهر الطبيعية- تتجسد عناصر الكون والبيئة في أشكال ملموسة فإنها غالبا ما تأخذ هيئة آدمية- وتحركت فكرة الإله من المستوي المجرد أو ربما المستوي فائق السمو إلي المرحلة المجسمة الملموسة بحيث تمكن البشر من سهولة التعرف عليه،وسواء تم تخيل الإله في صورة إنسانية أكثر من تخيله في صورة طبيعية أو حيوانية فيما بعد،فإنه مازال هناك جدل حول بدايته.وهناك شواهد تصويرية وكتابية تؤكد فكرة دمج العناصر الحيوانية والإنسانية معا.فالعديد من الآلهة في المجتمع المصري المقدس لها أشكال حيوانية ولكنها تقوم أيضا مع ذلك بتصرفات بشرية. وتصف النصوص الدينية والأدبية الآلهة بأن لها الخصال والصفات الإنسانية الأساسية والرئيسية : فهم يفكرون، ويتكلمون، ويأكلون، ويملكون الأحاسيس والمشاعر.بالإضافة إلي كل ذلك ،فإنهم يذهبون إلي المعارك ويسافرون في المراكب. والمعبود شو إله الفضاء(الهواء) الذي يفتق الأرض عن السماء، والإله الذي يملأ ما بين السماء والأرض من فراغ .وخلال فتقه السماء عن الأرض، يقوم بدور مهم في خلق العالم، وهو يمثل في هيئة آدمية وأحيانا، بريشة في شعره، كما يُمثل برأسد أسد. وربما هذا الوصف الجسدي لهذا المعبود يتطابق مع ما عرف عن سيدي أحمد البدوي من ضخامة جسمه وشخصيته الجبارة ،التي تذكر بسلالة »هرقل المصري»بطل الديانة القديمة. وقد وصفه القطب الصوفي عبد الوهاب الشعراني فقال: إنه كان غليظ الساقين، طويل الذراعين ، كبير الوجه، أكحل العينين، قمحي اللون. وكان من حق الإله أن يكون حاضرا في المكان الذي يريده. فبالرغم من ان »شو» إله الهواء يقوم برفع السماء، فإنه يستطيع ان ينطلق من أجل البحث عن العين التي نفيت(عين حتحور)، إن طبيعته نفسها تسمح له بأن يتواجد في كل مكان وان يعرف المكان الذي لجأت إليه الآلهة.إن الجسد الإلهي قابل لأن يشع أجساما ثانوية، متطابقة أو مختلفة عن الجسم الأساسي فهي تتبعه وتكون له بمثابة مساعد.وسواء شوه، او قطع، فإن الجسد الإلهي يعلن عن كلية وجوده وفقا لهواه وفي نفس الوقت يخفي سر طبيعته الحقيقية. وهو نفس الإعتقاد في كرامات السيد أحمد البدوي الذي يُشاهد في أجزاء متفرقة من العالم لما لديه من القدرة علي الطيران . ويظهر الشيخ عامة في زمن الحروب حين يحمي وطيسها وهو علي حصانه البديع يحارب في صف المخلصين.لقد روي العديد من الجنود الذين شاركوا في الحرب التركية- الروسية أنهم شاهدوا البدوي يجتث شأفة الكفار . يقول بعض الصوفية، إن مسألة الأسري تلك ترجع إلي واقعة تاريخية مشهورة، ذلك أن وزارة الأوقاف المصرية قد أرسلت بالسيوف والدروع التي غنمهاالجيش المصري من جيش لويس التاسع، الذي أُسر في دار ابن لقمان بالمنصورة، لتخزن في مخزن المسجد الأحمدي، فكان الدراويش وأتباع الطريقة البدوية يتقلدون هذه الدروع والسيوف في مواكب الأحمدية، ويزعمون للناس أنهم الأسري الذين جاء بهم البدوي من أوروبا، فلما تقدمت الأيام، قالوا إنهم سلائل أولئك الأسري، وكان من الغريب أن تترك الحكومة المصرية هذه الدروع والسيوف التاريخية نهباً للضياع في يد العامة! من الجلي ان البدوي يضطلع بنفس الدور من الموروثات الذي يلعبه مارجرجس الشهيد لدي الاقباط ولا شك أن مناظر القديسين الفرسان في الكنيسة القبطية ،تعد من المناظر الدينية الهامة التي يُحرص عادة علي وجودها علي جدران الكنيسة، ويبدو فيها القديس الفارس وهو علي جواده،يحمل حربة بيده، ويطعن بها أحد الأعداء ،تحت سنابك الخيل، ويمتد له يد بطوق صغير، يرمز إلي استشهاده . وقد ذهب بعض العلماء إلي القول بأن وجود مثل هذه المناظر في الكنيسة إنما يرجع إلي أصول فرعونية قديمة - حيث تظهر مشاهدة العبادة، بجانب مشاهد المعركة والصيد في معابد الدولة القديمة - مثلت انتصار الخير علي الشر ومستمدة أصولها من أسطورة حورس يقهر الشر في هيئة ست، وأن ذلك يمثل استمرارية للتأثير الفرعوني القديم، علي اعتبار أن القديسين والرهبان القائمين علي الأديرة من الرعيل الأول. وإذا كنا قد بحثنا عن القاسم المشترك بين معبود عتيق وقطب جليل ولخصناها في الملامح الجسدية والدور سواء جاء هذا الدور في شكل اسطوري، فالأحري أن نبحث عن القاسم المشترك بين القديس الشهيد والقطب الصوفي- مارجرجس الشهيد والسيد البدوي- وفي البداية جاء الاسم المشترك ! نعم الاسم المشترك فكلمة مار: كلمة سريانية معناها سيد - ربما جاء هنا لقبا وليس اسما كما جاء لقب السيد في اسم أحمد البدوي - وجرجس: هو الاسم الذي اعترف به في فلسطين، وكان لهما نفس الملامح الجسدية فقد كان القديس جرجس حسن الطلعة ممشوق القوام .. مما أهله أن يلتحق بالجيش وكان عمره سبعة عشر عام. كما كان لهما حياة زاهدة في كل شيء حتي الزواج عزفا عنه. ونجد أنهما أقوي من كل إغراء ففي الوقت الذي دبر الإمبراطور بعد سجن مارجرجس أن يحطمه بالإغراء بفتاة لعوب تقتنصه بفتنتها وأنوثتها الطاغية، وخبراتها، وبهذا يفقد مارجرجس عفته، وينهار إيمانه، لم يأتِ الصباح حتي تقدمت الفتاة إلي مارجرجس بدموع تطلب منه أن يتحدث معها عن سرّ طهارته وعفته وارتفاع قلبه إلي السمويات، فأخذ يبشرها بالخلاص ويقدم لها الحياة الإنجيلية الفائقة ..نفس الموقف يتكرر في حياة سيدي أحمد البدوي، عندما كان بقرب الموصل حدث صراع بينه وبين امرأة اسمها فاطمة بنت بري .وبحسب روايات الصوفية، فإن المرأة كانت غنية وجميلة، لكنها مغرمة بإيقاع الرجال في شباك حبها.فحاولت أن تفعل ذلك بالبدوي لكنها لم تستطع، ثم حاولت أن تجره إلي الزواج بها، لكن في نهاية الأمر يروي بعض المتصوفة أنها تابت علي يديه، وعاهدته أن لا تتعرض لأحد بعد ذلك. أضف إلي ما سبق مكانتهما في العالمين المسيحي والإسلامي، ومعجزاتهما التي يتحدث عنها المحدثون في كل مكان قديما وحديثا وخاصة في مساعدة النساء العاقرات اللاتي يردن الإنجاب . وقد وصف إدوارد تودا قنصل اسبانيا في مصر(1886- 1888) مظاهر مولد سيدي أحمد البدوي بدقة بالغة يحسد عليها حيث ذكر أن الخيام في الشوارع كانت تنصب بطريقة متناسقة تتكيء بعضها علي بعض تاركين مساحة مربعة في الوسط تكون كالميدان في وسط كل أربع مجموعات، وكان الزائرون يجتمعون في تلك الساحات بعد العصر لينغمسوا في حلقات الذكر وهي ممارسات دينية عبارة عن رقص وإنشاد علي نغمات الدفوف..كما يصف يوم الثالث عشر وهو آخر أيام الاحتفال الكبير الذي يختتم شعائر المولد بموكب خليفة الإسلام، وهو السلطة الدينية الأعلي للمسلمين في مصر، منطلقا من مسجد العش وحتي مسجد البدوي حتي يصلي علي قبره، ويستغرق موكبه ثلاث ساعات. وجميعهم يلبسون زياً تنكرياً، فالبعض يلبس طرابيش التائبين الطويلة المدببة (القرطاس المعروف بالطرطور)، والبعض الآخر يرتدي أزياء شاذة بألوان عدة، وأحيانا اخري نجد من يرتدي أزياء شفافة إلي حد يخدش الحياء.غير أن الأقنعة الطبيعية لم تغب عن الحفل، فقد رأيت أحدهم يرتدي قناعا عبارة عن بطيخة مفرغه ويغطي جسمه بأوراق الأشجار والفروع الخضراء . وكانت بعض الشخصيات المهمة تسير بين المتنكرين يمتطون الخيل أو يركبون الجمال ويتبعهم عازفون من أهل البلدة وراقصات وفلاحات يرتدين أحجبة سوداء، ورجال كثيرون يحملون علي اكتافهم فئوس الخشب الكبيرة. وكانت جماعة من الراقصين الذين يسيرون خلفهم تجذب الانتباه لغرابة ملابسهم، فعلي خصورهم شدت أحزمة ضيقة وباقي اجسامهم عارية ويزين رؤوسهم عمائم ضخمة تتدلي منها اشياء عديدة كالقرون وثمار اليقطين والباذنجان. ويحمل الشيوخ راكبوا الخيل بيارق مساجدهم وينزلون من حين لآخر عن ركائبهم كي يقبلوا المؤمنين الذين يحضرون العرض باحترام، وبعد ذلك يأتي أصحاب الطرق والجامعات الدينية وهو يرتلون شهادة الإسلام: لا إله إلا الله محمد رسول الله،إلي يوم أن نلقاه. وأخيرا يظهر الخليفة فوق حصانهُ ممسكا بكلتا يديه خوذتهُ المصنوعة من اللبد الرمادي التي يحاول العديد من الحضور عبثا أن يخطفوها منه.ويبدو أنه لو تم تجريده من تلك العمامة فإنه يجب أن يترك منصبه إلي من انتزعها منه، ويتكون حرس الشرف الذي يصاحبهُ من خمسة عشر رجلا تغطيهم الدروع الثقيلة والخوذ الحديدية . ويختتم موكب الحفل كتيبة من الفارسات الجسورات يركبن الخيل ويرتدين زي الرجال، وفي عصر اليوم ذاته تنتهي الاحتفالات ويبدأ جموع الزائرين في التفرق بعد أن قضي أولئك القوم الطيبون ثمانية أيام يصيحون ويلهثون ويتدافعون عبر الشوارع والميادين، ليعودوا إلي بيوتهم منهكين خاوين الوفاض، لكنهم رغم ذلك عادوا مقتنعين بأنهم بحجهم إلي مقام السيد البدوي في طنطا قد فعلوا شيئا يرضي به الله عنهم.