رئيسة القومي للمرأة تهنئ المستشار محمد الشناوي بتوليه رئاسة هيئة النيابة الإدارية    الأنبا ثيئودوسيوس يترأس القداس الإلهي بكنيسة العذراء مريم بفيصل    «القومي لذوي الإعاقة»: تعديلات القانون تشدد عقوبة الاستيلاء على المزايا المقررة للمستفيدين منه    حضور جماهيري بكنيسة العذراء مريم بالمنوفية احتفالا باليوم العاشر للنهضة    سعر الدولار اليوم الأحد 17-8-2025 أمام الجنيه المصري فى منتصف التعاملات    وزيرة التخطيط تناقش تعزيز العلاقات الاقتصادية المشتركة بين مصر وهيئة «جايكا»    مدير عام الطب البيطري سوهاج يناشد المواطنين سرعة تحصين حيواناتهم ضد العترة الجديدة    شئون البيئة بالشرقية: التفتيش على 63 منشآة غذائية وصناعية وتحرير محاضر للمخالفين    محافظ كفر الشيخ يدشن مبادرة لزراعة الأشجار المثمرة ضمن مبادرة 100 مليون شجرة    بكتيريا قاتلة مرتبطة بصابون أطباق تحصد حياة رضيعين فى إيطاليا والسلطات تحقق    إنفانتينو عن واقعة ليفربول وبورنموث: لا مكان للعنصرية في كرة القدم    ارتفاع حصيلة ضحايا الأمطار الموسمية والفيضانات في باكستان إلى 645 قتيلا    المجلس الوطني الفلسطيني: إدخال الخيام في غزة «مؤامرة ومقدمة للتهجير»    ميدو: الزمالك أفضل دفاعياً من الأهلي وبيراميدز    على خطى بالمر.. هل يندم مانشستر سيتي وجوارديولا على رحيل جيمس ماكاتي؟    أزمة الراتب.. سر توقف صفقة انتقال سانشو لصفوف روما    رئيس هيئة قناة السويس يوجه بصرف مليون جنيه دعما عاجلا لنادى الإسماعيلى    مصر تحصد ذهبية التتابع المختلط بختام بطولة العالم للخماسي الحديث تحت 15 عامًا    مصرع وإصابة 7 أشخاص في حادث تصادم بطريق بنها – كفر شكر    الداخلية تكشف ملابسات تداول منشور تضمن مشاجرة بين شخصين خلافا على انتظار سيارتيهما بمطروح    عاجل| قرار وزاري جديد بشأن عدادات المياه المنزلي والتجاري    أمن قنا يكثف جهوده لضبط مطلقي النيران داخل سوق أبودياب    رشا صالح تتسلم منصبها مديرا للمركز القومي للترجمة    الخارجية الروسية تتوقع فوز خالد العناني مرشح مصر في سباق اليونيسكو    انطلاق العرض المسرحي «هاملت» على مسرح 23 يوليو بالمحلة    25 باحثا يتناولون تجربة نادي حافظ الشعرية بالدراسة والتحليل في مؤتمر أدبي بالفيوم    أحمد سعد يغني مع شقيقة عمرو «أخويا» في حفله بمهرجان مراسي «ليالي مراسي»    136 مجلسا فقهيا لمناقشة خطورة سرقة الكهرباء بمطروح    «الرعاية الصحية» تطلق مبادرة NILE وتنجح في أول تغيير لصمام أورطي بالقسطرة بالسويس    «يوم أو 2».. هل الشعور بألم العضلات بعد التمرين دليل على شيء مفرح؟    حزب الجبهة الوطنية: تلقينا أكثر من 170 طلب ترشح لانتخابات مجلس النواب    الأونروا :هناك مليون امرأة وفتاة يواجهن التجويع الجماعي إلى جانب العنف والانتهاكات المستمرة في غزة    وزير التعليم العالي يبحث تعزيز التعاون مع الإمارات ويتابع تنفيذ فرع جامعة الإسكندرية بأبوظبي    موعد آخر موجة حارة في صيف 2025.. الأرصاد تكشف حقيقة بداية الخريف    مهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي يعلن تفاصيل مسابقة "أبو الحسن سلام" للبحث العلمي    مدير تعليم القليوبية يكرم أوائل الدبلومات الفنية على مستوى الجمهورية    المفتي يوضح حكم النية عند الاغتسال من الجنابة    مصرع 3 عناصر إجرامية في تبادل إطلاق نار مع الشرطة بأسيوط    وزير الصناعة والنقل يتفقد معهد التبين للدراسات المعدنية التابع لوزارة الصناعة    930 ألف خدمة طبية بمبادرة 100 يوم صحة في بني سويف    الصحة: 30 مليون خدمة طبية للمواطنين خلال النصف الأول من 2025    مركز تميز إكلينيكي لجراحات القلب.. "السبكي" يطلق مبادرة لاستعادة "العقول المهاجرة"    صحفي فلسطيني: أم أنس الشريف تمر بحالة صحية عصيبة منذ استشهاد ابنها    مرصد الأزهر: تعليم المرأة في الإسلام فريضة شرعية والجماعات المتطرفة تحرمه بقراءات مغلوطة    يسري جبر: الثبات في طريق الله يكون بالحب والمواظبة والاستعانة بالله    إصلاح الإعلام    فتنة إسرائيلية    حظك اليوم وتوقعات الأبراج    "يغنيان".. 5 صور لإمام عاشور ومروان عطية في السيارة    قوات الاحتلال تُضرم النار في منزل غربي جنين    «ميلعبش أساسي».. خالد الغندور يهاجم نجم الزمالك    موعد إجازة المولد النبوي الشريف 2025 بحسب أجندة رئاسة الجمهورية    هيئة الأركان الإيرانية تحذر الولايات المتحدة وإسرائيل: أي مغامرة جديدة ستقابل برد أعنف وأشد    نتنياهو: لا اتفاق مع حماس دون إطلاق الأسرى دفعة واحدة ووقف الحرب بشروطنا    راحة للاعبي الزمالك بعد التعادل مع المقاولون واستئناف التدريبات الاثنين    المصرية للاتصالات تنجح في إنزال الكابل البحري "كورال بريدج" بطابا لأول مرة لربط مصر والأردن.. صور    عيار 21 الآن بعد الانخفاض الجديد.. سعر الذهب اليوم الأحد 17 أغسطس محليًا وعالميًا (تفاصيل)    أخبار 24 ساعة.. إطلاق البرنامج المجانى لتدريب وتأهيل سائقى الشاحنات والأتوبيسات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نحو نظرية نقدية عربية في قراءة الشعر
نشر في أخبار السيارات يوم 14 - 07 - 2018

إذا كان للناقد الكبير الدكتور صلاح فضل فضلٌ كبير أسدي به للثقافة العربية والدرس النقدي العربي بما اضطلع به من دور تأسيسي وأثر إرسائي في تقديمه المناهج النقدية العربية منذ سبعينيات القرن العشرين بدءًا من كتابيه البارزين: كتاب منهج الواقعية في الإبداع الأدبي (1978) الذي كان فضل في هذا الكتاب أول من يقدِّم لنا دروس النقد الثقافي والنقد الماركسي، وأول من يُعَرِّفنا بالواقعية السحرية وبجابريل جارثا ماركيز قبل ترجمته إلي العربية وقبل فوزه بنوبل في (1982)، والكتاب الآخر نظرية البنائية في النقد الأدبي الذي كان أحد أهم الكتب التي مهدت الطريق لدخول النقد البنيوي إلي ثقافتنا العربية، مرورًا بكتابين آخرين كانا علامتين بارزتين في الدرس النقدي العربي هما »علم الأسلوب: مبادئه وإجراءاته»‬ (1984)، وبلاغة الخطاب وعلم النص (1992) اللذين قدم فيهما للأسلوبية وعلم النص- فإنّ لصلاح فضل أثرًا بالغ الأهمية في نقد الشعر تطبيقًا بتقديم قراءات واسعة وممتدة لتجارب عدد كبير من الشعراء وتنظيرًا بما قدمه في كتاب »‬أساليب الشعرية المعاصرة»، ليقدِّم فضل في هذا الكتاب طرحًا تنظيريًّا حول أساليب الشعرية ومداراتها وما شيده من مدرج تصنيفي ل »‬سلم» الدرجات الشعرية، وكذلك تصنيفه للأساليب الشعرية وتوزيعه لها بين الأسلوب الحسي والحيوي والدرامي والرؤيوي، ومع قيام صلاح فضل بالتحديد التصنيفي لهذه الأساليب معتمدًا علي سلم الدرجات الشعرية في تحديد انتماء التجارب الشعرية المختلفة والمتنوعة لأي من هذه الأساليب فإنّه يؤمن- في الوقت نفسه- بالانفتاح الأجناسي والتمدد النوعي، تلك الفكرة التي كان فضل طرحها في كتابه بلاغة الخطاب وعلم النص القائلة بعبر نوعية النوع الجمالي، إضافةً لمقاربات تطبيقية تراوح في تجارب العديد من الشعراء العرب الكبار ومن أجيال مختلفة كأدونيس ونزار قباني والسياب ومحمود درويش وسعدي يوسف والماغوط وغيرهم، تنقلاً بين مدارس متنوعة وأساليب شعرية مختلفة من الشعر الموزون التفعيلي أو العمودي إلي قصيدة النثر.
سيميولوجية التعبيرات الشعرية
يكشف العنوان »‬أساليب الشعرية المعاصرة» ببنيته الثلاثية وما يعتمل فيها من كميائية تفاعلية عن استراتيجية الرؤية النقدية في تعاطيها مع مادتها البحثية بلورةً لنظريتها وتأسيسًا لجهازها المفاهيمي؛ ف»‬أساليب» بتركيبها الجمعي تؤكد علي الوعي النقدي بتمايز »‬التعبيرات» الشعرية وطرائق الأداء الجمالية، وهي تختلف عن مفهوم »‬الأسلوب» الذي هو مجال الدراسة الأسلوبية، إذ يجنح الأسلوب كمفهوم أكثر نحو دراسة بني التعبير اللغوية رصدًا للعلائق بين تركيباتها النحوية وإنتاجيتها الجمالية، فمفهومية الأساليب كتعبيرات أوسع من مفهوم الأسلوب كبنية تركيبية وأداء لغوي إلي مفهوم الأسلوب كتعبير ميتالغوي يتجاوز مفهوم اللغة بنحويتها ليوسعها- باعتبار الأساليب تعبيرات- كمنظومة علاماتية، فيقول صلاح فضل:
»‬والتعبيرات- حسب وصفهم [علماء المعرفة]- مظاهر فيزيقية نستقبلها بواسطة الحواس. فنحن نري الكلمة المكتوبة، تمامًا مثلما نري العلامات المميزة علي أنواع الزهور، ونحن نسمع الكلمات مثلما نسمع صوت الرعد. لكن الكلمات، بعكس تلك المظاهر الأخري، لها طبيعة مزدوجة. فهي تحيلنا علي ما هو كائن وراءها. وهي تجسد لنا المعاني التي يمكن فهمها أو يتعذر إدراكها» (ص ص 18- 19).
مما سبق يتمرأي لنا تجاوزية الإدراك النقدي- لدي صلاح فضل- للمفهوم التقليدي للغة كنسق تجريدي من رموز أو كلمات تمثِّل بنية من المفاهيم concepts في الذهن وتصوراته يقابلها مدلولاتها أو أشياؤها في الواقع المادي الملموس، إلي »‬مادية اللغة» فيما يتمظهر من فيزيقية التعبيرات التي تُعمِل معها الحواس في عمليات الاستقبال والتلقي التي تُمثِّل آليات التأويل وأدواته فكًا للشفرات النصية المشحونة تلك التعبيرات بها. كذا يناظر التَمثُّل النقدي لصلاح فضل بين الكلمة المكتوبة والعلامة (العلامات) وهو ما يتجاوز كتابية اللغة وخطيتها إلي علاماتية الكتابة، وهو ما يتأكد مما أشار إليه فضل من الطبيعة المزدجة للكلمات، وهو ما يعني تجاوز لغويتها النحوية ومعناها الأول إلي ميتالغويتها وسيميولوجيتها، ومما يتبدي من وعي صلاح فضل بأهمية العنصر الصوتي باعتباره تمظهرًا مورفولجيًّا للكلمة بوصفها »‬علامة» مواكبة فضل الحداثية العميقة لمقولات فلسفة التفكيك التي قامت علي خلخلة التمركز اللوجسي للكلمة وإقامة التوازن بين الكلمة باعتبارها خطًا وكتابة والكلمة بوصفها صوتًا. فيقول فضل:
»‬ويطلق علي التنظيم الدقيق للكلمات عندما تندرج في تعبيرات تيسر مهمة الإحالة المزدوجة علي مصطلح اللغة. فاللغة نسق اصطلاحي للتعبير، ومن ثم فإنه يتعين تصنيف التعبيرات إلي طبيعية واصطلاحية، لاعتبار كل ما هو اصطلاحي لغة تصلح موضوعًا للدارس الإنساني. من هنا يتراءي لنا أن منطلق دراسة الأبنية الشعرية، باعتبارها لغة ثانية، لا بد أن يتأسس من منظور التعبير، لكنه لا يقع في منطقة التشفير ذاتها، وهي ميدان علم نفس الإبداع، ينحو إلي الارتباط بفكرة التوصيل المتعلقة بالقراءة، وهي متزامنة مع التوصيل اللغوي الطبيعي ومجاوزة له بشفرتها الجمالية». (ص 19).
يتبدي لنا- هنا- إبراز صلاح فضل لفكرة النسق الذي هو عملية تنظيم دقيق للكلمات أي فعل نحوي تركيبي مع فكرة الاصطلاحية التي تراعي مبدأ خصوصية النسق وسياقية التركيب، وهو ما يبرز كون الأبنية الشعرية لغة ثانية، أي لغة تتعالي علي اللغة بأجروميتها وهو ما يؤسس لشراكة هرمينوطيقية معتمدة علي دور القراءة وفعل التلقي في إدراك سيميولوجية التعبيرات الشعرية، وكما هو بادٍ فثمة وعي لدي فضل بفكرتي التزامن والتجاوز، تزامن الأبنية الشعرية لفعل التوصيل اللغوي الطبيعي الذي هو أداتها المادية المباشرة وتجاوزية تلك الأبنية الشعرية بشفرتها الجمالية للتوصيل اللغوي الطبيعي، وهو ما يؤسس للغة ثانية التي تبدو في هذه الحالة لغة مفتوحة ومتمددة البني بانفتاح المجاز واتساع الفاعلية التخييلية ما يؤدي إلي تعويم النص الشعري/ الأثر الذي يمسي كدال/ أثر قيدًا لاختلاف مرجأ لمدلولاته.
أما ثاني مكونات عنوان الكتاب »‬الشعرية» التي أراها تختلف- هنا- عن الشعرية بمعني الأدبية أو الجمالية التي تعني كون الأثر/ النص فنًّا جماليًّا، إذ تعني الشعرية- هنا- الإنتاجية الفنية للنص/ الأثر ما يجعل منه شعرًا، وهو ما يتفاعل مع مضافه »‬أساليب»، وكأنّ سمة الشعرية وخصيصتها البارزة إنما تنوعها الأساليبي وتعددها التعبيراتي.
ويأتي ثالث مكونات العنوان »‬المعاصرة» ليس ليحدد فقط المجال الزمني للعينة المبحوثة والنماذج المدروسة التي جاءت في النصف الثاني من القرن العشرين- بل ليبرز أيضًا تحولات الشعرية وتغير تأثيرات البني المساهمة في تشكيلها، فقد تزايد الفعل وتنامي الدور الذي تلعبه أبنية تكوينية في النسيج الشعري كدرجة الكثافة ودرجة التشتت ودرجة التجريد لترتفع أسهمها في الشراكة الإنتاجية للبناء الشعري مع البنية الإيقاعية والبنية النحوية اللتين كانتا أكثر استحوازًا علي النصيب الأكبر من أسهم الشعرية، وهو ما يبرز تغير مفهوم الشعر نفسه مع تطوُّر الزمن الذي يتمرأي في تطوُّر إسهامات البني التعبيرية في تشكيل اللوحة الشعرية.
سلم الدرجات الشعرية
في مسعاه لتشكيل جهاز مفاهيمي قابل لاستيعاب الأساليب الشعرية وتنظيم تعبيراتها وتعيين أبنيتها يؤسس صلاح فضل سلمًا للدرجات الشعرية خماسي الوحدات، بادئًا بالبنية الإيقاعية التي يعتبرها جريماس »‬أجرومية التعبير الشعري» فيبرز صلاح فضل مستويين للإيقاع مؤكدًا أنَّ:
»‬درجات الإيقاع تشمل المستوي الصوتي الخارجي، المتمثل في الأوزان العروضية بأنماطها المألوفة والمستحدثة. ومدي انتشار القوافي ونظام تبادلها ومسافاتها، وتوزيع الحزم الصوتية ودرجات تموجها وعلاقاتها، كما تشمل ما يسمي عادة بالإيقاع الداخلي المرتبط بالنظام الهارموني الكامل للنص الشعري.... وإذا كانت »‬ثورة الإيقاع» التي شهدها الشعر العربي المعاصر قد انتقلت بالمظهر الصوتي الخارجي للشعر من مجرد عرف محتوم مقولب، إلي بنية محفزة وسببية، تتشكل من جديد في كل مرة، عبر مستويات متدرجة، تبدأ من القصيدة العمودية التي تظل قطبًا موسومًا، إلي قصيدة النثر التي تمثل غاية الانحراف عن النموذج الأول، فإن توظيف هذا المدي الإيقاعي العريض يظل ملمحًا فارقًا وجوهريًّا يميز بين الأساليب الشعرية ويحدد درجة قربها أو بعدها من الغنائية التي تكاد تتمركز عند القطب الأول» (ص27- 28).
يبرز فضل مستويين للإيقاع أولها الصوتي الخارجي كالأوزان والقوافي مع بيان التطور الذي أصاب الشعر العربي بتلك الثورة الإيقاعية مع التحوُّل من القالب العمودي الآلي الوزن والثابت التقفية مع استحالة هذا المظهر الصوتي إلي بنية، في المقابل فإنّ التفات صلاح فضل للمظهر الصوتي كبنية يعكس ثورة أو تطورًا في النقد يواكب حركة الإبداع وثورة الشعر، استخدامًا لمفاهيم ومصطلحات علمية كالبنية، وهو ما يكشف عن العلل الكامنة وراء التشكيل المادي الظاهر للنص الجمالي، ومفهوم البنية يعني »‬نظامًا» خاصًا له قوانينه الذاتية وله بروزه الذي يمكن معه إخضاع تلك البنية وأية بنية للملاحظة والقياس إذ تتمتع البنية باستقلاليتها باعتبارها نظامًا له اكتفاؤه وآلية عمله، في الحين الذي تتفاعل فيه تلك البنية مع غيرها من بني النص وتؤثر- بالتالي- في النظام الكلي للنص وتسهم في نسج شبكة دواله، كما تعمل البنية الإيقاعية سواء ببذخ تمظهراتها وكثافة عناصرها أو اقتصادها علي تحديد نوع الأسلوب الشعري ومدي اقترابه أو بعده عن الغنائية.
وفي اتجاه موازٍ لا يغفل فضل مظهرين آخرين للانحراف التعبيري عن ذلك الأسلوب الغنائي أولهما ببيان مظهر آخر للإيقاع وهو »‬الإيقاع الداخلي المرتبط بالنظام الهارموني الكامل للنص الشعري» وهو الجانب الذي كان يغفله النقد الكلاسيكي والتوجه البلاغي المدرسي المحافظ في النقد الذي يحتاج لبصيرة نقدية ثاقبة وحس تشريحي قادر علي اجتراح أغوار النص واستكناه خلاياه الداخلية، وثانيهما هو التخلي التام عن الإيقاع الصوتي الخارجي فيما يُعرف بقصيدة النثر التي مثّلت شكلاً فنيًّا للمعاصرة الجمالية بالتخلي عن التمظهرات المادية للإيقاع الشعري في سبيل الصور والأفكار.
أما ثاني البني التي يضعها فضل في سلم الشعرية فهي الدرجة النحوية التي يذهب بأنّها: »‬مصطلح توليدي اقترحه أولاً »‬تشومسكي» كطريقة منظمة لتحديد نوعية الانحراف اللغوي عبر مقولات شكلية مضبوطة إذ يقول: »‬إنّ النحو المناسب وصفيًّا ينبغي أن يقوم بتشغيل كل تلك الفوارق علي أسس شكلية.. أن يميز بين الجمل المكونة بطريقة سليمة تمامًا وبين تلك التي لم تتولد من نظام القواعد النحوية، بالإضافة إلي فصله بين الجمل المتولدة بمخالفة المقولات الفرعية من تلك التي تنشأ بالانحراف عن قواعد الاختيار.. ويبدو أن الجمل التي تكسر قواعد الاختيار المتعلقة بخصائص المعجم علي »‬مستوي أعلي» أقل قابلية للتقبل، وأصعب درجة في التأويل من تلك التي تتعلق »‬بالمستوي الأدني»» (ص29).
يبرز صلاح فضل أنّ من سمات الشعرية وتعبيراتها هذا الانحراف اللغوي والخرق النحوي، وإن كان لتجاوزية الشعر للغة جذور في البلاغة والنقد القديمين فيما عرف بالضرورة الشعرية التي كانت تبيح للشاعر خرقًا لقواعد النحو، ولكنّ تلك الضرورة الشعرية كانت تتمثّل في خرق محدود في مكوِّن فردي من مكونات التركيب، فإنّ هذا الانحراف النحوي الذي مارسته الشعرية المعاصرة يبدو أوسع مدي وأكثر تعقيدًا مما أتاحته الضرورة الشعرية، وإن كان للخرق المعجمي تفضيل أكبر في الانحراف النحوي تأسيسًّا للشعرية. ولنا أن نشير في هذا الصدد إلي أنّ الجهود اللاحقة في هذا الشأن قد نظرت إلي هذا الانحراف التعبيري في الدرجة النحوية في أساليب الشعرية إلي كونه ليس خرقًا لقواعد اللغة بقدر ما هو استعمال لما سماه جان جاك لوسركل في كتابه عنف اللغة (1990) ب»‬المتبقي» الذي يراه لوسركل »‬يروغ من قواعد النحو، ويتفلّت من قوانين الألسنية التي درسها وصاغها فرديناند دوسوسير. وهذا الجانب هو الذي يرتع فيه المبدعون والشعراء والصوفيون والمهووسون ومن شابههم، ومع أنّ الممارسات في هذا الجانب لا تسير بحسب قواعد النحو، إلا أنّها، كما يؤكِّد لوسركل، تُغْني اللغة وترفدها ولا تنقض عراها»، فالمتبقي هو الوحشي المهجور من اللغة. ف »‬لئن كانت، علي حد قول جوديث ميلنر، صياغة قاعدة نحوية هي عملية، فإنّ وصف المتبقي هو نفي لهذا النفي- هو عملية تسير عكس الممارسة العملية، وهو التعامل، علي طريقة كوربيه، مع ما هو استثنائي وغير ذي علاقة، والمخالف لقوانين النحو»، لذا فالمتبقي هو توسيع دائرة النحو بالخروج علي دوجماطقية التقعيد.
وينتقل فضل لثالث البني التي ينشئها في سلم الشعرية وهي »‬درجة الكثافة» التي يقول عنها:
»‬هي ذات خاصية توزيعية بارزة، وهذا يجعلها قابلة للقياس الكمي والنوعي، وتتصل أساسًا في تقديرنا بمعيار الوحدة والتعدد في الصوت والصورة، وهذا يجعلها ترتبط بحركة الفواعل ونسبة المجاز وعمليات الحذف في النص الشعري. كما أنها تتجلي في مظاهر تتعلق بالفضاء غير اللغوي للنص وطريقة توزيعه. ويربط »‬جريماس» بشكل واضح بين درجة الكثافة الشعرية وعدد العلاقات البنيوية في النص». (ص ص30- 31).
كما يبدو فإنّ لغة صلاح فضل النقدية في خطابه النقدي التنظيري تبدو مراعية اللغة العلمية وتسعي في تمظهرها الإجرائي إلي استيفاء خطوات منهجية علمية مثلما يبرز في مصطلحات كالقياس الذي هو سمة المنهج العلمي التجريبي، ومراعاة شقي القياس الكمي والنوعي يتوازي كذلك مع العلمية التي تتحرك من الكمي إلي الكيفي.
كذا يبدو فضل منتبهًا إلي ضرورة تتبع عمليات الحذف في النص الشعري واضعًا في الاعتبار كتابة المحو والنص الغائب الذي يظلل النص الشعري المدروس، كما يعمل فضل علي استثمار نظرية الفواعل التي أسسها جريماس في تحليل النص السردي- في تحليل النص الشعري وهو ما يكشف عن حداثوية وعي فضل وتقدمية فكره النقدي وإدراكه بأنّ النص الشعري هو تمظهر من تمظهرات السرديات ونوع منها، كذا يبرز فضل أهمية معاينة التحليل النقدي الفضاء غير اللغوي للنص في تجاوز للنقد الكلاسيكي المؤسس علي البلاغة القديمة ذلك الذي كان يقوم علي الاقتصار علي تحليل لغوي للنص الشعري.
أما البنية الرابعة التي يؤسس لها صلاح فضل في سلم الدرجات الشعرية فهي درجة »‬التشتت» أو التماسك في النص الشعري، فيذهب إلي أننا بالوصول إلي تلك الدرجة:
»‬كنا حيال مظهره الكلي العام الذي تفضي إليه المستويات السابقة. وهو أكثر العناصر التحامًا بالخواص الجمالية الشاملة للنص، ويرتبط بدوره بالمستويات السطحية والعميقة لهٍ، حيث تقوم العلاقات النحوية والدلالية، ومدي ما يتمثل فيها من ترابط أو تفكك بدور هام في إنتاج درجة التشتت» (ص32-ص33).
يبدو صلاح فضل أنّه يؤسس سلمه النقدي في تحليل الشعر تأسيسًا علِّيًّا، كذا فهو يوظِّف مبادئ التحليل الألسنية في قراءة النص الشعري باستجلاء علاقات معالم النص بمستوياته السطحية والعميقة.
أما آخر درجات السلم الشعري لدي فضل، فهي درجة »‬الحسية أو التجريد» تلك الدرجة التي تكشف مدي ارتباط النص بدرجات النحوية والإيقاعية أو اقتصاده وتخففه منها، وبالطبع مع تعمق الوعي الجمالي في الحداثة وما بعدها يبتعد النص الشعري عن الحسية ليدنو أكثر من التجريد كتمظهر بادٍ ودال علي تعقُّد الخطاب الشعري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.