تكريم من محافظ سوهاج في قرانا الرازحة تحت صهد الجنوب، وثقل الأصول والقيم والعادات، يطلقون تعبير »شيخ العرب» علي كل رجل يتحلي بمجموعة من الصفات، تجعل منه مقصدا لمن حوله. فهو يحترم في قداسة مجموعة القيم والعادات والتقاليد التي توقرها الجماعة الشعبية حتي وإن خالفتها أحيانا.. وهو رجل حلو اللسان، لا يفجر في قول ولا سلوك، يبذل ما في يده عن طيب خاطر لمن يظن أنه يحتاج إليه، مبديا التواضع لكل صغير، مقدرا لقدر كل كبير، يحرص أن يكون أمام الناس في أبهي صوره وأفخر ملابسه.. هكذا يجب أن يكون شيخ العرب.. وهكذا عرفت الشاعر المحتفي به جميل عبد الرحمن.. لهذا كنت وما زلت أناديه يا عم جميل.. رغم أنه يصغرني بعام كامل. والعجيب أننا عشنا ظروفا متشابهة، كنت كلما اكتشفت ظرفا منها ازددت اقترابا منه. فكلانا أحب الشعر، وأحب الشعراء. لم يمتهن الشعر، ولم يهنه، وإن كان جميل بحكم كونه »شيخ عرب الشعراء».. استخدم قدرته الفائقة علي النظم في مجاملة بعض من استحق من وجهة نظره المجاملة.. بينما استعصي علي مدح غير الراحلين أو المصابين. فستجد لجميل عبد الرحمن قصائد في أشخاص قد نختلف في تقديرنا لهم.. لكنه رأي في تقريظهم واجبا يمليه عليه موقع شيخ العرب. كلانا نشأ يتيما.. ولا يعرف اليتم إلا من عاشه وكابده.. لهذا كان جميل عبد الرحمن في كل قصائده جمرة من الشجن الذي شحنت به وجدانه سنوات اليتم. ويرتبط بهذا الظرف أمر آخر.. هو الارتباط بالأم. فالأم الصعيدية حين يرحل زوجها، تتخلي عن كل ما هو انثوي فيها، وتتحمل ما لا تتحمله امرأة في سبيل تنشئة أولادها وتربيتهم. وهذا يفسر ما تقوله العدودة لأم اليتيم : وقد تجلدت أم جميل كما تجلدت أم درويش حتي كبر الأولاد، لهذا قد لا يستسيغ البعض ذلك التقدير الذي يصل إلي حد التقديس لأم جميل عند جميل عبد الرحمن. والمدهش أننا أنا وأخي جميل من الحاصلين علي مؤهل تجاري.. أي أن معارفنا اللغوية حصلناها بأنفسنا، ولم نتعلمها علي يد معلم، ومن يتعامل مع جميل عبد الرحمن يظنه من الدراعمة أو الأزاهرة، فهو من الشعراء أصحاب الحرص البالغ علي تحري صحة الجملة، ونصاعة العبارة، ودقة نحت المفردة. وقد قادنا تخصصنا إلي العمل في القطاع المصرفي.. فكما كانت أولي »وظائفي» العمل في بنك التسليف الزراعي بالبداري بأسيوط، عمل جميل عبد الرحمن في بنك التسليف الزراعي بسوهاج طوال حياته الوظيفية، بينما غامرت أنا بالعمل في مجال آخر بعد سنوات. وأظن أننا لم يكن لقاؤنا الأول في أمسية شعرية، بل أظنه كان في مؤتمر من مؤتمرات منظمة الشباب الإشتراكي، الذي دفعنا إلي الانخراط فيها محبتنا لما لمسناه في الفكرة الناصرية من عدالة إجتماعية. وأظنه مثلي ظل وفيا حتي الآن لهذا التوجه الفكري. بعدها التقينا في العديد من الفعاليات الثقافية وربما كان أول اللقاءات الشعرية التي جمعتني مع »شيخ عرب الشعراء» جميل عبد الرحمن.. تلك الأمسية التي جمعت بين شعراء من أسيوط وشعراء من سوهاج في قصر ثقافة أسيوط في نهاية عقد السبعينيات من القرن العشرين، والتي عرفت فيها قامة أخري من القامات الشعرية في الإقليم: الشاعر الكبير »فولاذ عبدالله الأنور».. فرع الدوحة الشعرية المعطاءة، دوحة الشاعر »عبدالله الأنور فواز». وأظنني لم أدخل بيتا من بيوت أصدقائي المدعين في مصر علي قلة ما دخلت قبل أن أدخل بيت جميل عبد الرحمن. فشيوخ العربان لا يستضيفون ضيوفهم علي المقاهي.. بل في بيوتهم.. وهذا ما حرص جميل عبدالرحمن علي فعله دائما. وظل جميل عبد الرحمن سابقا لي ولجيلنا كله، في كثير من المجالات.. فكان أوسعنا نشرا، وأكثرنا حرصا علي التواجد حيث حل ركب الشعر، حتي بعد تجاوزنا السبعينيات..!! ولم يكن غريبا أن يسبقني والجيل كله إلي الحصول علي جائزة الدولة التشجيعية في الشعر.. بعد أن سبقني في إصدار العديد من الدواوين الشعرية. ونال تقريظ العديد من النقاد. ظل جميل عبد الرحمن مخلصا في إبداعه الشعري لقالب القصيدة الشعرية العربية الغنائية، بينما استقطبتني فنون إبداعية أخري. وحتي حين كتب قصيدة التفعيلة لم يتخل عن ملامح قصيدته الشعرية الرصينة، التي تتحري جودة السبك وسلامة التركيب، حتي وإن ضحي في سبيل ذلك ببعض متطلبات الحداثة التي يراها البعض. لم يكن جميل عبد الرحمن من الشعراء المقاتلين، لهذا لم يكتسب الكثير من العداوات التي اكتسبناها لأسباب لا علاقة لها بالإبداع،لكنه كان واحدا من صناع الحركة الثقافية في صعيد مصر، قدم العديد من الأصوات المبدعة إلي الساحة الثقافية، ورعاها رعاية شيخ العرب لأبناء قبيلته، متحمسا لهم دائما، منتصرا لهم ظالمين ومظلومين. أسأل الله أن يديم عطاء صديقي الشاعر الكبير جميل عبد الرحمن، شيخ عرب شعراء الصعيد وصاحب القلب الطيب، المحب ولا حرمنا مودته.