منذ سنوات تزيد علي ثماني سنوات، وأنا أقود سيارتي في طريقي إلي قرية تونس إحدي قري محافظة الفيوم مع صديقي القاص والروائي يوسف أبو رية وزوجته الطبيبة فريدة لقضاء يوم في ضيافة المترجم الإنجليزي دينيس ديفز جونسون وزوجته الفنانة المصورة الإيطالية التي تجيد العربية باولا كروكيان، رحنا نتحدث بحب طوال رحلتنا، التي طالت مايزيد عن ساعتين ونصف، عن ثراء حياة دينيس جونسون، ومدي تأثيرها علي الأدب العربي، ليس باعتباره أول مترجم للأدب العربي الحديث إلي الإنجليزية فحسب، ولكن لنوع الحياة التي اختارها، ومعرفته العميقة بالعالم العربي، خاصة مصر التي بدأت معرفته بها طفلا، حيث عمل والده في مدينة الزقازيق، واختار هو العيش بها معظم سنوات عمره، - لم نكن نعرف ساعتها أنه سيختار الموت والدفن في أرضها أيضا وأيضا لتنوع اختياراته للترجمة والكتابة عن معظم كبار الكتاب في العالم العربي، وبالطبع عمله في العديد من الدول العربية متنقلا بين قطر والإمارات العربية، ليؤسس ويدير مكتب إذاعة البي بي سي، ثم انتقاله إلي بيروت حيث عمل بها لمدة أربع سنوات، وذهابه ليعيش في العراق، وأيضا في المغرب بالإضافة إلي السودان التي عاش بها في طفولته، وتكلم عاميتها فيكون بهذا قد عرف الوطن العربي شمالا وجنوبا وشرقا وغربا أكثر من أي منا. أول ترجمة كان دينيس هو أول من قدم نجيب محفوظ بترجمة قصته الزعبلاوي، بعد أن ترجم مختارات من قصص محمود تيمور باسم »قصص من الحياة المصرية» ونشرها علي نفقته الخاصة. كنا، أقصد راكبي السيارة نعرف أنه ولد لأب انجليزي في مدينة فانكوفر في كندا عام 1922 ، وأنه أمضي طفولته متنقلا بين مصر وكينيا وأوغندا والسودان، ثم ذهب في الثانية عشرة إلي لندن لكنه لم يستسغ بلاد الضباب بعد أن عاش الدفء الإفريقي الساطع الشمس. وأن دراسته للعربية جاءت في سن صغيرة جدا، وبعد محاولات للانتظام في تعليم اللغات الشرقية، تعلم فيها الفارسية، وبعض العبرية، قبل أن توافق جامعة كمبردج علي التحاق ابن السادسة عشرة إلي صفوف دراسة العربية، ثم دراسة القانون، ومنها إلي العمل في المحاماة، قبل أن يلتحق بمحطة »البي بي سي» لمدة خمس سنوات بدأت عام 1940 ،وحتي انتهاء الحرب العالمية الثانية . عاد بعدها إلي مصر ليبدأ رحلة الترجمة والعطاء، التي لم تنقطع أبدا عن تقديم الأدب العربي الحديث، من قصص، وروايات، ودواوين شعر، ومسرحيات، وأجزاء من القرآن الكريم، والأحاديث النبوية والقدسية، بالاشتراك مع عز الدين ابراهيم المستشار الثقافي للشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، ومختارات من فصول إحياء علوم الدين للغزالي ، وهو ما أدي إلي إسلامه في النهاية. لم ننقطع عن الحديث عن دينيس طوال رحلتنا، وأخبرني يوسف أن دينيس هو صاحب فكرة جائزة نجيب محفوظ التي انشأها الناشر مارك لينز،في الجامعة الأمريكية، وكنت أظنه حتي تلك اللحظة صاحب الفكرة، ومنفذها، وشرح لي أن دينيس اقترح تأسيس جائزة سنوية باسم نجيب محفوظ، وعرض عليه الأمر بعد أن وافق نجيب محفوظ علي كتابة مقدمة لكتاب دينيس »مذكرات عن الترجمة» وبالفعل حصلا علي موافقة محفوظ وكان هذا عام 1996 ، وكان إبراهيم عبد المجيد هو أول من حصل عليها ذلك العام، ثم تطور المشروع لترجمة الأدب المصري أولا، ثم العربي بعد ذلك، وهي الجائزة التي قدمت ترجمات لكتاب جيلي وكنت ويوسف من بينهم وهي لاتزال مستمرة وقد نالت شهرة واسعة بعد ذلك. ولأن يوسف أبو رية لصيق الصلة بدينيس، وقد ترجم له العديد من القصص في المجموعات التي قدمها كمختارات للأدب العربي سألته: لماذا سافر دينيس إلي المغرب؟ وقرر نقل حياته إلي هناك ولماذا عاد؟ قال: أظن بسبب مشاكل مع الجامعة الأمريكية، لكنه لم يستطع الابتعاد كثيرا عن مصر، وهناك قام بترجمة العديد من أعمال كتاب القصة في المغرب، خاصة وأن معظمهم يكتبون بالفرنسية ويترجمون كتاباتهم العربية بشكل متواصل إلي الفرنسية دون الإنجليزية. رحنا نستعرض أعماله خاصة كتاباته للأطفال، والتي بدأها بكتابة عن شخصية جحا الأثيرة لديه، ثم خمس عشرة قصة مستوحاه من الأدب الشعبي العربي، وقصصه التي أصدرها بعنوان »مصير أسير عام» 1999، وكيف نشر روايتين في بداية حياته، تحت اسم مستعار ،لكننا أجمعنا علي أن عشقه الأول كان الترجمة. تذكرنا إصداره لمجلة أصوات، وهي مجلة فصلية نشر فيها لأهم الكتاب العرب في الستينات، لكنه لم يصدر منها غير أربعة عشر عدداً، وكان يقول عن هذه التجربة أنها جزء من مهمتي التي اضطررت إليها بحكم الريادة، فوظيفة المترجم ليست البحث عن الكُتاب وتشجيعهم، ولكن لأنني كنت وسط حركة ثقافية، ولم أجد في بداية حياتي المهنية دور نشر ومؤسسات تعينني علي الاختيار، خاصة أن الغرب في ذلك الوقت كان منتبها لكتب التراث العربي، ولم يلاحظ وجود حركة أدبية حديثة ومهمة، واضطررت للبحث بنفسي عن النصوص، لهذا كان من الطبيعي أن أساهم في إصدار مجلة ثقافية تقدمهم وتدفع بهم إلي النشر، ومنهم بالطبع زكريا تامر، والسياب، الذي ترجم العديد من أشعاره، مع محمود درويش وجبرا ابراهيم جبرا، وكنفاني، ويوسف ادريس، ويحي حقي، وغيرهم. في البيت وكما استغرقنا الحديث عن حياة دينيس، وترجماته في الطريق إليه، دارت المناقشات حامية في بيته عن مشاكل الترجمة أيضًا، وتحدثت معه مطولاً عن اختلاف السياق الثقافي الذي يتم تحويل الكتابة الأدبيه إليه في لغة أخري، وكيف يجد المترجم صعوبة حقيقية في ترجمة بعض النصوص، واختلفنا، لكن ما أذكره من هذا الحوار، أنه كان منحازاً لفكرة اختيار التعبيرات التي يفهمها شخص يتحدث اللغة الإنجليزية، ولهذا كما يري يتوقف نجاح المترجم علي إيجاد صيغة مناسبة لما كتبه الأديب العربي ، وما يقابله في اللغة الإنجليزية ، وليس ما كتبه حرفيًا الأديب العربي ، وأذكر أنه ضرب مثالاً علي هذا باكتظاظ بعض الترجمات بالشروح والهوامش، في محاولة لنقل السياق الثقافي للمؤلف العربي، إلي الإنسان الأوروبي، وشرحها باستفاضة، وهو ما رفضه دينيس جونسون تماما. وحين نقلت إليه اختلافي مع فاروق عبد الوهاب مترجم روايتي إمرأة ما بسبب تغييره لبنية الحوار المتداخلة في النص الأصلي من دون فوارق بيضاء حتي أنه وضع كلمتي هو وهي ليدلل علي بداية الكلام ولم يكن هذا موجودا في الرواية، لكنه أصر عليه قائلاً أن القارئ الأوروبي لن يفهم هذا. انحاز ديفز للمترجم الكبير فاروق عبد الوهاب وما فعله، وقال أن المترجم هو من يعرف القارئ المتلقي في اللغة الأخري أكثر من الكاتب ، وقال أن كثيراً من المؤلفين العرب المهمين لا يمكن ترجمة أعمالهم لأنها لاتناسب الذوق الغربي. دار الحوار بيننا أيضا عن كتابة الحوار داخل العمل الأدبي، وطرح رأيه الذي لم يتخل أبدا عنه منذ ترجم أول أعمال نجيب محفوظ؛ أن يكون الحوار بالعامية، فحكيت له عن مشاكلي في قراءة الأدب المغربي بسبب صعوبة اللهجة المغربية، وكيف أنني كتبت لأصدقائي مجموعة كلمات تفسر الكلمات الغريبة في العامية العراقية التي أجيدها، وأسميتها المفتاح، لكي أساعدهم علي قراءة رواية »الرجع البعيد» لفؤاد التكرلي، فضحك كثيرا، وقال: تلماذا لم تعطني هذا المفتاح ؟ لقد وقفت العامية العراقية كحاجز دائما أمام قدرتي علي ترجمة فؤاد التكرلي. ومع هذا ظل دينيس علي رأيه ،في أن يُكتب الحوار داخل العمل الأدبي بالعامية. تحدث معنا دينيس مطولا عن واقع القرية، وعن جيرانه الفنانين التشكيليين، وتحدث أكثر عن واقع الثقافة العربية . خبرة هائلة، وفهم لمجريات الأمور جاء من نظرة عميقة، ومختلفة، من عين ليست عربية تماماً، علي الرغم من أنه قضي معظم حياته في العالم العربي. خبرة رجل اختار الإسلام طواعية، وترجم العديد من معاني آيات القرآن الكريم، وعكست ثقافته اطلاعه الواسع علي التراث العربي. إنسان أنجز في عمره الذي امتد إلي خمسة وتسعين عاماً مجموعة كبيرة من الترجمات منها: انطولوجيا الأدب العربي الحديث الذي اختار فيها سبعة وتسعين كاتباً من البلاد العربية المختلفة. ورحلة ابن فطومة، وزقاق المدق، وألف ليلة وليلة، والوقت والمكان، لنجيب محفوظ، وفي اليوم العاشر لزكريا تامر، وقنديل أم هاشم ليحي حقي، وعرس الزين للطيب صالح، وتلك الرائحة لصنع الله، والبيوت وراء الأشجارللبساطي، وياطالع الشجرة، والسلطان الحائر لتوفيق الحكيم. أكثر من ثمانية وثلاثين كتاباً. يا إلهي. حين أراجع الآن ذلك اللقاء، الذي استغرق نهاراً كاملاً في بيت دينيس جونسون ديفز في قرية تونس، أجد أن ما تبقي منه؛ هو عشقه لهذه الأرض، وشعوره الحقيقي بالإنتماء إليها ، وأن اختياره الحياة بجوار بحيرة قارون، وسط أرض تكاد تكون صفراء كالحة، علي عكس الريف الإنجليزي الشديد الخضرة، لكنها تتمتع بطلة الإله رع المبهر، كان اختيارا منطقيا للرجل الذي أراد أن يكون وسط جماعة الفنانين التشكليين، الذين شيدوا أفران الخزف هناك لينتجوا أعمالهم، ووسط الأدباء الذين هربوا من ازدحام القاهرة إلي الهدوء. كان دينيس جونسون ديفز نموذجاً لما يمكن أن يكون عليه المثقف الواعي المنتمي لما يحب، المخلص في اختياراته، وقناعاته. حسب معلوماتي لم يكرم دينس جونس في العالم العربي إلا باختياره شخصية العام الثقافية تتضمن جائزة الشيخ زايد عام 2007، لكن العالم العربي سيظل يذكره دائماً باعتباره نموذجاً لما يجب أن يكون عليه المثقف الواعي الذي قدم للأدب العربي ما لم يستطع أن يقدمه الكثيرون.