حالة التدهور الأخلاقي والسلوكي التي أصابت المجتمع وضربت أوصاله، بلغت مدي من الجسامة والفداحة ينذر بمخاطر عديدة، وعواقب وخيمة تهدد حاضر الوطن ومستقبله، وتستوجب اتخاذ إجراءات فورية لإنقاذ ذلك المريض الذي تدهورت حالته، وبات يحتاج نقله إلي غرفة العناية المركزة، وتكليف فريق إنقاذ عاجل من مختلف التخصصات، لكي يشخص الداء ويصف الدواء، ومهما كانت مرارة هذا الدواء علينا أن نتجرعه ونتحمله بكل صرامة وقوة جأش وإقدام قبل فوات الأوان!! لقد اغتلنا القدوة والضمير فينا، ووقفنا مستسلمين نراقب الأخلاق وهي تحزم حقائبها لتهجرنا رويدا رويدا، وانسحبنا صامتين ونحن نري الألسنة المنفلتة تتصدر المشهد، وأفسحنا الطريق أمام طوفان الإهمال والقبح والبلطجة، ليهدم الجمال ويحطم الرقي ويطيح بالقيم، حتي صار السلوك العشوائي إحدي سمات الشخصية المصرية، وأضحي الانفلات والتسيب والانحطاط الأخلاقي منهج حياة، شريعته العنف والفساد والبذاءة والابتذال، وصار الواقع المصري تحكمه مظاهر التخلف والفوضي والغش والفهلوة والإهمال! ولا يخفي علي القاصي والداني حجم المشقة والمعاناة التي نتحملها للتغلب علي تلك السلوكيات البغيضة والأساليب الكريهة التي انتشرت مثل النار في الهشيم، ومدي القهر والهوان في مواجهة تلك الاستفزازات اليومية والممارسات المقيتة التي تحاصرنا آناء الليل وأطراف النهار، ويخطئ من يظن أن تلك التغيرات التي حدثت للشخصية المصرية، وما طرأ علي المجتمع من تغيرات كان وليد سنوات أعقبت ثورة 25 يناير، فقد كشفت دراسات عديدة وبحوث شاملة أن منظومة القيم والأخلاق في المجتمع المصري انهارت علي مدي الستة عقود الماضية، وأن تعاظم حالات الفساد والرغبة في الكسب السريع جاء نتيجة الخلل في منظومة العدالة الاجتماعية. ومن أطرف ما جاء في دراسة أجريت عام 2009 أن الشعب المصري »المتدين بالفطرة» لديه حالة من الانفصام بين المعاملات والعبادات، وأن تلك الفجوة أدت إلي انتشار الفساد لدي الطبقات الدنيا فأصبح سلوكا يوميا، وارتفعت نسبة الرشوة بين موظفي الدولة إلي 55%، كما أوضحت دراسة أخري أجريت عام 2004 أن ظاهرة العشوائية تمثل جانبا مظلما في الواقع المصري ليس لما تعكسه من أخطار فحسب، وإنما لقصور الوعي بها، وتجاهلها والتعايش معها إلي درجة تجعلها تتنامي وتتعاظم يوما بعد الآخر، لتصل إلي مصاف الكوارث! وأن السلوك العشوائي كمنهج للحياة، وسمة للشخصية أشد خطورة علي الوطن من عشوائية المساكن، لأنه يصيب النفوس البشرية، ويجعلها شديدة التخلف وعديمة القيم والأخلاق، ويعكس حالة من التدهور، والارتداد إلي العصور البدائية من التفكير والسلوك الذي تحكمه الدوافع الأولية، وتسيطر عليه الغرائز والشهوات والخرافة، وانعدام الوعي بالهدف والقيمة والمعني، لذا أقول إن نقل الأشخاص من منطقة عشوائية إلي تجمعات سكنية حضارية، لم ولن يقضي علي عشوائية السلوك، وانهيار منظومة الأخلاق، وإنما ما حدث في الواقع أنهم نقلوا العشوائية معهم إلي مساكنهم الجديدة!! وللأسف لم تقتصر ظاهرة السلوك العشوائي علي أصحاب الحرف والعمالة الأقل تعليما وثقافة في المجتمع، وإنما امتد هذا الداء اللعين ليطول أصحاب المهن المرموقة والأكثر تعليما، من أطباء ومحامين ومهندسين وإعلاميين ومعلمين وأساتذة جامعيين وغيرهم، بل إنه طال الشخصيات العامة والنخبة المتميزة من مشاهير المجتمع في الرياضة والفن والسياسة، هؤلاء الذين يتطلع إليهم أفراد المجتمع ويتخذون منهم القدوة، والنموذج في السلوك والمظهر والحديث، وهذا يعني أن المجتمع أصبح آيلا للسقوط، وأن التدهور والانحدار والفوضي وصلت إلي مراحل تنذر بكارثة، لا تهدد تقدم المجتمع فحسب، وإنما تنذر بقاءه ووجوده. لقد فتحت ملف هذه القضية الخطيرة الأسبوع الماضي في برنامج »كلام وسط البلد» علي »راديو مصر» مع الإعلامية »نسرين عكاشة» ابنة الكاتب المبدع أسامة أنور عكاشة أحد رواد الدراما التليفزيونية الخالدة، والإعلامي »زياد علي» حفيد الراحل علي فايق زغلول أحد الرواد الإذاعيين، لذا كان بديهيا أن يتطرق الحوار إلي تأثير ما نشاهده في الإعلام والفن علي السلوك والأخلاق في المجتمع، بعد أن تدني مستوي الحوار في الأفلام والمسلسلات وبرامج »التوك شو»، ووصلت الخلافات إلي التشابك بالأيدي علي الشاشة، وتداول الألفاظ البذيئة والسباب بين بعض مشاهير ونجوم الكورة والفن، وكيف أصبحت الأخلاق الفريضة الغائبة في الوطن، وكيف تحول الشارع إلي »سيرك» كبير كل شيء فيه مباح، وكيف أصبحت مدارسنا بلا تربية ولا تعليم، ولم لا؟! فمن أمن العقاب أساء الأدب!! يا سادة.. لقد صار التجاهل والسكوت عن الانهيار الأخلاقي جريمة في حق الوطن، وبات الصمت عما أصاب الشخصية المصرية من تصدع وعطب ضربا من الجنون والانتحار الجماعي، وقد قال الشاعر الكبير أحمد شوقي: »إذا أصيب القوم في أخلاقهم.. فأقم عليهم مأتما وعويلا».