أستكمل ما بدأته الأسبوع الماضي حول جريمة التجاهل والسكوت عن حالة التدهور السلوكي العشوائي والانهيار الأخلاقي في المجتمع، والصمت عما أصاب الشخصية المصرية من تصدع وعطب وتشوهات، والخلط والالتباس ما بين الحرية، والفوضي والتسيب، وما بين الشهامة والجدعنة، والبلطجة والابتذال، وعدم إدراك الحدود الفاصلة بين التحرر والبذاءة والصفاقة، وبين الفقر والقبح، والمخاطر الناجمة عن كل تلك الممارسات المقيتة التي سادت الشارع المصري وحولته إلي سيرك، والعواقب الوخيمة التي تهدد حاضر ومستقبل الوطن. بالله عليكم ماذا ننتظر إذا كان الانحدار لم يقتصر علي الدهماء والغوغاء وعامة الشعب في الشارع، وإنما وصل إلي تطاول وزير علي باحث أكاديمي خلال مناقشة رسالة الماجستير، ونعته بالحمار والجاهل والمتخلف، وإلي استخدام بعض نواب البرلمان قاموسا من السباب والشتائم ما أنزل الله بها من سلطان لمواجهة خصومهم!؟ ماذا نتوقع طالما وصل الأمر إلي وصلات من البذاءة والانحطاط اللفظي المقيت بين النقاد الرياضيين المرموقين في استوديوهات التحليل خلف الكاميرات، ووسط المصورين والعاملين، وإلي اشتباكات بين المشاهير من ضيوف برامج »التوك شو»بالألفاظ والأيادي أمام المشاهدين؟! ماذا نظن بعد أن وصل الحال إلي الدفاع المستميت عن تدني سلوك بعض الشخصيات العامة ونجوم المجتمع ومشاهيره، وتبرير سوء الأخلاق والانحطاط السلوكي، واعتبار البذاءات والسباب والألفاظ النابية حرية شخصية، وتراثا مصريا أصيلا؟!! ماذا نترقب أو نأمل إذا كانت الفوضي والعشوائية والبذاءة والغش صارت قانونا للحياة؟ الكل يغش ويتطاول ويتربح بطريقته وعلي قدر كفاءته وإمكانياته!! إنها قضية شعب مصاب بحالة من الازدواجية والانفصام بين المعاملات والعبادات، يتمسك بمظاهر التدين ويتسابق علي النوافل، لكنه لا يتورع عن الكذب والغش والتضليل، شعب يتغني كثيرا بالإيمان والتقوي والتدين الفطري، لكنه يتسابق علي الإهمال والبلطجة والغوغائية ويصنع من أصحابها أبطالا ورموزا وقدوة!! يهاجم الفساد ويطعن في ذمم الفاسدين، لكنه يستبيح الرشوة والابتزاز والتحايل، وسرقة بعضه البعض، ويبدع في كسب المال بالفهلوة والشطارة والنصب، شعب يتمسك بالشعائر ويتحدث عن القيم الدينية والحلال والحرام، ولا يعتبر الرشوة وتفتيح الدماغ، والالتفاف حول القوانين واستحلال المال العام مخالفا للدين والشرع أو الأخلاق، ولم لا؟! أليست هذه نقرة وتلك أخري؟! إنني لا أغالي إذا قلت إن »الأمن الأخلاقي» أهم من »الأمن السياسي» في المجتمع، وإن الانهيار الأخلاقي والسلوكي قضية أمن قومي، لا تنعكس آثارها ومخاطرها علي العلاقات الاجتماعية والتأثيرات النفسية فحسب، وإنما علي الاقتصاد والتجارة والصناعة والسياحة والمرور والتعليم والثقافة ومختلف مناحي الحياة، فالسائح الذي يتعرض للنصب والسائحة التي تواجه سلوكا مشينا أو لفظا جارحا، لن يُقدما علي زيارة مصر مرة أخري مهما كانت المغريات أو الدعاية في بورصات السياحة العالمية، والمستثمر الذي يري تلك الفوضي والسلوكيات العشوائية ،لن يجازف بأمواله في مشروعات مهما كانت التيسيرات والتسهيلات القانونية، والتاجر الذي تعرض للنصب من مستورد مصري لن يثق في أي شخصية مصرية!! لقد تلقيت العديد من رسائل القراء بعضها تطالب بحملة قومية تتصدي لتلك القضية التي استفحلت في المجتمع، وأخري تطالب بمنظومة علاج اجتماعي لمواجهة هذا الخلل الذي ضرب منظومة الأخلاق والقيم، وسن القوانين لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، في حين رأي آخرون أن الأمل ليس في الجيل الحالي، وإنما في الأجيال القادمة وتطوير التعليم. لكنني أزعم أن الدولة إذا توافرت لها الإرادة يمكن أن تنتصر في هذه المعركة المصيرية، وكلنا نتذكر حين تولي اللواء أحمد رشدي حقيبة الداخلية، ونجح في إعادة تعريف مفهوم الأمن، لتكون مهمته الأصلية الدفاع عن أمن المجتمع وسلامه الاجتماعي، وليس التركيز علي الأمن السياسي، واستطاع فرض الانضباط داخل الشارع المصري، وأعاد الرصيف للمواطنين، وجعل المخالفات فورية يدفعها المشاة قبل السيارات، ودوريات متحركة تتجمع في نقطة كل نصف ساعة، واهتم بالشكاوي التي تبدو عادية مثل الإزعاج، حتي الموظف »المزوغ »من عمله خلال ساعات العمل الرسمية، يتم إبلاغ جهة عمله حرصا علي الإنتاج، طبق القانون علي الجميع بدون استثناء، وهو ما أدي إلي حالة غير مسبوقة من الشعور بسيادة القانون والعدل والرضا لدي المواطنين، لكن سرعان ما اختفي كل ذلك باستقالة أفضل وزير داخلية عرفته مصر. يا سادة إن الأمر جد خطير ولا يتحمل تباطؤا أو تقاعسا، وإنما يحتاج لحلول جذرية سريعة، وتضافر جهات عديدة تعمل تحت مظلة قانون رادع يطبق بكل حزم وحسم ودون استثناءات، فكل الدول التي تقدمت بدأت بتطوير وبناء الإنسان، وحولت الأيادي التي تهدم وتشوه، إلي سواعد تبني وتنهض بالأوطان، وتحقق الإنجازات والمعجزات، وإذا أردنا بناء مصر علينا أن نبدأ بإعادة بناء الإنسان المصري، فالتحضر ليس طرقا وكباري ومباني ومدنا أو أدوات حديثة نستعملها ونستهلكها، وإنما أخلاق سامية وسلوك قويم، ابدأوا بإصلاح الأخلاق فهي أول الطريق.