أنباء عن إطلاق المضادات الجوية من شرقي مدينة أصفهان | فيديو    مسؤول أمريكي: إسرائيل شنت ضربات جوية داخل إيران | فيديو    "ليست أول فرصة يهدرها في حياته".. كلوب يعلق على الانتقادات ضد صلاح    محمد بركات يطمئن جماهير الأهلي قبل موقعة مازيمبي    ملف رياضة مصراوي.. ليفربول يودع الدوري الأوروبي.. أزمة شوبير وأحمد سليمان.. وإصابة محمد شكري    كمامة ومفيش خروج.. ظواهر جوية تتعرض لها مصر الأيام المقبلة    هدي الإتربي: أحمد السقا وشه حلو على كل اللى بيشتغل معاه    رانيا هاشم تقدم حلقة خاصة من داخل العاصمة الإدارية الجديدة في "بصراحة"    الهلال الأحمر الفلسطيني: نقل إصابة ثانية من مخيم نور شمس جراء اعتداء قوات الاحتلال    مجلس الوزراء يحسم الجدل حول حقيقة وجود عرض استثمارى جديد ل«رأس جميلة»    أسعار العملات الأجنبية اليوم الجمعة.. آخر تحديث لسعر الدولار عند هذا الرقم    عز بعد الانخفاض الجديد.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الجمعة 19 إبريل بالمصانع والأسواق    صدمة .. إصابة أحد صفقات الأهلي في الميركاتو الصيفي    هدف قاتل يحقق رقما تاريخيا جديدا في سجل باير ليفركوزن    مواعيد أهم مباريات اليوم الجمعة 19- 4- 2024 في جميع البطولات    وعد وهنوفي بيه، الحكومة تحدد موعد إنهاء تخفيف أحمال الكهرباء (فيديو)    3 ليال .. تحويلات مرورية بشارع التسعين الجنوبي بالقاهرة الجديدة    محمود التهامي يحيي الليلة الختامية لمولد أبو الإخلاص الزرقاني بالإسكندرية (فيديو وصور)    منهم شم النسيم وعيد العمال.. 13 يوم إجازة مدفوعة الأجر في مايو 2024 للموظفين (تفاصيل)    شاهد.. نجوم الفن في افتتاح الدورة الثالثة ل مهرجان هوليود للفيلم العربي    سوزان نجم الدين تتصدر التريند بعد حلقتها مع إيمان الحصري.. ما القصة؟    محمود عاشور يفتح النار على رئيس لجنة الحكام.. ويكشف كواليس إيقافه    #شاطئ_غزة يتصدر على (اكس) .. ومغردون: فرحة فلسطينية بدير البلح وحسرة صهيونية في "زيكيم"    البابا تواضروس خلال إطلاق وثيقة «مخاطر زواج الأقارب»: 10 آلاف مرض يسببه زواج الأقارب    انهيار منزل من طابقين بالطوب اللبن بقنا    تعديل ترتيب الأب.. محامية بالنقض تكشف مقترحات تعديلات قانون الرؤية الجديد    أبو الغيط يأسف لاستخدام الفيتو ضد العضوية الكاملة لفلسطين بالأمم المتحدة    متحدث الحكومة: دعم إضافي للصناعات ذات المكون المحلي.. ونستهدف زيادة الصادرات 17% سنويا    «علاقة توكسيكو؟» باسم سمرة يكشف عن رأيه في علاقة كريستيانو وجورجينا (فيديو)    والد شاب يعاني من ضمور عضلات يناشد وزير الصحة علاج نجله (فيديو)    الجامعة العربية توصي مجلس الأمن بالاعتراف بمجلس الأمن وضمها لعضوية المنظمة الدولية    الإفتاء تحسم الجدل بشأن الاحتفال ب شم النسيم    انطلاق برنامج لقاء الجمعة للأطفال بالمساجد الكبرى الجمعة    إصابة 4 أشخاص فى انقلاب سيارة على الطريق الإقليمى بالمنوفية    ظهور أسماك حية في مياه السيول بشوارع دبي (فيديو)    أول تعليق من حماس على الفيتو الأمريكي ضد عضوية فلسطين في الأمم المتحدة    فيوتشر يرتقي للمركز الثامن في الدوري بالفوز على فاركو    خبير عسكري: هجوم إسرائيل على إيران في لبنان أو العراق لا يعتبر ردًا على طهران    تخفيض سعر الخبز السياحي بجنوب سيناء    سكرتير المنيا يشارك في مراسم تجليس الأنبا توماس أسقفا لدير البهنسا ببني مزار    برج الدلو.. حظك اليوم الجمعة 19 أبريل 2024 : يساء فهمك    أحمد الطاهري يروي كواليس لقاءه مع عبد الله كمال في مؤسسة روز اليوسف    دعاء السفر كتابة: اللّهُمّ إِنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السّفَرِ    دعاء للمريض في ساعة استجابة يوم الجمعة.. من أفضل الأوقات    النشرة الدينية.. هل يجوز تفويت صلاة الجمعة بسبب التعب؟.. وما هي أدعية شهر شوال المستحبة؟    جريمة ثاني أيام العيد.. حكاية مقتل بائع كبدة بسبب 10 جنيهات في السلام    طريقة عمل الدجاج سويت اند ساور    طريقة عمل الكب كيك بالريد فيلفت، حلوى لذيذة لأطفالك بأقل التكاليف    نبيل فهمي يكشف كيف تتعامل مصر مع دول الجوار    بسبب أزمة نفسية.. فتاة تنهي حياتها بالحبة السامة بأوسيم    المشدد 5 سنوات لشقيقين ضربا آخرين بعصا حديدية بالبساتين    دعاء الضيق: بوابة الصبر والأمل في أوقات الاختناق    البيت الأبيض: واشنطن وتل أبيب تتفقان على الهدف المشترك بهزيمة حماس في رفح    محافظ الإسكندرية يفتتح أعمال تطوير "حديقة مسجد سيدى بشر"    شعبة الخضر والفاكهة: إتاحة المنتجات بالأسواق ساهمت في تخفيض الأسعار    أخبار 24 ساعة.. مساعد وزير التموين: الفترة القادمة ستشهد استقرارا فى الأسعار    فحص 1332 مواطنا في قافلة طبية بقرية أبو سعادة الكبرى بدمياط    ردد الآن.. دعاء الشفاء لنفسي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المعطف العربي

شارك الروائي الألماني ميشائيل كليبرج (من مواليد 1959) في برنامج »ديوان الشرق والغرب« الذي أُطلق في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر، والتقي في إطاره عدد من الكتاب الألمان بكتاب من العالم العربي. خلال لقائه بالشاعر اللبناني عباس بيضون في برلين أولا، ثم في بيروت، نشأ كتابه «الحيوان الباكي» الذي ترجمه سمير جريس إلي العربية (دار «كنعان»، دمشق 2006). هذه القصة هي فصل من رواية يعمل عليها كليبرج الآن.
وتنُشر هذه الترجمة في «أخبار الأدب» بإذن من الكاتب.
عليكَ أن تفكر بالموت كجنرال ألماني
يضع الآن عينه الزرقاء علي الطاولة،
ويرحل بساق عرجاء،
إنها الحرية القاسية.
حدث ذلك في خريف العام الذي أعقب الحادي عشر من سبتمبر. كنت مدعوا كلبناني إلي ألمانيا لألقي محاضرات عن حوار الحضارات. كانت تلك زياتي الأولي لهذا البلد. طرت عن طريق باريس حيث ساد طقس جميل، ولكن عندما وصلت إلي برلين قابلني طقس شديد البرودة، بل كاد يكون صقيعيا، ولهذا اشتريت قبل أن أغادر المطار معطفا، معطفا ثقيلا من الصوف ذا لون رمادي غامق، أكثر سُمكا من أي معطف أرتديه في المعتاد.
كان تورستن هابرلاند - الذي وجه لي الدعوة والذي قابلته مرات عدة في لبنان – قد أعد كل شيء، وكتب لي عنوان المعهد الذي سأسكن فيه، ما علي سوي إظهار العنوان لسائق التاكسي؛ أما هو فسيحضر في ضُحي اليوم التالي ليصطحبني معه في الجولة التي ستستمر عدة أيام. أعطاني جدولا مطبوعا بكافة الأماكن والمواعيد، أحمله معي هو أيضا في جيب المعطف. لقد أكد لي أنني لن أحتاج إلي الاهتمام بأي شيء في البلد الذي لا أتحدث لغته.
يقولون إنني سأسكن في غابة. هذا الانطباع تعمق لديّ أثناء رحلة التاكسي، ثم تأكد عندما وصلنا إلي المكان الذي حُجزت لي فيه غرفة. ترددت في قبول عرض برحلة كهذه بعد العملية الصعبة التي خلفت جرحا كبيرا في صدري، ولم أستطع إلا بصعوبة بالغة حمل حقيبتي علي السلم اللولبي. رغم ذلك أحرجتني المساعدة التي قدمتها لي سيدة شقراء بنظارة سلمتني في الاستقبال مفتاحي، غير أن تحذير طبيبي لي بألا أحمل أحمالا ثقيلة بعد العملية جعلني أقبل في النهاية. كما أن المرأة كانت أضخم مني بكثير، وهذ الفارق في الحجم يكفي لكي يعتبر كل منا الآخر أجنبيا، ومقابلة ذلك بالتهذيب الواجب.
طيلة الوقت كان لدي شعور بأنني سافرت إلي ألمانيا من أجل مهمة لا أفهم كنهها حق الفهم. لكن الحجرة صرفت انتباهي عن هذا السؤال، وعن السماء الملبدة بالغيوم التي بدت لي كئيبة ومقبضة مثل قدر لا يمكن صده. تحت غرفتي مباشرة رأيت بحيرة صغيرة محاطة بالشجر. بدا المنظر، مؤطرا بالنافذة، وكأن أحدا أهداني لوحة فنية وعلقها هناك.
تنفيذا لنصائح الطبيب قررت أن أقوم أولا بتمشية، لا سيما وأن اليوم كله مخصص لكي أتأقلم مع المكان الجديد. ولكن عليّ أن أكون حذرا، فأنا لدي مشكلة جسيمة مع الاتجاهات والأماكن. قد يحدث أن أضل طريقي، وأن أسير طويلا في اتجاه خاطئ حتي لا يعود بمقدوري أن أجد الطريق الصحيحة. أقف فجأة، ولا أستطيع السؤال عن الطريق لأنني لا أجيد اللغة. من الخوف الهائل لا أعود قادرا علي مواصلة السير، وربما تمطر السماء أيضا وهو ما يجعل الأمور تسوء أكثر فأكثر.
ليست المشكلة افتقادي لحس المكان، إنها جزء من مشكلة غياب الانسجام مع الأشياء. يبدأ الأمر بالجسد الذي تتوقف حركته بين الحين والآخر، وبذلك أخطو خطوة خاطئة، أتعثر، أصطدم بجذر شجرة بارز، أو أقلب بحركة هوجاء من يدي كأسا بمحتواه. مثل هذه الحوادث عادية تماما بالنسبة إليّ، ولا يكاد يثير استغرابي أن تستقل يدي أو قدمي في لحظة عابرة من عدم الانتباه، ثم تصحح نفسها بسرعة، لكن الناس يرون البقعة علي مفرش المائدة أو علي ملابسهم. بأعين مندهشة يحدقون في البقعة الآخذة في الاتساع، ثم يحاولون أن يهوّنوا من شأن ما حدث، فينفضح رأيهم فيّ.
علي عكس الآخرين، معتادٌ أنا علي مفاجآت جسدي الذي لا ينصاع دائما لي. شيء ما فيه يتحرك بحرية تامة دون أي تدخل مني.
الأمر نفسه يحدث لي مع الأماكن. كلما سافرت بعيدا، أربكتني الأماكن أكثر. خارج النطاق الصغير الذي أتحرك فيه بأمان تكتسب الأماكن شيئا ميتافيزيقيا، وتفعل بي عندئذ ما حلا لها. عندئذ أتوه في شوارع لا أعرف إلي أين تؤدي، شاعرا بأنه لا حول لي ولا قوة، وكأني مثل تلك الطرق والشوارع: بلا أسماء أو ملامح.
لكل هذه الأسباب كان علي أن ألتزم الحذر خلال التمشية التي سأقوم بها. قررت أن أسير في خط مستقيم، وألا أحيد عن طريقي. تسير الطريق بموازاة ضفة البحيرة الصغيرة، بين حين وآخر كنت أتلفت حولي لأتأكد ما إذا كنت لا أزال أري البيت الذي أسكن فيه. وفي نهاية البحيرة انعطفت في اتجاه طريق عرضية، وظللت أمشي فيها ذهابا وجيئة، دون أن أبتعد كثيرا عن تقاطع الطريق الذي أتيت منه. ينبغي ألا تتعدد الطرق حتي لا تتشابك في رأسي.
مرت بي سيدتان، ثم اختفيتا بين الأشجار، وجاءت فتاة جميلة لكنني لم أنظر إليها حتي لا أثير الخوف في قلبها ونحن في وسط الغابة.
ركزت نظري بدلا من ذلك علي أوراق الخريف التي كانت تلمع ببهاء، أوراق تميل إلي الحمرة، وأخري ذهبية بنية أو صفراء. لم يكن لونها فحسب هو الذي جذبني، بل كيف كانت تعكس الضوء، كانت نقية وصافية ومقطرة. عند وصولي في الصباح هبت رياح قوية أسقطت الأوراق من الشجر. أما الأوراق التي ظلت علي الغصون فلم تشع بهاءً أو لمعانا، كانت ترتعش فحسب في انتظار نهايتها. قلت لنفسي إن مثل هذه الدراما المتكررة كل سنة لا بد أن تترك أثرا علي اللاوعي، وإن هذا، ربما، هو الغرب: غابات وبرودة وأمطار وعواصف، سقوط الأوراق في كل عام وتحولها من أوراق لامعة إلي قذارة ووسَخ. ليست فكرة مبتكرة، ولكن علينا أن نفرق بين العوالم المُتخيلة عندما تكون فيها غابات، وتلك التي تخلو منها.
في نهاية الطريق العرضية التي كنت أسير فيها رائحا غاديا، ويرافقني دائما هَم أن يختفي المنزل الذي تقع فيه حجرتي عند التقاطع التالي، لمحت مقهي علي مبعدة ما. اجتاحتني رغبة في فنجان قهوة، ولكن كان علي لكي أصل إلي هناك أن أتجاوز عدة تقاطعات في الغابة. كنت أخشي ألا أعثر في طريق العودة علي التفريعة الصحيحة.
حسمت أمري في النهاية نوبة مفاجئة من الرغبة في المغامرة أو من التهور، وهي نوبات تستولي علي المرء أحيانا في البلاد الغريبة. عددت التقاطعات التي علي عبورها، والتفت حولي مرة بعد أخري، ثم وجدت نفسي أقف أمام المقهي، فدخلتها.
علقت المعطف علي المشجب، وجلست إلي مائدة من الموائد الكثيرة الشاغرة. أثناء احتسائي فنجان «الكابتشينو» رن جرس هاتفي النقال. كانت المتصلة أمل، وهي صديقة لبنانية تعيش في برلين. سألتني ما إذا كنت وصلت بالسلامة، ثم تبادلنا الحديث لبرهة، وفي الختام دعتني لتناول طعام العشاء عندها في المنزل.
قلت لها:
- أخشي أنني لن أجد العنوان.
- لا تحمل هما. سأطلب لك تاكسيا، سيوصلك حتي باب البيت. ما عليك سوي أن تقول لي أين أنت الآن.
ناديت علي الساقية وأعطيتها الهاتف، فذَكرتْ اسما وعنوانا، ثم أعادت لي التليفون. قالت لي أمل إن التاكسي سيصل بعد ربع ساعة.
وقد كان. رأيت التاكسي يقف أمام المقهي، فدفعت الحساب، وارتديت معطفي، وغادرت المقهي وركبت التاكسي المنتظر.
صحيح أنه قد لفت نظري أن لون معطفي الرمادي أصبح أفتح قليلا، ولكنني لم ألق للأمر بالا. كما أنني لم أهتم بكونه واسعا بعض الشيء. أنا أحتاج إلي بعض الوقت كي أتأكد من شيء، إذ إني لا أثق في إدراكي لما هو حولي. كان المعطف شيئا آخر، أفتح لونا قليلا، وأوسع قليلا. أريد براهين أخري حتي أفكر في إمكانية ألا يكون هذا المعطف معطفي، ولذلك لم تخطر علي بالي هذه الإمكانية، وتجاوزت بسرعة لحظة شكوكي القصيرة. هكذا أنا، نادرا ما أستغرب شيئا، وأجد الأمر مجهدا عندما أركز انتباهي علي شيء واحد لفترة طويلة. قضيت الأمسية لدي أمل وزوجها في أجواء بالغة الألفة. لقد هدّأت لغتي الأم والعناق بيننا من مخاوفي بعض الشيء تجاه كل ما ينتظرني.
لم ألاحظ الأمر إلا عندما أردت مغادرة بيتها في المساء المتأخر. في هذه المرة لاحظت أنه ليس معطفي. إنه معطف نسائي ذو لون رمادي فاتح.
اعتقدت في البداية أنني أخطأت، ولكني لم أجد معطفا آخر معلقا علي المشجب. حاولنا معا أن نعيد ترتيب الأحداث لنعرف أين يكمن الخطأ، لكنني لم أستطع التركيز بدقة، إذ إنني فكرت برعب متزايد في أن كل كينونتي في ألمانيا موجودة داخل المعطف: مفتاح الإقامة، قائمة المواعيد والأماكن وأرقام التليفونات الخاصة بالرحلة، ومحفظتي وجواز سفري بتأشيرة الدخول.
شعرت بالسخط خصوصا بسبب فقدان المفتاح الذي يفتح كل الغرف في المعهد. هذا شيء خطير ومثير للريبة، لا سيما وأن الحادي عشر من أيلول لم يكن بعيدا، وأنا عربي.
لم يعد ثمة شخص في المعهد يمكن أن يُدخلني في هذه الساعة، وكل أرقام الهاتف بما فيها رقم تورستن هابرلاند كانت في القائمة التي ترقد في جيب المعطف.
كان عليّ أن أقبل بما لا يمكن تغييره: قبل الصباح الباكر لا يمكن فعل شيء. لقد أغلق المعهد والمقهي أبوابهما منذ فترة طويلة. عرضت أمل عليّ، أن أقضي الليلة في شقتها، ولكن لم يغمض لي جفن، فنهضت مبكرا، وشربت قهوة، ثم أقلني تاكسي إلي المعهد.
تقدمت إلي الاستقبال، فرفعت السيدة الشقراء ذات النظارة بصرها ناحيتي. سألتها عما إذا كان تورستن هابرلاند موجودا.
للأسف لا. السيد هابرلاند انطلق صباح اليوم ومعه المعطف العربي إلي جولة أدبية. لن يعود قبل الأسبوع المقبل.
لقد وصلتُ متأخرا إذن. قلتُ لها شارحا:
- معذرة، ولكنه ليس معطفا عربيا. لقد اشتريته في ألمانيا، في المطار.
نزعت نظارتها حتي تراني بشكل أفشل، ولوت شفتيها قليلا.
- يا أستاذ، ولماذا سيذهب السيد هابرلاند مع معطف ألماني في جولة محاضرات عن حوار الحضارات والإرهاب؟ هذا شيء ليس له معني.
- هل ترك لي أي رسالة، أعني السيد هابرلاند.
- رسالة؟ لا. ومَن أنت أصلا؟
تفحصتني بدقة أكبر، لكنها علي ما يبدو لم تستطع الوصول إلي حكم بشأني.
ذكرتُ اسمي، وذكّرتُها بأني استلمت غرفتي في اليوم السابق.
أحنت رأسها علي قائمة مطبوعة، وبأصبعها مرت علي الأسماء.
نعم، كل شيء تمام. المعطف العربي لهذا الاسم الذي دعاه المعهد وصل بالأمس، وذهب مع السيد هابرلاند صباح اليوم إلي المحطة.
أدركت أنني لا أستطيع أن أعارض الوقائع، وعلي ما يبدو فإن السؤال حول مصدر المعطف لم يكن يهم السيدة في شيء. وتذكرت أن علي أن أواجه مشاكل أكثر إلحاحا من تلك التي أناقشها مع سيدة الاستقبال.
ما الانطباع الذي سيتركه المعطف علي جمهور ألماني؟ وما القصائد التي سيختارها؟ وهلي سليقي قصائدي أنا، أم ربما قصائد أخري تماما؟ وكيف سيتصرف خلال الحوارات الصحفية التي لا مهرب منها؟ يتوقف الكثير الآن علي إجراء حوارات مع الصحفيين الألمان بشكل صحيحّ. وماذا عن تورستن هابرلاند؟ لقد أنفق وقتا وجهدا كبيرين لكي يحصل لي علي الفيزا ولتنظيم الجولة الأدبية. والآن يجد نفسه مسافرا مع معطف أجهل تماما قناعاته السياسية وقدراته البلاغية، بل وأجهل شخصيته. ألن يُصاب تورستن بخيبة أمل عظيمة عندما تضيع كل الجهود التي بذلها من أجل الحوار والتبادل بين الشرق والغرب، وعندما لا تسفر تلك الجهود إلا عن الفوضي وقدر أكبر من الشعور بالغرابة؟
حاولتُ يائسا أن أتذكر أولي محطات الرحلة. لا يجوز لي أن أنسي أن الشاعر هنا في ألمانيا، علي عكس الأمر في لبنان أو في بلدان عربية أخري، يعتبر ممثلا لشيء وليس إنسانا يجلس بصفته الشخصية في مقهي ويقرأ لأشخاص آخرين قصائده من ورقة. ما أكثر ما قد ينتهي بالفشل في حوار الحضارات، لا سيما وأن حرب العراق علي الأبواب، والتوتر بين الأطراف ينمو كل يوم.
أعتقد أن القراءة الأولي ستكون في هامبورج. نعم، هامبورج، ثم كولونيا، هكذا كان الترتيب. هل تناسيت أم أنني نسيت بالفعل وأنا أسير إلي المحطة أنني لا أحمل نقودا أو أوراق هوية؟ أم أنني أزحت السؤال جانبا لأنني لا أستطيع في الوقت نفسه التركيز علي كارثتين محتملتين؟
أعترف بصراحة أنني نسيت ذلك حتي عندما جلست بالفعل في قطار بعد الظهر السريع المتجه مباشرة إلي هامبورج. ربما اعتقدت في اللاوعي أنني استحققت الرحلة لأنني وجدت المحطة والقطار.
ولكنني تعلمت بسرعة أنني كنت مخطئا. لم أستطع أن أشرح للمفتش – أعتقد أن الرجل الذي اقترب مني بزيه الرسمي حاملا جهازا إلكترونيا ثم وقف أمامي هو المفتش – إلا بصعوبة بالغة أنني لا أحمل تذكرة سفر، وعندما حاولت شرح الموقف بالفرنسية،انتقل المفتش من اللغة الإنجليزية إلي الألمانية، وتخلي في كلامه عن صيغ الاحترام والتهذيب.
وفي حين راح الركاب الآخرون يمطون أعناقهم ليلقوا علي نظرات مستهجنة، أحضر المفتش زميلا ثانيا ليستعين به، وبدا كلاهما وكأنني أدين لهما شخصيا بالمال، وكأنهما نجحا في القبض علي قبل أن أتسلل خارج الحدود. أشارا إلي أن أظل جالسا في مكاني، وكأن لدي إمكانية أخري، والكلمات الوحيدة التي فهمتها كانت «الشرطة» و«هامبورج».
لم يتسبب ذلك في إثارة الفزع في نفسي، مثلما ظن المفتشان ربما. كنت أريد أن أوضح لشرطة هامبورج أنني لا بد أن أكون في الوقت المناسب في «دار الأدب» حتي لا نجازف بالسلام بين الشرق والغرب.
كنت في الصباح قد طلبت من أمل أن تعيد المعطف النسائي إلي المقهي حتي نتجنب، علي الأقل، بلاغا يتهمني بالسرقة، ولهذا لم أرتدِ وقاية للبرد سوي الجاكت الصوفي وكوفية. ولكن القطار كان دافئا. تغير الأمر في محطة السكك الحديدية في هامبورج حيث سلمني المفتشان إلي شرطيين قاداني – وهما يدفعاني حينا، ويجذباني أحيانا - عبر مبني المحطة كله الذي سادته الرياح الثلجية.
- سافرت بدون تذكرة يا ابني؟ هذا ممنوع في ألمانيا!
هذا ما فهمته، غير أني أخفقت في أن أوضح للشرطيين أنني علي معرفة بذلك تماما.
ولغياب أوراق الهوية لم يكن من السهل كتابة المحضر في مكتب شرطة المحطة الضيق.
- أنت، اسمك؟ اسمك، ما هو؟ الأوراق، أين؟
أوراقي في المعطف، وربما يكون معطفي قد وصل إلي منصة دار الأدب. أهز رأسي في عصبية، وأنظر في ساعتي.
ينبغي علي أن أسرع، إذا كنت أريد الوصول في الموعد. حاولت مجددا شرح موقفي بالفرنسية.
وما هي هذه اللغة؟ هل ينبغي علي أن أفهم ما تقول؟
لكن فمه لا تفوح منه رائحة الخمر، هذا الرجل.
نعم، لكنه يحاول رغم ذلك أن يخدعنا.
اتصل بشرطة حماية الحدود. عليهم في البداية التثبت من صحة بياناته الشخصية.
وهكذا، وبدلا من إلقاء القصائد في دار الأدب والنقاش حول صراع الحضارات، قضيت ليلتي في زنزانة بمحطة السكك الحديدية. لم تكن الزنزانة مريحة، ولكنها كانت أكثر راحة من الزنزانة التي حبسني فيها الإسرائيليون عام 1982. كما أن الحراس هنا ألطف بكثير.
أثارَ وجهي اليائس علي ما يبدو الشفقةَ لدي شرطي حماية الحدود الذي أخذ بصمات أصابعي، في حين أنني كنت أفكر في الفضيحة التي كانت قد حدثت بالفعل.
- لا تخف. أنتَ ستبيت هنا. ليس في الشارع. ولكن بعد ذلك ستعود إلي بلدك «توركيستان». ولكن في البداية ستحصل علي شوربة دافئة.
أهم من الحساء الدافئ كان بالنسبة لي الحصول في اليوم التالي علي نسخة من صحيفة «تاتس»، بالتأكيد كتبوا عن الأمسية.
في صباح اليوم التالي أخذوني في سيارة الشرطة إلي مكتب الأجانب، وهناك استطعت علي كل حال أن أطلب منهم بإلحاح أن أحصل علي صحيفة «تاتس» قبل أن يذهبوا بي إلي مكتب فحص الأوبئة. لم يجدوا ال«تاتس»، بدلا من ذلك ألقي موظف بصحيفة «بيلد» في وجهي، ومنها عرفت علي كل حال أنها أكبر الصحف في ألمانيا، ولهذا افترضت أنني سأقرأ أخبارا عن كل ما هو مهم. وربما أيضا عن ندوتي بالأمس، أو بالأحري ندوة المعطف.
كان لدي وقت لكي أقلب في صفحات الجريدة قبل أن أخلع ملابسي لأخذ عينة دم مني. لم أكتشف شيئا في الصحيفة. من ناحية أخري فإن غياب اسمي من أحد العناوين السميكة قد يشير إلي عدم وقوع فضيحة. هدأت هذه الفكرة من روعي بعض الشيء، وساهمت في جعل الممرضة - التي ارتدت كمامة وقفازا من المطاط – توجه لي التهنئة علي ضغط دمي الجيد.
لا يبدو أيضا أنني مصاب بالسل، أما الجرح في صدري المُخاط ببراعة في المستشفي الأمريكي في بيروت فلم يستحق في نظر أحد الذكر أو التقدير.
بعد الفحص الطبي عدت إلي أحد تلك المكاتب الصغيرة التي بدت – وهو ما أدهشني في ألمانيا – خارجة تماما عن الزمن، وذكرتني بالمسلسلات الأمريكية في الستينيات: آلات كاتبة بدلا من أجهزة كمبيوتر، وملفات، وأجهزة تليفون من عصر ما قبل الطوفان.
أحاول مرة أخري باللغة الفرنسية، فيلتفت الموظف إلي زميله قائلا:
- يبدو أنه يتحدث العربية. نادي علي «ميمت».
«ميمت» موظف شاب، من الواضح أنه تركي، لكنه لا يعرف العربية. مع ذلك استمع بوجه جامد إلي شرحي المتعلق بالمعطف الذي يقولون إنه عربي والذي استقلّ عني، وسار في طريقه الخاصة ومعه أوراقي، ربما يجلس في هذه الساعة مع تورستن هابرلاند في القطار السريع المسافر من هامبورج إلي كولونيا، وهناك آمل بشدة أن أستطيع إيقاف هذا المعطف عند حده.
عندئذ وضع في الآلة الكاتبة ورقة كربون وبدأ يسألني ثانية عن اسمي وأصلي وفصلي وظروف دخولي غير المشروع أو لجوئي إلي ألمانيا.
في ساعة متأخرة من عصر ذلك اليوم، أو في المساء المبكر عرفت أن الاحتمال الأكبر الآن هو أنهم سيرحلوني إلي بلدي بمجرد التأكد بما لا يدع مجالا للشك من اسم الدولة التي جئت منها وهو أمر قد يستغرق وقتا بسبب عدم وجود أوراق هوية سارية. إلي أن يحدث ذلك، سأُنقل إلي دار لاستقبال اللاجئين، وعليّ التوقيع علي أنني لن أبتعد عن الدار إلا بمقدار كذا وكذا، وأنني لن أغادر مدينة هامبورج، لا سيرا علي الأقدام، ولا بواسطة القطار أو السيارة أو الطائرة أو السفينة. وفي النهاية حصلت علي إيصال بمبلغ مالي لنفقاتي اليومية، عليّ أن أذهب إلي الطابق الأول لصرفه، وهناك تم علي الفور خصم جزء من المبلغ كقسط أول من ثمن تذكرة القطار من برلين إلي هنا. وفي الختام قال «ميمت» بلطف:
- سآخذك فيما بعد إلي الملجأ القميء.
عندما غادرنا المبني كان الظلام سائدا. اتباعا لنصيحة طبيبي بعد العملية التي تحتم عليّ أن أتمشي قليلا كل يوم، طلبت من «ميمت» أن يرافقني حتي كشك الصحف وهو ما فعله الشاب الطيب راضيا، لأنه كان بحاجة إلي شراء سجائر.
وجدت بالفعل نسخة من ال «تاتس» بكشك الصحف الذي يقع بعيدا بعض الشيء عن مكتب الأجانب، وعندما أمسكت بها شعرت بالسعادة لأنني أجريت قياس ضغط الدم قبل ذلك. وصلت دقات قلبي حتي عنقي، وعندما فتحت أصابعي المرتعشة الصفحة التي كنت أبحث عنها، توقف قلبي لبرهة عن الخفقان. حقاً! هناك، في صدر الصفحة الثقافية، رأيت صورة معطفي. تعرفت عليه علي الفور.
وضعت يدا علي قلبي كي أغطي علي صخب ضرباته، وطلبت من «ميمت» أن يترجم لي قدر استطاعته الحوار مع المعطف. نعم، كان الحوار في الحقيقة مع المعطف.
لست متأكدا ما إذا كنت فهمت كل شيء علي نحو صحيح، كما أنني لست متأكدا ما إذا كان «ميمت» فهم كل شيء علي نحو صحيح. علي كل حال كان العنوان واضحا لا لبس فيه:
«السلام ليس أهم شئ.»
الظاهر أن المعطف أوضح في الحديث أنه كأحد المعنيين بالأمر لا يستطيع أن يختار اختيارا بريئا، بخلاف الصحافية من ال«تاتس» التي كانت تعارض معارضة حاسمة حرب العراق لأنها لا تريد أن يلحق الضرر بأحد، وأنه لا يعطي قيمة خاصة للسلام في بلد يشن حاكمه حربا علي شعبه.
وعندما سئُل عن دور المثقف أجاب المعطف أن الدنيا عندنا تقوم ولا تقعد إذا لم يستطع كاتب جاهل التفرقة الصحيحة بين آية قرآنية وحديث نبوي، أما إذا هاجم الكاتب زميلا له هجوما سياسيا فإن هذا لا يعني شيئا. عبثا حاول المعطف أن يوضح أن المنشق في بلادنا ليست له الأهمية التي يتمتع بها في أوروبا الشرقية. وأضاف قائلا: «الديكتاتورية ليست تهمة جسيمة في دول خضعت دون ندم لحكامها الديكتاتوريين.»
كلما مضي «ميمت» في القراءة، ازداد اقتناعي بأن المعطف يقوم بمهمته بشكل جيد، وازداد يأسي من الصحافية التي كانت تتحدث معه.
لماذا قبلتْ دون أدني اعتراض كل ما يقوله المعطف، إذا كانت تريد، حقا، أن تعرف شيئا عنا وعن تناقضاتنا؟ أم أن هذا الحوار كله لا يهدف إلي شيء سوي تسلية غير المعنيين بالأمر؟ أم أن الأمر ليس جادا مطلقا؟ ربما لا ينتظرون من المعطف شيئا سوي الثرثرة مع ممثلي ثقافة أخري؟ بدا لي أن بإمكانه أن يقول ما شاء، رغم ذلك فسوف يُستقبل كلامه بالاحترام والتهذيب، وكأن توجيه اللوم لممثل ثقافة غريبة تماما بسبب الجوانب السلبية في تلك الثقافة هو موقف ما بعد كولونيالي. تولد لدي الانطباع بأن هذا المقابلة الصحفية ساهمت في إحياء أسطورة كادت تختفي: أسطورة الشرق كوحدة اجتماعية وثقافية تقف في مواجهة الغرب.
فيما بعد قلت لنفسي إنني شخصيا ما كنت تقريبا سأقول شيئا آخر أو أفضل مما قاله المعطف. كان ذلك شيئا مُهدئا إلي آخر مدي، من ناحية أخري كان أمرا مُحبطا.
لكن الإحباط كان ترفا لا أقدر عليه، هذا ما أدركته بمجرد أن دخلت دار الإيواء، والتي كانت قطعا أكثر مكان منفر وطارد رأيته في ألمانيا حتي تلك اللحظة. ما كدت أحصل علي سرير حتي اقترب مني ثلاثة شبان جزائريين. كانوا أول مَن فهمت لغتهم فهما تاما، ولذلك لم تكن هناك حاجة مطلقا إلي السكين الذي أمسك به أحدهم في يده حتي يؤكد رغباته بالإشارة. لقد فهمت أن السادة يريدون الحصول علي الجاكت الصوفي الذي ارتديه وكذلك علي الحذاء المصنوع من جلد حيوان بري والذي اشتريته في باريس، وذلك لأنني شيعي، بالإضافة إلي أسباب أخري.
ليس بي ميل إلي الاستشهاد، لذا لبيت طلبهم دون أي اعتراض.
لم تكن هذه سرقة علي كل حال، بل مقايضة، إذ إنهم في المقابل ألقوا أمام قدمي زوجا من الأحذية الرياضية بدا وكأنه ظل في البحر عدة أشهر قبل أن يُنتشل منه، وهو ما أكدته الرائحة التي فاحت منه أيضا، كما رموا بسترة بدلة رياضية علي السرير الصغير. لبرودة القاعة ارتديت السترة علي الفور، رغم أنها كانت علي ما يبدو في المركب نفسها التي تحطمت.
في اليوم الثاني لي هناك وجدت خلال تمشيتي الروتينية نسخة من صحيفة «فرانكفورتر ألجماينه» حيث نُشرت أخيرا مقالة عن الندوة التي شارك فيها المعطف الذي أصبح في تلك الأثناء يعرف ألمانيا أفضل مني.
وجدت صديقا في الدار يجيد الألمانية ويستطيع ترجمة المقالة. كان شابا ورعا لفت نظره أنني رفضت الشرب من زجاجة البراندي التي انتقلت من يد إلي يد، وذلك لأن الطبيب منعني من احتساء المشروبات ذات النسبة العالية من الكحول. فسّر الشاب ذلك تفسيرا مختلفا.
قال الشاب:
- أنت مسلم ملتزم يا أخي.
هززت كتفي وغمغمت قائلا:
- إن شاء الله.
ابتسم وأضاف:
- الشبان من كوسوفو يسيطرون هنا علي رؤوس الأدشاش التي فكوها، وهم يؤجرونها بثمن باهظ. لكني أتفاهم معهم جيدا، وسأحصل لك علي رأس دش، عندئذ تستطيع أن تتحمم.
رغم أن المقابلة الصحفية مرت بسلام، انقبض صدري عندما أعطيت الصفحة الثقافية في الجريدة للشاب الذي قدم لي الحماية.
«ألقي الشاعر محاضرته بلغة عربية تسيطر عليها أصوات حَلْقية، ما أكد اللهجة المنبرية الملحمية للشعر الشرقي، وصاحب الإلقاء إيماءات مسرحية خطابية سريعة للغاية. في مواجهة كل هذا «الإكزوتيك» شعر الجمهور المتحمس بأنه يقف أمام أحد الحكواتية في ساحة جامع الفنا في مراكش أو أحد الحواة المتلاعبين بالأفاعي، أو أمام شهر زاد شخصيا.»
خبطت كفي علي رأسي. من الواضح أن المعطف ترك العنان لنفسه وقام بتقليد أدونيس، لكن الصحافيين ضلوا طريقهم قليلا أمام شعرٍ مرجعيته بريشت ورينه شار.
«في ندوة النقاش التي أعقبت ذلك، والتي جرت بالطبع في ظلال الحادي عشر من سبتمبر وحرب أفغانستان، تولد لدي المرء الشعور عند طرح بعض الأسئلة أننا نواجه قشرة مثقف عربي فحسب. غير أنه كان في لحظات أخري يقوم بدوره المُتوقع منه. عندما قال إن الحوار بين الحضارات الذي نظمت الأمسية في إطاره ليس إلا أسطورة، وإنه ليس هناك طرف آخر مطلقا، وإن الحوار يحدث في داخله منذ نعومة أظفاره، وإنه يشكل أساس عمله، وإن كراهية الغرب أيضا تعني دائما كراهية الذات للغرب الموجود داخل الإنسان نفسه؛ في تلك اللحظات كان المرء يشعر بأنه لا يدير معطفه حسب اتجاه الرياح التي تهب قوية في الوقت الحالي في وجه المثقفين العرب، بل إنه يعبر عن رأيه دون انتهازية أو وصولية. لكن يبقي السؤال عن الولاءات والقناعات الحقيقية. هل تتم التغطية هنا علي صراع أعمق من أسئلة الفن؟ حتي بعد أمسية إكزوتيكية ومدهشة كهذه يبقي الكثير مما لم يُسأل ولم يُقَل.»
أعترف أن الأمور كان من الممكن أن تكون أسوأ من ذلك. سألني صديقي، واليوم هو الجمعة، ما إذا كنت أريد الذهاب معه إلي المسجد، ورغم أنني لم أضع قدمي في مسجد منذ 25 عاما علي الأقل، فقد بدا لي أن مَن الجحود رفضَ عرضه.
ستظل زيارة المسجد هذه في ذاكرتي طويلا، وذلك من نواحي عدة؛ أولا لأنها عادت بي بشكل غير مباشر إلي برلين، وثانيا لأنني منذ ذلك اليوم لا أتذكرها إلا وأفكر في الفضيحة التي علي ما يبدو حدثت في آخر أيام الجولة الأدبية، والتي لم أعلم عنها شيئا إلا فيما بعد، وبالتدريج.
كانت خطبة الجمعة في ذلك المسجد البائس - لا أعرف أي رابطة إسلامية تسيطر علي ذلك المسجد الذي يقع في الفناء الخلفي لأحد البيوت – أسوأ من كل الخطب التي سمعتها في صور أو القاهرة من شيوخ حزب الله أو الإخوان المسلمين، لأن هذه الخطبة لم تهاجم كالمعتاد الأمريكان والصهاينة، بل هاجمت غير المؤمنين جميعهم في دول العالم كله. هنا، هكذا فكرت، سيجد الصحافيون ما يبحثون عنه في صراعهم بين الحضارات، أكثر مما سيجدون لدي المعطف الذي انكشف أمره كمعادٍ للسامية خلال دعوة خاصة وجهت إليه في ختام جولته الأدبية.
فيما بعد قرأت: «إثر دعوة من أحد أشهر الكتاب الصحفيين، وهو كاتب – هكذا قالوا للضيف قبل الدعوة علي سبيل الاحتياط – يهودي، رفض المعطف تناول أي طعام من الأطعمة التي طبخها رب الدار بنفسه. أما خلال حفل الاستقبال العام اللاحق فإنه حشا جيوبه حشوا بالمُقبلات الصغيرة التي قدمت هناك. حتي وإن اعتُبرناه غربي التوجه مقارنة بخلفيته الثقافية الأصلية، فإننا هنا أمام شخص يعيش محنطا في الأحكام المسبقة والأكاذيب التاريخية، ولذلك فإن الحوار معه لا يمكن أن يكون سوي شيء واحد: تنوير عقله، وشرح الأمور له في صبر وكأنه طفل.»
من زاوية معينة رحبتُ ترحيبا مزدوجا باندلاع هذا النفور، لأنه كان قطيعة صادقة مع ما حدث حتي الآن من تبادل للعبارات المهذبة، ولأنني في ذلك المسجد الرمادي في أحد أحياء هامبورج كنت بالفعل شاهدا علي سيل الكلام المعادي للسامية. لذلك تحملت مسؤوليتي الشخصية عن هذه التهمة، وقبلت بها. أما فيما يتعلق بالحادث نفسه، فقد عايشت حفلات استقبال اختفت فيها السندوتشات في جيوب دبلوماسيين وموظفين ساميين، أما عندما يقوم معطف بحشو جيوبه، بدلا من تناول الطعام، فقد بدا لي ذلك دليلا ضعيفا علي اللاسامية.
فيما بعد سمعت من تورستن هابرلاند الذي حضر الواقعة أن سيد الدار حكي في تلك الأمسية عن شعوره بالرضا عندما رأي نجمة داوود علي الدبابات التي اقتحمت رام الله وبيروت، وأن ذلك كان هو السبب في فقدان المعطف شهيته فجأة.
لنعد إلي ذلك المسجد البائس: شيء ما فيّ أثار الانطباع لدي صديقي، صاحب رأس الدش، أو ولّد أملا لديه في أن أصبح مجاهدا من أجل صحيح العقيدة، وأعترف أنني حسمت أمري بسرعة غير معتادة بالنسبة لي، ووافقت علي الفور عندما قال لي إن عليّ من أجل هذا الغرض أن أقابل شيخا في برلين.
أن أغادر دار إيواء اللاجئين الباردة والمتقشفة، وأن أجرب حظي في برلين بعد أن انتهت الجولة الأدبية علي كل حال، وأن أحاول الإمساك بحياتي مرة أخري: هذه الفكرة جعلت مني شخصا يفكر تفكيرا تكتيكيا. أوصلني أخي في الدين إلي صديق، «مجاهد» مثلما أطلق عليه، اصطحبني في سيارته إلي برلين علي نحو غير مشروع، علي أنغام موسيقي «الراي» التي تصم الآذان، ثم أعطاني عنوان مسجد في حي موآبيت. عليّ الذهاب إلي هناك ومقابلة الشيخ.
أعترف أنني بمجرد وصولي إلي برلين، كان ذلك ضحي يوم الاثنين، بعد مرور أسبوع علي بداية رحلتي، لم أحاول الذهاب إلي موآبيت، بل طلبت من سائقي أن يأخذني إلي حي غرونهفالد، وتحديدا إلي ذلك المنزل الأرستقراطي حيث بدأ كل شيء.
عندما صعدت الدرجات الموصلة إلي المدخل كنت أرتجف مثل فتاة صغيرة قبل أول موعد غرامي، أو كممثل يرتعش قبل دخوله إلي خشبة المسرح.
فتحت الباب، فاكتشفت أن مقعد الاستقبال شاغر. السيدة الشقراء ذات النظارة لم تكن هناك.
لكن معطفي كان هناك، هذا ما لمحته عيني في النظرة الثانية التي جلتُ بها في البهو الساكن سكون الأموات. كان معلقا علي المشجب، تعرفت عليه فورا. اقتربت منه وأنا أدور نصف دائرة عبر الغرفة، مستعدا للهرب في أي لحظة، ثم حُمتُ حوله مقتربا وقلبي يخفق، ولمسته بإصبعين.
تحرك القماش قليلا، مثل قماش أي معطف عندما يلمسه المرء.
عندئذ تغلبت علي حذري، وأخذت المعطف من المشجب بشجاعة اليائس، وألقيته علي جسدي، ثم أدخلت ذراعيّ فيه بثقة وسلطة، فوجدته يستجيب بلا مقاومة.
لم أصدق حظي الطيب، كما لم أثق في حواسي. مددت كلتا يدي في جيبي المعطف. يا لسعادتي! إنها هناك! محفظتي! لا ينقص منها شيء! بطاقة أمريكان إكسبريس موجودة. وهنا جواز سفري. وهناك الورقة بكافة المعلومات عن الجولة الأدبية. وفي الجيب الأيمن أيضا الإيصال من المطار بتاريخ الشراء: «لودن فراي». موديل هوبيرتوس. سعر خاص: 369 يورو.
إنه معطفي!
في تلك اللحظة اقتربت السيدة الشابة ذات النظارة من مكتبها. ألقت علي نظرة من عليائها، ثم انفرجت أساريرها.
«أهلا وسهلا بك مرة أخري! آمل أن تكون قضت جولة أدبية جميلة. لقد عدت في وقتك تماما لتناول طعام الغداء. المائدة معدة في المطعم.»


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.