«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الدراما المصرية الضائعة
نشر في روزاليوسف الأسبوعية يوم 04 - 09 - 2010

لا أحد في تليفزيون الدولة ولا القنوات الخاصة يمكنه ادعاء أنه يملك سياسة يحدد وفقا لها الأعمال الدرامية التي يشتريها أو ينتجها للعرض علي شاشاته خلال شهر رمضان الذي يمثل ذروة المشاهدة والحد الأقصي للتفاعل والتأثير علي الجمهور العام.
معايير الاختيار القائمة حاليا بائسة وناقصة وعاجزة، تعبر عن سوق عشوائية مرتبكة وإعلام هيستيري أعمي، وهي حقيقة مزعجة ومريرة لا يجمّلها ولا يستطيع أن يخفيها وجود صناعة دراما مصرية نشطة ومتوسعة ومجتهدة إبداعيا وتقنيا.
علي العكس فإن هذا يحول الأمر إلي أزمة لأن معناه أننا نملك طاقات بشرية متوهجة ورءوس أموال متحركة يتم إهدارها في إطار اللانظام واللاسياسة لتضخ في أعمال متعثرة أو متعجلة أو مبتذلة ورخيصة أحيانا أو علي أفضل الأحوال لمجرد الاستهلاك الدرامي، أما الاجتهادات الشخصية التي يملك صُنّاعها رؤي وطموحا ودقة في التنفيذ وحرصا علي المزج بين جاذبية المنتج الدرامي ووعي المحتوي، فمصيرها يعتمد إلي حد كبير علي المصادفة لأنها إذا لم تكن تحمل اسم نجم كبير من نجوم التسويق التليفزيوني «الفخراني أو نور الشريف أو يسرا أساسا»، فلا يستطيع صُنّاعها أن يضمنوا تسويقها، وبالتالي عرضها بما تستحقه من فرصة رواج وتأثير وتفاعل مع الجمهور، وذلك بصرف النظر عن استثناءات نادرة تؤكد القاعدة مثل مسلسل «الجماعة» لأن مؤلفه والمشرف العام علي إنتاجه هو «وحيد حامد»، وهو حالة خاصة يملك من رصيد المواقف والتاريخ والتأثير الشخصي والجودة ما يجعله قادرا علي حفر طريق مناسب لإبداعه، وإن كان ذلك يأتي بجهد مضاعف منه، ومع هذا لا يحميه من أن يصطدم أيضا بمعايير مشوهة جعلت التليفزيون المصري وقناة خاصة وحيدة وأخري عربية مشفرة هي التي تشتري مسلسله وتعرضه، وعلي أي حال فإن ما حدث يعتبر إنجازا، ولنا أن نتصور مصير «الجماعة»، إن لم يكن المؤلف هو «وحيد حامد»، حيث إن المسلسل لا يعتمد علي اسم بطل من نجوم التسويق التليفزيوني. أغلب الظن أن هذا العمل لم يكن لينتج أساسا، ولو وجد منتجا مغامرا لم يكن ليستطيع أن يعرضه لأن مواقف القنوات التليفزيونية كانت ستتراوح بين الجبن أو التواطؤ مع جماعة الإخوان!
--
وحتي نضع هذا التحليل في إطاره يجب أن أؤكد أن المقصود هنا ليس مجرد شعارات استخدمناها في مصر عبر عقود متوالية، وكانت «حقا» أدي إلي «باطل» أو «نوايا حسنة» قادت إلي «جهنم» مثل الحديث عن «دراما هادفة» أو «توجيهية» أو «نظيفة» أو تحافظ علي «عادات وتقاليد» إلي آخر هذه اللافتات التي تحولت إلي لغو حقيقي.
المقصود هنا أن يكون لدينا نظام حاكم للإنتاج الدرامي له أصول وأدبيات وأدوات إبداع وتسويق وأن يكون لدينا سياسات محددة تحكم عمل المؤسسات الإعلامية، والجهات الإنتاجية - رسمية أو خاصة - تستطيع أن تحدد بمقتضاها ما تحتاجه والجمهور الذي تستهدفه والرسالة التي ينبغي عليها توجيهها والمستوي الذي تحرص عليه والجدوي الاقتصادية لاستثماراتها في الدراما.. ولكن للأسف وحسبما تؤكد حقائق الواقع علي الشاشات فإن هذا لايحدث.. وأتحدي لو أن مسئولا هنا أو هناك استطاع أن يجيبك إذا سألته: ماذا تستهدف؟ وما سياستك في الإنتاج أو العرض؟ وما خطتك المستقبلية؟ ومن جمهورك؟ وما الرسالة التي تريد توجيهها إليه؟ وهل قست مدي نجاحك في ذلك؟
أقصي ما يحدث الآن وما تحول إلي معيار وحيد هو بحوث المشاهدة ومعدل الضخ الإعلاني الذي تتحدد علي أساسه مراكز القنوات والبرامج والمسلسلات بلا تحليل لأي مضمون.. وهو معيار سوقي سطحي المؤكد أنه مهم، لكنه لا يكفي وحده إطلاقا.
.. وأعتقد أن دولة مثل مصر بدأت الإنتاج الدرامي منذ 50 عاما لا يمكن تصور أنها لا تملك سوقا منظمة ولا سياسات واضحة ولا أصولا وأدبيات في هذا المجال من الإبداع الفني والنشاط الاقتصادي بانعكاساته ومردوده الاجتماعي والسياسي الخطير، ولكن هذه هي الحقيقة بكل أسف والتي تجعلنا دائما في مهب الريح وتحت رحمة المصادفات والتغيرات الاقتصادية والسياسية. (راجع أزمة طغيان الدراما السورية قبل سنوات قليلة وتحالف قنوات التمويل والعرض الخليجي معها، وكيف كان هناك ارتباك شديد بسببها وعجز عن فهمها وكيف تم التعامل معها بمنطق لحظي يعتمد علي التوسع في كم الإنتاج المصري فقط).
--
هذه القواعد إذن غير موجودة، بل إن الأمور وصلت إلي حدود الاستهتار والعبث لدرجة أن أي قناة تليفزيونية - بما فيها تليفزيون الدولة - تنتج وتشتري وتعرض دون حتي أن يكون لديها فرصة مشاهدة أي عمل درامي كاملا قبل عرضه ولو لمجرد الاطلاع علي محتواه وجودته، فأغلب المسلسلات تكون في مرحلة المونتاج، بل التصوير والكتابة أحيانا، ويظل الأمر هكذا ربما حتي آخر يوم من موسم الذروة «رمضان».. وهكذا أيضا فالمصادفة والحظ وحدهما يحددان نسبة الجيد أو السيئ.. المكسب أو الخسارة فيما تعرضه أي قناة، ومن ناحية أخري فإن هذا الوضع يفتح أبوابا لأزمات وأخطاء يقف أمامها أصحاب قرار العرض عاجزين بدءا من اكتشاف رداءة المستوي أو انسحاب المعلنين، ومرورا بأزمة من ذلك النوع الذي فجره مسلسل «زهرة وأزواجها الخمسة»، حيث تم اتهامه بتشويه صورة الممرضات، والمؤكد أن أياً من المسئولين في القنوات العديدة التي تعرضه لم يشاهده قبل العرض، بصرف النظر عن أنني لا أراه يمثل أزمة، فهو مجرد دراما تنتمي لنوعية الثرثرة والنميمة الاجتماعية وصُنّاعه لا يهدفون إلي شيء سوي صنع توليفة مسلية بمواصفات ذوق شعبي سائد يقبل عليها دون شك، وذلك من خلال اللعب علي تنويعة لنفس المؤلف «الأستاذ مصطفي محرم» استخدمها منذ سنوات في مسلسل آخر «الحاج متولي» وحقق نجاحا كبيرا وأثار أزمة مشابهة، وإن كان المسلسل الأقدم من وجهة نظري أكثر نضجا ووعيا في اللعب علي تركيبة وتراث وتناقضات شخصية الرجل المصري وأرقي فنيا أيضا في الكتابة والإخراج والأداء التمثيلي.. بينما لا يستطيع أحد للأسف أن يدافع عن «زهرة» رغم أن الأزمة المثارة بسببه مفتعلة.. ولكنها لا تقل عن افتعال المسلسل نفسه، وهو نفس الدفاع الذي لن يجده مسلسل مثل «العار» هو مجرد إعادة استهلاك للفيلم السينمائي الناجح الذي قدمه منذ سنوات طويلة الكاتب الأستاذ محمود أبوزيد، ولكن المسلسل جاء مجرد ثرثرة شعبية وأقبلت علي عرضه قنوات عديدة - علي رأسها التليفزيون المصري - قبل أن تفاجأ بأنه أثار حفيظة قطاعات في المغرب رأته يسيء إلي المرأة المغربية من خلال أحد الأنماط النسائية الموجودة بين شخصياته.. وبصرف النظر عن أن العمل لا يهدف إلي ذلك قطعا ولا يحمل أي قضية أساسا، إلا أنه أمام هذه الأزمة اضطر رئيس اتحاد الإذاعة والتليفزيون المصري لإصدار «بيان» يؤكد فيه أن التليفزيون المصري لا يسمح بالإساءة إلي المرأة العربية علي شاشاته.
وحتي مسلسل «الجماعة» الذي لاقي ما يشبه الإجماع النقدي علي جرأته وقوته إبداعيا وفكريا يثير الآن جدلا حول طبيعة تأثيره علي الجمهور العام.. ورغم أن ذلك طبيعي بالنسبة للأعمال الكبيرة والرائدة، إلا أن المزعج أن مسلسلا بهذه الخطورة وبحساسية القضية التي يفجرها والشخصية التي يتعرض لها «مؤسس الإخوان حسن البنا» مازال في مرحلة التصوير بما يعني أن الخطأ وارد والباب مفتوح أمام أي تعثرات أو مفاجآت غير متوقعة في عمل يحتاج إلي أقصي درجات الدقة.. بل إن الأكثر فداحة من هذه الأمثلة أن أحد الأعمال الدرامية المعروضة في رمضان التي قام ببطولتها والمشاركة في إنتاجها نجم جماهيري شاب «أحمد مكي» وهو مسلسل «الكبير قوي»، توقف عند منتصف الشهر لأن بطله تعرض لإصابة تمنعه من مواصلة التصوير الذي - كالعادة - لم يتم، وهذا أمر لا يمكن قبوله إلا في سوق لا يحترم نفسه ولا مستهلكيه.
--
في المقابل يتأكد الجانب الآخر من كارثة اللاسياسة واللانظام اللذين يسيطران علي صناعة الإعلام والدراما، حين نتعرض لمسلسل مثل «قصة حب» للكاتب د. مدحت العدل والمخرجة إيمان الحداد.
وفي تقديري إن هذا المسلسل حالة يجب التوقف أمامها بالدراسة لأنها بقدر ما تكشف العوار علي مستوي قرارات العرض وسياساته، تكشف أيضا حالة إبداع ذكية وواعية أهدرها إعلام متعجل وأوضاع سوق عشوائية.
«قصة حب» الذي أعتبره يتعرض لتشريح مجتمعي ديني لا يقل خطورة عما يقدمه مسلسل «الجماعة»، اشتراه التليفزيون المصري حصريا «بما يعني عدم عرضه في أي فضائية مصرية أخري»، ورغم أن المسلسل كان ضمن مسلسلات قليلة جدا قد تم الانتهاء من تصويره كاملا قبل رمضان بشهر تقريبا، ورغم أن 15 حلقة منه كانت جاهزة للعرض تماما، ورغم أن لجنة المشاهدة في التليفزيون كان متاحا لها - عكس المعتاد - رؤيته وتقييمه.. إلا أن قرار مسئولي تليفزيون الدولة كان هو عرض هذا المسلسل المهم والمتميز فنيا علي قناة فرعية هي «دراما 2» بدأ بثها قبل 24 ساعة فقط من بداية شهر رمضان، إلي جانب عرضه علي الفضائية المصرية في الساعة الثانية صباحا.. والعجيب أن نفس المسئولين هم الذين وجدوا أن مسلسلا مثل «أزمة سكر».. يستحق العرض علي القناة الأولي!
علي أي أساس تم التقييم واتخاذ القرار.. لا تسأل!
لا تسأل، ولكن النتيجة المؤكدة أن أحد أهم المسلسلات من وجهة نظري لم يأخذ فرصة يستحقها في العرض علي الكتلة الجماهيرية الأكبر.. وأظن أن القرارات في تليفزيون الدولة لا يجب أن تؤخذ فقط بمعيار المنافسة التسويقية، بل عليها أن تراعي طبيعة المحتوي المعروض، وهو في هذه الحالة من أجرأ وأذكي ما يمكن أن تقدمه الدراما، إلي جانب أن صُنّاعه وفقوا في تقديمه عبر قالب بسيط وجذّاب وعميق واستطاع كاتبه أن يقفز فوق ألغام التعرض لفكرة مثل سيطرة الفكر الديني المتطرف علي المجتمع، وأتصور أن عرضه في قناة رئيسية وفي وقت مناسب كان سيعطي «بالتوازي مع مسلسل «الجماعة» زخما مطلوبا وقيمة مضافة لا ينبغي إهدارها، بل أتصور أنه كان سيقلل من الالتباسات التي حدثت بالنسبة للبعض تجاه الرسالة التي يعرضها «الجماعة».. وعلي أي حال يجب علي التليفزيون المصري أن يفعل هذا بعد رمضان.
«قصة حب» يطرح قضيته من خلال المقابلة بين مؤسستين: إحداهما مؤسسة بناء ومستقبل وعلم وأمل هي «المدرسة» والأخري مؤسسة «التطرف» بكل آليات الهدم والتخلف والعودة إلي الوراء التي تمثلها.. مؤسسة يفترض فيها أنها تمثل مجتمعا يقبل علي الحياة وأخري تكَفِّر المجتمع وتسعي لتدميره.. والمدهش أن يكون الخيط الأساسي الذي تدور من خلاله الأحداث وتتحرك الشخصيات هو قصة حب بين طرفي النقيض: «أرملة إرهابي منقبة شابة» ولدها الوحيد المراهق ورث التطرف عن أبيه، ويعتبر أن له ثأرا في رقبة جهاز أمن الدولة «الكافرة».. و«ناظر مدرسة» يمثل أخلاقيات تسامح ومبادئ مثالية وفكرا مستنيرا وإخلاصا لمهنته وللدور الذي يؤديه ونزاهة وإرادة في مواجهة الفساد.
ورغم أن هذه العلاقة تبدو مستحيلة وغير منطقية واقعيا لأن الأفكار والشخصيات والسياقات الاجتماعية المتناقضة إلي هذا الحد لا يمكن أن يجمعها طريق واحد، إلا أن خلفيات الأحداث وتداعياتها والمعني الذي سيصل حتما للمشاهد بشكل غير مباشر هو أن النسيج الأصلي للمجتمع والأفكار المتناغمة مع طبيعته وشخصيته الحقيقية هي التي ستكون - أو يجب أن تكون - لها اليد العليا والتأثير الأقوي وهي التي تستطيع - أو يجب أن تستطيع - أن تذيب كل ما هو شاذ أو دخيل عليها.. وهكذا فإن «ناظر المدرسة» الهادئ المتسامح يبدو هو الأقدر علي تغيير من حوله ومواجهة شطحاتهم ونزواتهم وشراستهم، وحتي المرأة التي أحبها استطاع أن يري فيها ما وراء نقابها الأسود بدرجة دفعتها إلي أن تعيد هي نفسها النظر إلي نفسها من الداخل لتكتشف تدريجيا كيف قررت أن تضع نفسها داخل سجن تعودت عليه وحاولت أن تحبه لدرجة أنها حين تأتيها فرصة الخروج منه تصبح خائفة لأنها لا تعرف كامرأة شيئا عن الحياة خارج النقاب.
وأهم ما يحسب لهذه الدراما الذكية هي أنها لا تدعي وحدها الفهم ولا تدفعك قسرا إلي تبني موقف محدد سلفا ولا تكتفي بالاستغراق في الرصد والتشخيص وإظهار التناقضات فقط، بل إن الخيال الإبداعي فيها يتجاوز ذلك بأسلوب أظنه غير مسبوق، فهو يريد فقط أن يستشعر المشاهد إحساس كل ما هو «عادي» ويشتاق إلي هذا «العادي» لأنه ببساطة لم يعد موجودا، ومع غيابه في سلوكياتنا وعلاقاتنا ومواقفنا ونظرتنا للحياة يتأكد لنا أن «العادي» في مجتمعنا هو أن تكون الحياة أكثر تسامحا وبساطة وجمالا حتي لا نعيش - كما يأتي في تيتر المسلسل - «أيام شبه الأيام لكن مش هية».. وهكذا فإن المدرسة الثانوية التي نراها في المسلسل تحت إدارة الناظر «ياسين الحمزاوي» «جمال سليمان» ليست هي قطعا المدارس التي نعرفها الآن جميعا في مصر، لكنك عندما تشاهد ما يفعله فيها ستكتشف أنه ليس هناك ما يمنع أن تكون واقعا لو أننا مثله وهو في الأول والأخير مجرد رجل «عادي».
--
أخيرا، فإنني أؤكد - استكمالا لما سبق وكتبته - أن الدراما المصرية الآن دخلت عصرا ذهبيا من حيث نشاط الصناعة وتنوع الأفكار وجرأة وذكاء عدد لا يستهان به من مبدعيها.. وفي وقت يتعاظم فيه تأثير التليفزيون وانتشاره، فإن التعامل معها لا ينبغي أن يظل واقفا عند حدود أنها مجرد إنتاج فني للتسلية والاستثمار، فالذراع الطولي لمصر التي كانت ممتدة إقليميا عبر السينما بكل تأثيراتها سياسيا واجتماعيا ودينيا، بل حضاريا يمكن الآن أن تعيده الدراما التليفزيونية، وبالتالي فقد أصبح محتواها ومستواها وتأثيراتها مسئولية نتشارك جميعا في حملها، وهو ما لا يمكن أن يؤدي لنتائج إيجابية بلا سياسة ولا نظام يتم تداول هذه الدراما في إطارهما وتحت مظلتهما.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.