إفساد الذوق العام» هى التهمة السريعة الجاهزة التى يطلقها النقاد الجادون ضد صانعى الأفلام الهابطة من مؤلفين ومخرجين وممثلين.. ورغم أن المصطلح مطاط، فليس هناك ما يسمى بالذوق العام، حيث إن رواد السينما هم مجموعة متنوعة متنافرة من البشر مختلفى الأعمار والأجناس والثقافات والاتجاهات والميول والعادات والأذواق.. فإنه من الملاحظ أن الأفلام ذات الطابع السوقى والمبتذل تنجح نجاحًا جماهيريًا كبيرًا وتحقق إيرادات ضخمة.. كما أنه من الملاحظ أنه حينما يستشرى الفن الهابط.. يتعود الناس تدريجياً على القبح.. تحكى ذلك أقصوصة من التراث الصينى القديم عن موسيقار شهير كان يعزف على قيثارته القديمة، فلمح ثوراً منهمكًا فى أكل العشب فأخذ يعزف له بعض الألحان.. إلا أن الثور ظل منهمكًا فى الأكل وكأنه لم يسمع شيئًا.. فما كان من الموسيقار إلا أن عزف ألحانًا تشبه طنين البعوض وخوار البقر.. ولم تكد الألحان تتصاعد حتى انتبه الثور مسترقًا السمع بعمق وتركيز واستمتاع. أى أنه فى ظل غياب الجمال يمكن أن يعتاد الناس على القبح حتى يتصوروه جمالاً.. وأنا أوافق الشاعر الكبير «فاروق جويدة».. حينما قال فى مقال له: «أصبح للفن الهابط جمهوره.. ونشأت أجيال كاملة على هذا الإنتاج السيئ.. وبعد أن كنا نتصور أن القضية ليست أكثر من بعض المياه الملوثة التى تسربت للنهر فى غفلة منا.. وجدنا أنها اجتاحت مجرى النهر كله». ولأنه فى البدء كانت الكلمة، فإن السيناريو هو المسئول الأول فى الأفلام الهابطة عن جريمة إفساد الذوق العام.. والسيناريست هو ذلك الفنان المسئول عن البناء الدرامى والحوار ورسم الشخصيات وتأليف الأحداث وإنشاء الصراع للفيلم.. ونظرًا لأن البناء الدرامى فى هذه الأيام آيل للسقوط.. حيث إنه مخالف للمواصفات، فقد أصبحت مهنة كتابة السيناريو نهبا لقعيدات الشلت وهوانم الطبيخ وكمسارية النقل العام.. وصبيان حيتان المنيا ومشهلتية الجمارك.. لذلك فإن اسم «سيناريجى» المشابه لكلمة «فوريجى» هو أنسب تسمية وأبلغ تعريف لتلك الفئة المنتشرة فى بلادنا انتشار فيروس الكبد الوبائى والتى أتشرف بأن أكون واحداً من أبنائها.. ويسعدنى أن ألتقى بكم لكى أنقل لكم خلاصة فكرى وتجربتى فى إفساد الذوق العام وانتحار الجمال وسيادة القبح. - 1 - ضمتنى جلسة ممتعة مع الزملاء المتمردين الغاضبين الواعدين المثقفين من أبناء المهنة فى مقهى «يا أيها الرافضون اتحدوا» فتداخل الحديث الشيق وتشابك وتنافر وانقسم وانبعج حول السينما البديلة و«السينما الساخطة» و«السينما القذيفة» و«السينما العبوة الناسفة».. وكان حواراً جدليًا عبثيًا ثوريًا بديعًا تمخض عن ابتداع أشكال ومضامين وتوجهات حديثة، فقد أعلن «يسرى متجاوز» طرحه لرؤية مستقبلية كونية.. تتلخص فى ضرورة إلغاء «شريط الصوت» فى السينما التقدمية التى يبشر بها.. وصرح «مجدى زرادشت» بحتمية إلغاء «شريط الصورة» فى السينما الطليعية التى يراهن عليها محددًا فلسفته فى استقطاب المتلقى ليشاهد أفلام «العتمة» كمرادف لإظلام الوجود وعبث الحضارة البرجوازية المنحطة.. أما «هشام يونيسكو» الذى تبنى زعامة مدرسة «الموجة الجديدة» فى السينما العبثية المعاصرة فقد انبرى يتحدث فى ثقة وخيلاء عن أهمية إلغاء المتفرجين، والاكتفاء بالكراسى القطيفة الفارغة كرمز لخواء البشرية العرجاء.. ودمامة زمن القهر الوجودى السرمدى. حبست أنفاسى وفغرت الفاه والأنف إعجابًا وانبهارًا بغزير ثقافتهم وعمق رؤيتهم.. وبقيت متسمرًا فى مكانى مشدوهًا، ولم يوقظنى من غيبوبة نشوة الانبهار.. سوى تطاير الكراسى، وتناثر المناضد.. وتهشم الأكواب بعد اختلاف الزملاء الأعزاء حول سؤال منطقى وحتمى ومصيرى هو: من يدفع ثمن المشاريب؟! -2 - عدت إلى منزلى وشرعت فورًا فى الجلوس إلى مكتبى لكتابة الحلقة التسعين من الجزء العاشر لمسلسل «وآه.. وآه منك يا ملودنى» وما إن بدأت فى كتابة المشهد الأول حتى رن جرس التليفون.. وكان المتحدث هو الأستاذ الشهير «حمدى أبو سريع» مخرج الهدم والردم والمقاولات فأخبرنى بضرورة التوجه إليه فورًا لأمر مهم. -3 - وفى مكتبه الأنيق استحلفنى «أبو سريع» بكل رخيص وغال.. فى توسل وذلة أن أنقذه بالشروع فورًا فى كتابة سيناريو فيلم «ميلودرامى» كوميدى غنائى بوليسى استعراضى، حيث إنه وقع العقد مع المنتج والموزع المعروف «إلياس شمهورش» الذى كان يرتزق فيما مضى من قراءة الكف وتفسير الأحلام لرواد المقاهى والحانات ثم تلقفته الفضائيات بعد ذلك ليقدم برنامجه الشهير «احلم براحتك» وكون بسببه ثروة طائلة.. وهو يرغب فى أن تكون البطولة ل.. اللولبية الحسناء «سنية آداب».. ووعد بأن يكون «الأبيج» مغريًا فى مقابل الانتهاء من كتابة السيناريو والحوار أمس. حاولت الاعتراض لضيق الوقت.. لكن «أبو سريع» أجلسنى خلف مكتبه ووضع أمامى رزمة من الأوراق، وزجاجة ويسكى ومائة ورقة من فئة الخمسين جنيهًا وأغلق علىّ الباب وانصرف مسرعًا وهو يردد: سقع وبيع.. واقلب وقلب.. وقرب واستقرب.. وإديها ميه تديك طراوة. - 4 - بعد الكأس الثالثة اشتعلت أبلاتينة النافوخ.. وتفتق ذهنى عن قصة حب عبقرية تجمع بين «إيهاب» الشهير «بعفشة» وهو ميكانيكى شاب آخر العنقود لإخوته العشرين.. وبين طاطا الطالبة بالجامعة الأمريكية وابنة أحد الوزراء.. وتبدأ الأحداث برفض الأسطى «إسماعيل كاكا» والد عفشة والذى يعمل مبلط «سيراميك» أن يتقدم مع ابنه لطلب يد «طاطا» من والدها والإصرار على التفريق بينهما.. رغم ترحاب الوزير وحرمه بالعريس اللقطة.. ويهدد عفشة إن هو تزوجها رغماً عنه أن يقاضيه للفصل بينهما بدعوى عدم التكافؤ فى المستوى المادى والاجتماعى بينهما.. بالإضافة إلى حرمانه من الميراث والفيللا الرائعة والتى كان ينوى أن يهديها له. يتراجع «عفشة» وهو يتمزق ويتخلى عن «طاطا» التى لا تحتمل الصدمة حينما تكتشف نذالته فتنتحر.. ويصاب والدها بالشلل حزنًا على فقدها، وتفقد أمها بصرها، وتصاب شقيقتها الصغرى «زازا» بالعته الهستيرى، ويتطلب علاجها السفر إلى الخارج.. وهنا.. وهنا فقط يستيقظ ضمير إسماعيل الذى يدرك أنه وراء كل تلك المصائب فيقرر التكفير عن ذنبه بعلاج «زازا» على نفقته الخاصة، وحينما تعود من رحلة العلاج.. يوافق على زواج ابنه منها مؤكدًا والدموع تذرف من عينيه أن «طاطا» لم تمت فهى حية فى «زازا» التى تشبهها شكلاً وروحًا.. وأن الحب يسمو فوق كل الحواجز الطبقية. شرعت فورًا فى كتابة السيناريو والحوار.. وحينما تجاوز الوقت الساعة الثالثة صباحًا كانت الزجاجة قد فرغت وانتهيت من كتابة أكثر من نصف السيناريو.. ورحت فى سبات عميق فوق الأوراق من فرط الإجهاد والمعاناة. - 5 - استيقظت مفزوعًا فى نحو الساعة العاشرة من صباح اليوم التالى من تأثير لمبات الإضاءة الحارقة، وأسعدنى أن اكتشف أن «أبو سريع» لم يضيع الوقت.. وشرع فى تصوير أول مشاهد الفيلم متخذًا من مكتبه ديكورًا لمكتب الوزير. - 6 - نجح الفيلم نجاحًا منقطع النظير وحقق إيرادات خيالية حيث استمر فى دور العرض أكثر من عشرين أسبوعًا، وكانت فرحتى لا توصف حينما بادر المنتج بتوقيع عقد احتكار معى لمدة خمسين سنة قادمة.. وهنأنى على إفساد الذوق العام. - 7 - ولكن للأسف لم تكتمل فرحتى حينما مررت على مقهى الزملاء فلمحت مشاعر الحقد تنضح بها ملامح وجوههم العابسة وهم يتشابكون فى نقاش جدلى «هيجلى» أرسطو طاليسى سفسطائى متصاعد حول «العلاقة المزدوجة المتنافرة فى تطور متضاد عكسى عبثى انهزامى بين السينما الطليعية البديلة وبين انصراف الجماهير.. ثم العلاقة الثنائية المزدوجة المتسقة فى تناسق مطرد متصاعد متوافق متجانس متصالح بين السينما الهابطة وبين حضور الجماهير.. وإفساد الذوق العام». لكننى رغم استيائى من طريقة استقبالهم لى قررت أن أتسامى بمشاعرى وأعلو فوق ترهات نقائص النفس الإنسانية ولقنتهم درسًا بليغًا فى كيف ينبغى أن تكون الروح الرياضية السمحة، ودفعت ثمن المشاريب قبل أن تتطاير الكراسى وتتناثر الموائد وتتهشم الأكواب.