لم تنجح تهديدات الإرهاب في منع الشعب العراقي من الخروج إلي صناديق الاقتراع يوم الأحد الماضي الموافق السابع من مارس، تحمل الشعب العراقي ضريبة دم إضافية من أجل إرساء ديموقراطية سياسية ربما تعكس أكبر عملية تحول ثقافي في منطقة الشرق الأوسط . أدت هجمات بالقذائف والصواريخ إضافة إلي العبوات الناسفة، إلي مقتل 38 شخصاً وإصابة 110 بجروح خلال يوم الإدلاء بالأصوات في الانتخابات التشريعية، في أعمال عنف استهدفت جميع مناطق العراق دون استثناء لإيقاف سير العملية الانتخابية. تزامن سقوط القذائف والانفجارات مع استمرار عمليات الاقتراع في ثاني انتخابات تشريعية منذ سقوط النظام السابق، وبعد إطلاق تنظيم القاعدة تهديدات بقتل كل من يشارك في الانتخابات. وكان التنظيم في العراق أعلن فرض «حظر التجول» يوم الانتخابات في جميع أنحاء البلاد لمنع إجراء الانتخابات. وحذر من يخرق حظر التجول هذا بأنه يعرض نفسه والعياذ بالله لغضب الله ولكل صنوف أسلحة المجاهدين . قال رئيس الوزراء نوري المالكي في تعقيبه علي الانفجارات إنها مجرد أصوات لتخويف المواطنين، لكن الشعب العراقي سيتحدي ذلك، بدوره، قال رئيس مجلس النواب إياد السامرائي: إن الانفجارات لن تؤثر في مسارنا نحو الديمقراطية، فهؤلاء يائسون وبدلاً من أن يضعوا أيديهم بأيدي العراقيين يهاجمونهم . العراقيون المسجلون للتصويت بلغ عددهم في هذه الدورة حوالي 19 مليون ناخب لاختيار برلمان مكون من 325 نائباً لمدة أربع سنوات، المفروض أن تشهد تلك الفترة مغادرة 95 ألف جندي أمريكي العراق بشكل نهائي بعد تسعة أعوام علي الإطاحة بنظام الرئيس السابق صدام حسين. خاض الانتخابات 6281 مرشحاً بينهم 1801 امرأة موزعين ضمن 12 ائتلافاً كبيراً وكيانات أخري. التهديد الذي أصدرته القاعدة في العراق بقتل الناخبين يوم الانتخابات حفز المراقبين إلي الاهتمام بنسب المشاركة في التصويت لما لذلك من أهمية بالغة في معرفة موقع ذلك التنظيم في الشعب العراقي ومدي نفوذه علي أهل العراق وخاصة من العراقيين الذين يعتنقون المذهب السني .. النتائج فاجأت الجميع. بلغت نسبة المشاركة في محافظة ديالي نحو 90%، و64% في الأنبار، وأكثر من 65% في نينوي، وأكثر من 62% في صلاح الدين وهي محافظات ذات غالبية سنية، في المقابل راوحت النسب في المحافظات الشيعية بين 46% في واسط، و64% في المثني، وكانت نحو 55% في المناطق الأخري. أما في كركوك المتعددة القوميات فقد بلغت النسبة 70%، في حين سجلت نسبة 76% في محافظة أربيل، ونحو 90% في محافظة السليمانية. تشكل هذه النسب المرتفعة في مناطق العرب السنة نكسة للقاعدة التي هددت بقتل كل من يشارك في الانتخابات، فلم تتمكن من ترهيب العرب السنة هذه المرة خلافاً لعام 2005 حينما أدلي أقل من 1% من الناخبين في الأنبار بأصواتهم في بغداد . قال أوباما في تعليقه علي الانتخابات إنها تمكنت من تجاوز أعمال العنف، وهو مؤشر علي كفاءة الأمن العراقي، مؤكدا علي أنها نقلة مهمة في تاريخ العراق، ولكن ليس معني ذلك أن العراق لن يشهد أياما صعبة للغاية، كما رحب الرئيس الأمريكي بالمشاركة الكثيفة للعراقيين في الانتخابات وشجاعتهم بالرغم من أعمال العنف التي طبعت اليوم الانتخابي، مؤكدا أن هذه المشاركة تثبت أن الشعب العراقي اختار بناء مستقبله عبر العملية السياسية . كما حيا وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير «شجاعة الناخبين العراقيين» الذين شاركوا في الانتخابات برغم سلسلة الهجمات التي وقعت لإرهاب الناخبين. الاتجاه العام الدولي تجاه عملية الانتخاب كان إيجابيا، عزز فرص التفاؤل الإقبال علي التصويت الذي عبر عن موقف شعبي ضد الإرهاب، وكان بمثابة رسالة إلي التنظيمات الدموية التي لا تبالي بأرواح الناس فحواها أن سفك الدماء أصبح عملا عبثيا دون جدوي، كان خروج الناس إلي الشارع وتقبلهم للإصابة نتيجة الضرب العشوائي دليلا علي رفض الابتزاز عن طريق التهديد بالقتل، وإيذانا بانتهاء سلطة الإرهابيين علي شعب العراق. الحديث هنا لا يتطرق ولا يتناول نتائج العملية الانتخابية، ولا يفسر الإقبال علي التصويت من جانب نحو 60% من الناس انحيازا إلي فئة سياسية دون أخري إلا بعد الفرز وإعلان النتائج، أما في مرحلة ما قبل الفرز فيمكن القول أن الانحياز بدا واضحا لصالح العملية السياسية كعنوان للتغيير الذي تنشده كل واحدة من القوي السياسية وتأمل أن تأتي به النتائج علي مقاسها. ربما تأتي النتائج بالأغلبية لفئة، وربما تأتي بائتلاف بين عدة فئات بينها مساحة من الاتفاق تكفي للتعايش في الحكم، يتوقع المراقبون أن الأمور لن تمر ببساطة، ربما لا يقبل البعض بالنتائج ويميل إلي الاحتجاج العنيف إليها، ربما تكون الفرصة الأخيرة لقوي الإرهاب الدموي هي اللعب في نطاق الاختلاف حول توزيع غنائم الانتخابات. مشكلات لا حصر لها يتوقف حجمها وتأثيرها علي مدي نضج القيادات وإيمانها بالعملية الديموقراطية، لهذه الأسباب وغيرها فإن المرحلة المقبلة في العراق صعبة للغاية، المرحلة الأكثر صعوبة من اختيار الديمقراطية والانخراط في العمل السياسي هي مرحلة تأكيد الاختيار بقبول النتائج والتغلب علي النزعة القبلية والعشائرية التي لا تهضم الآخر بسهولة. يأمل كثيرون أن تغير الانتخابات البرلمانية خريطة القوي السياسية، وتقلل الاستقطاب الطائفي الذي مازال يضرب وحدة العراق السياسية ويشوه هويته الوطنية والقومية. من ملامح ذلك التوجه إشراك أكبر عدد من الطوائف، وخاصة بين السنة والشيعة في قوائم مشتركة. لا يزال بعض الناس يعتقدون أن العراق لن يعود موحدا كما كان في زمان صدام حسين، يقولون صحيح صدام له أخطاء قاتلة، لكن العراق لا يمسكه إلا رجل بقوة شخصية صدام حسين، ويعتقدون أن العراق دخل في نفق مظلم لن يخرج منه أبدا، الحقيقة أن خروج الشعب العراقي تحت القصف إلي صناديق الاقتراع يبعث علي التفاؤل، ويدل علي أن ثمة أملا في عودة وحدة العراق وممارسته لدوره القومي بدون طاغية، وبدون حمامات الدم التي يهدد بها اليائسون.