الأزمة الأخيرة التي أثارها أعضاء مجلس الشعب حول موضوع العلاج علي نفقة الدولة واحدة من مسلسل الأزمات التي مرت علينا خلال الفترة القصيرة الماضية، بعضها يتعلق بالتعليم والأخري بالتموين وغيرها بالصحة، يعني كلها تتعلق بسياسات عامة خاصة بالخدمات التي تقدمها الدولة للمواطنين، بعضها مجاني والآخر بأسعار رمزية مدعومة من الموازنة العامة. ولم نلاحظ أزمة في القطاعات الاقتصادية المحررة التي تتعامل بأسعار السوق. لست من أنصار جلد الذات وافترض حدوث المستحيل وهو في حالتنا هذه المطالبة بتوفير الخدمات المدعمة أو المجانية بالوفرة المطلوبة أي حسب كمية الطلب بدون حدود مادامت الموارد محدودة ومجالات الاستخدامات متنوعة ومتعددة وضرورية في آن واحد. مشكلة الخدمات المدعومة أنها تفتقر باستمرار إلي قنوات التوزيع التي تضمن قدرا معقولا من العدالة بفرض وضع ضوابط تتسم بقدر كبير من الشفافية، مايحدث في الواقع لايرضي عنه أحد نظرا لغياب تلك الضوابط، الذي يحصل علي فرصة للحصول علي خدمة ما مثل العلاج علي نفقة الدولة عن طريق عضو بمجلس الشعب أو شخص ذي نفوذ في دوائر الحكومة لايريد أن توضع له أي حدود، ويظل يضغط باستمرار للحصول علي المزيد، وبالتالي فهو غير راض عما حصل عليه، الذي يحاول الحصول علي الخدمة ولا يستطيع.. هو الآخر غير راض، وهو معذور نظرا لحاجته إلي الخدمة..في الواقع العملي كل المجتمع مشترك في صناعة الأزمة نظرا لتصلب المواقف عند وجهة نظر ترفض أو تتجاهل حتمية الدخول في مرحلة جديدة ومتقدمة من الإصلاح، يعرف الجميع أهميتها ولكن لا أحد يستطيع الاقتراب منها بالقدر الكافي لاتخاذ خطوة أو خطوات، بل نكتفي بالحل المؤقت الترقيعي ونترك صلب الموضوع. لفت نظري خلال متابعتي لأزمة أنابيب البوتاجاز التي حلت بنا مؤخرا البيانات الرسمية التي اجتهدت في تعليق الأزمة علي سوء وسائل التوزيع وأن الأزمة في سبيلها للانفراج بعد زيادة طاقة محطات التعبئة للغاز المستورد من الخارج، كلنا يعلم أن هذا الكلام غير دقيق ولكن لا أحد يريد وجع الدماغ بالتطرق إلي الأسباب الحقيقية للأزمة المتكررة، لاأحد يقول أن السعر المدعم للأنابيب يغري بين الحين والآخر التلاعب لحساب الموزعين عن طريق خنق قنوات التوزيع. لم يقل أحد أن العرض في أنابيب البوتاجاز غير مرن بسبب مبلغ الدعم المخصص للبوتاجاز في الموازنة وأن تقديرات الاستهلاك المتزايد لا يلتفت إليها أحد بحجة أن العين بصيرة واليد قصيرة، كما لم يقل أحد أن خطط توصيل الغاز الطبيعي متعثرة ولا تسير بالسرعة الكافية كما كانت عند بداية تطبيق المشروع. باختصار لا أحد يتحمس لحل موضوع الأزمة حلا جذريا، وبالتالي جذوتها كامنة بعض الوقت ثم تعاود الانفجار من جديد. الأمر لا يختلف كثيرا في موضوع أزمة متكررة أخري هي أزمة رغيف الخبز المدعم سعره من موازنة الدولة، في كل مرة يحدث فيها ارتباك في عرض الخبز المدعم تصدر التوجيهات بحل الأزمة فتوجه اعتمادات اضافية لشراء حصص اضافية من الدقيق، بعد قليل تخف حدة الطوابير التي تقاتل للحصول علي الخبز المدعم وتتواري الأزمة عن الأعين لكنها تظل في موقع تربص للانفجار من جديد. العلاج علي نفقة الدولة ليس هو كل الأزمة ولكنه قمة جبل الثلج الكامن في عمق المجتمع المصري منذ وقت طويل يمتد لعدة عقود وهو ليس مشكلة الوزير الحالي بكل تأكيد الذي يحاول تطوير منظومة العلاج في مصر بوسائل علمية مبنية علي خبرة بالواقع العملي، لذلك أعتقد أن تلخيص مشكلة الخدمة الصحية في مصر في موضوع العلاج علي نفقة الدولة هو تلخيص مخل وقد يكون محاولة من البعض للحيلولة دون الشروع في وضع سياسات أكثر عملية لتطوير الخدمة الصحية في البلاد أو اعتراض برنامج اصلاحي في بداية الطريق مثل مشروع نظام جديد للتأمين الصحي تعده وزارة الصحة..يقال إن المشروع الجديد يحمل المنتفعين أعباء مالية فوق طاقتهم، ومن جانبي لست أعلم تفاصيل كثيرة عن المشروع، لكن ما أعلمه يقينا أن الاستمرار بالأوضاع الحالية مستحيل، كما أن الترقيع في النظام الحالي لن يفيد بل علي العكس يهدر مزيدا من ثقة المواطن في إمكانية الإصلاح..النظام المقترح إذا قدر له النجاح يكون في مجمله لمصلحة مجموع المواطنين إذا ارتبط النظام في التنفيذ بعضه ببعض، بمعني ألا يكون البدء بتحصيل الأموال من الناس قبل تحسين الخدمة، بمعني أن تقدم الوزارة السبت كما يقولون بتحسين الخدمة وتقديم النموذج الذي يقتنع به الناس قبل أن تطبق الزيادات في الاشتراكات، ويمكن توفير التمويل بدفعة مقدمة عن طريق سلفة أو منحة من الدولة يردها المشروع بعد نجاحه، أما البدء بالتحصيل قبل الخدمة فسوف يخلق أجساما مضادة يعلم الله وحده من يغذيها، خاصة أن مشروعا ناجحا للتأمين الصحي يضر مصالح خاصة كثيرة تستفيد من النظام الحالي. استوقفني بند في البيان الصادر عن لجنة الصحة بمجلس الشعب التي أصدرت توصيات برفض كافة القرارات التنظيمية الصادرة من وزارة الصحة والتي تمس المرضي محدودي الدخل والفقراء، وأكدت اللجنة رفضها القاطع استبعاد المستشفيات الجامعية وخصوصاً الاستثمارية منها وكذلك مستشفيات القوات المسلحة من نظام العلاج علي نفقة الدولة. البند يقول: طالبت اللجنة بضرورة الإبقاء علي نظام العلاج علي نفقة الدولة الحالي، وأن يتم الانتهاء من جميع طلبات العلاج المتراكمة لدي النواب منذ أسبوع، ولحين إقرار نظام صحي جيد يكفل تقديم الخدمة الطبية اللائقة لكل مواطن علي أرض مصر..في الواقع يشير ذلك البند إلي السبب الحقيقي في ثورة النواب، وهو تراكم الطلبات لديهم ورغبتهم في الحصول لأصحابها علي اعتمادات مفتوحة من معين لا ينضب بخدمة فندقية من الدرجة الممتازة، طيب من الفقراء مرضي لا يستطيعون الوصول إلي النواب المحترمين، فماذا يفعلون؟ وهل يمكن عمليا الصرف من بند مفتوح ليس له سقف، وأي موازنة تستطيع تدبير ذلك من موارد محدودة ومحددة إرضاء النواب مطلوب ولا شك ولكن صاحب العقل يميز!!