سيناريو غريب بالفعل ولكنه يتكرر.. يبدأ غالباً باتهام بلد ما بأنه صار مأوى لعناصر القاعدة.. ويتصادف أن هذا البلد يعانى من مجموعة من المشاكل الداخلية والتهديدات الخارجية .. وعندما تدخل عناصر القاعدة هذا البلد وتنفجر عملياتهم الإرهابية فى أنحاء مختلفة من العالم انطلاقاً من مأواهم الجديد.. يتحول هذا البلد إلى هدف للاهتمام الأمريكى بشكل أو بآخر فى إطار الحرب العالمية على الإرهاب. حدث ذلك فى الصومال.. وانسحبت القوات الأمريكية بعد أن انهارت الدولة هناك.. ومازالت الفوضى مستمرة فى مقديشيو.. وتكرر السيناريو نفسه فى جيبوتى التى تحولت لقاعدة عسكرية بحرية فرنسية أطلق عليها اسم «لوميير» وتعتبرها واشنطن نموذجا يمكن تكراره فى دول أخرى فى المنطقة خصوصاً وأن أمريكا لا تملك فى إفريقيا سوى 400 جندى فى جيبوتى وأربعة الأف آخرين فى كينيا.. وتكرر السيناريو فى أفغانستان والعراق.. ومازالت باكستان تعانى.. ويبدو أن اليمن أصبحت هى الهدف التالى.. إنه سيناريو الموت والدمار والغبار والدخان الذى يطمس الكثير من الحقائق فى ظل عاصفة الإرهاب ولكنه سيناريو يتكرر بشكل يثير الدهشة وإن اختلفت التفاصيل.. والآن ماذا يحدث فى اليمن؟ مشاكل هذا البلد الشقيق تجعل منه بيئة مناسبة لتكرار سيناريو الاهتمام الأمريكى. وهو ما يسبقه أحيانا تدخل إيرانى لدعم حركات تمرد مسلحة فى هذا البلد وانتشار غامض - ينمو تدريجيا - لعناصر تنظيم القاعدة - ويصاحب كل هذا مساعدات اقتصادية تقدمها واشنطن مصحوبة بدعم أمنى غالبا ما يتزايد تدريجيا.. ولعل من أهم المشاكل التى تواجهها اليمن أن نصيب الفرد. من الناتج المحلى الإجمالى يصل إلى 875 دولاراً سنوياً (طبقاً لأرقام صندوق النقد الدولى لعام 2004).. الأخطر أن 40% من الشعب اليمنى يعيشون تحت خط الفقر وأغلبهم يسكن المناطق التى تشهد الاضطرابات والمصادمات التى تتناقلها وكالات الأنباء والتى تجرى بين قوات الأمن اليمنية والحوثيين أو المنتمين للحراك الجنوبى أو عناصر تنظيم القاعدة.. وفى اليمن 45 حزباً سياسياً معارضاً وكلها تعمل بشكل شرعى وفقاً لقانون الأحزاب الصادر فى 16/10/1991,. أضف إلى ذلك أن اليمن اعتمد عبر تاريخه وحتى الآن على القبلية التى تجعل ولاء الفرد للقبيلة قبل الانتماء للوطن فى أغلب الأحوال.. وفى هذا البلد 140 قبيلة أهمها حاشد وبكيل وهما ترتبطان بعلاقات خاصة مع باقى القبائل اليمنية المنتشرة فى الجبال الوعرة أو السهول الساحلية.. وكان موقع اليمن وتضاريسه الصعبة وسواحله المطلة على خليج عدن وباب المندب فضلاً عن ظروفه الصعبة اقتصادياً وسياسياً أسباباً مهمة لاختياره من قبل القاعدة ليكون ملاذاً آمنا لأتباعهم ونقطة انطلاق لنشاطاتهم الإرهابية فى مختلف مناطق العالم.. وهو ما حدث بالفعل حيث تم تنفيذ مجموعة من العمليات الإرهابية ضد بعض الأهداف الأمريكية.. لذلك قامت القوات اليمنية يومى 17,24 من ديسمبر الماضى بتوجيه ضربات جوية وأرضية استهدفت عناصر تنظيم القاعدة فى محافظات أبيين ومأرب والبيضاء وشبوه وحضر موت مسقط رأس والد أسامة بن لادن زعيم التنظيم.. وسقط عدد كبير من عناصر القاعدة ما بين قتيل وجريح وأسير فى تلك العمليات التى قادتها الحكومة اليمنية بدعم أمريكى معلن وصريح.. وفى المقابل هدد قادة القاعدة بالانتقام.. وبالفعل نفذت عناصر التنظيم مجموعة من العمليات الإرهابية المثيرة. وجرى التدريب عليها والتخطيط لها فى اليمن.. المثير للدهشة أن نشاط الحوثيين تراجع فجأة.. وكأنهم يخلون المسرح لمشاهد تالية لدراما ملاحقة عناصر القاعدة فى جبال اليمن حيث أعلن موقع 26 سبتمبر/ نت التابع لوزارة الدفاع اليمنية أن القوات الحكومية نجحت فى تنفيذ عملية «ضربة الرأس» وقضت على ما تبقى من عناصر التمرد الحوثى ودمرت مواقعهم، فى نفس الوقت كانت المدن الرئيسية (يوم الأحد العاشر من يناير الحالى) فى محافظات الضالع ولحج وأبيين وشبوه بجنوب اليمن قد شهدت إضراباً شاملاً تلبية لدعوة جماعة الحراك الجنوبى التى تدعو إلى انفصال الجنوب ويضم كل أحزاب المعارضة اليمنية.. وفى مواجهة ذلك أعلن الرئيس اليمنى فى حديث لتليفزيون أبوظبى أنه دعا منذ أيام إلى حوار مع كل أطياف العمل السياسى بمن فيهم الحوثيون وتنظيم القاعدة إذا تخلوا (القاعدة) عن العنف وعادوا إلى جادة الصواب.. وهدد بمواصلة الحملة على القاعدة والمتمردين الحوثيين إذا استمروا فى العنف.. وقال إن أعضاء تنظيم القاعدة خطر على الأمن والسلم الدوليين وهم بائعو مخدرات لا علاقة لهم بالإسلام بل أساءوا إلى الدين. تزايد الاهتمام الدولى والأمريكى بكل ما يتعلق بالشأن اليمنى.. من القات إلى الفقر.. ومن القبلية إلى تراجع التنمية ومن أحاديث الفساد إلى صراخ المعارضة.. ومن التمرد الحوثى المدعوم من إيران إلى المواجهات العسكرية معه فى الجبال.. وفى ظل هذا الصخب بدأ ناصر الوحيش قائد تنظيم القاعدة فى اليمن وجزيرة العرب يتصدر المشهد ومعه أعوانه ومنهم سعد القحطانى ومحمد أحمد صالح الذى توعد السلطات اليمنية بالانتقام بعد الهجوم الذى شنته على عناصر التنظيم فى ديسمبر الماضى.. وعرفنا أبو بصير أمير القاعدة فى جبال اليمن.. وهكذا ظهر للقاعدة كيان ضخم فى اليمن.. وساعد على نمو هذا الكيان الضغط العسكرى المستمر الذى تمارسه القوات الأمريكية فى أفغانستان على القاعدة.. بالإضافة إلى الضغوط العسكرية التى تمارسها السلطات الباكستانية على عناصر التنظيم فى المناطق الحدودية مع أفغانستان.. إلى جانب الحملات الأمنية الشرسة التى قامت بها السلطات السعودية ضد التنظيم داخل المملكة.. إلى جانب حصار عناصر القاعدة فى العديد من الدول مثل العراق والسودان والصومال.. وأدى هذا كله إلى هروب أعداد كبيرة من عناصر القاعدة من عدة دول إلى اليمن.. وأكد ذلك العديد من الحوادث الإرهابية التى وقعت، مضى وقت طويل من الاهتمام الأمريكى الفائق بنشاط عناصر القاعدة فى اليمن.. وربما بدأ هذا الاهتمام منذ أعلن التنظيم هناك عن مسئوليته عن محاولة تدمير السفينة كول ومقتل 17 من أفراد طاقمها عام ,2000 وزاد هذا الاهتمام الأمريكى مؤخراً بعد وقوع مجموعة من العمليات الإرهابية ضد القوات والمصالح الأمريكية.. خاصة بعد أن أثبتت تلك العمليات أن تنظيم القاعدة فى اليمن والجزيرة العربية قد حقق احترافاً غير مسبوق على مستوى الخريطة الجهادية العالمية مما يجعله وريثاً لتنظيم القاعدة الأم فى أفغانستان.. والأخطر أن أغلب عناصره قد وصلت إلى قدرات احترافية مخيفة قد تمكن أى جهادى ناشئ من إرهاب الولاياتالمتحدة.. وهو فيما يبدو أنه قد حدث بالفعل.. والدليل على ذلك ما قام به همام خليل البلوى عضو تنظيم القاعدة (أردنى الأصل) والذى أقنع مجموعة من ضباط المخابرات الأمريكية فى أفغانستان بأنه جاء ليلتقى بهم للبحث فى سبل قتل أيمن الظواهرى.. وفعلاً التقى بثمانية من الضباط الأمريكيين وضابط مخابرات أردنى فى قاعدة خوست القريبة من الحدود الباكستانية يوم 30 ديسمبر الماضى وفجر نفسه ليقتلهم جميعاً ويصيب آخرين فى هجوم وصف بأنه الأسوأ الذى تتعرض له وكالة المخابرات الأمريكية منذ عام ,1983 وهناك دلائل أولية تشير إلى علاقة البلوى ب«أنور العولقى» وهو يمنى الأصل ويحمل الجنسية الأمريكية.. وكان خطيباً لمسجد دار الهجرة فى ولاية فرجينيا حتى وقوع هجمات 11 سبتمبر 2001 وبعدها عاد إلى اليمن واختفى بعد عام ,2004 ويقال أنه أصبح أحد المنظرين الجدد فى تنظيم قاعدة اليمن.. وزاد الاهتمام الأمريكى بالعولقى بعدما تردد عن علاقته بالشاب النيجيرى عمر فاروق عبدالمطلب الذى زار اليمن وتلقى تدريبه على العمليات الانتحارية هناك.. وفى يوم 27 من ديسمبر الماضى قام عمر فاروق بإخفاء - فى ملابسه الداخلية - مادة متفجرة جديدة تعرف باختصار باسم «pent» وحاول تفجير نفسه وهو على متن طائرة أمريكية فى الجو فوق مدينة ديترويت بولاية متشيجان ولكنه فشل.. الأخطر أن الميجور الأمريكى نضال مالك حسن (الأردنى الأصل) والذى أطلق النار عشوائياً على زملائه فى قاعدة نورث هود بولاية تكساس يوم 11 نوفمبر الماضى وقتل 13 من زملائه.. كانت تربطه علاقة ما ب«العولقى» القيادى فى تنظيم قاعدة اليمن. وهكذا يتكرر سيناريو العاصفة الذى يبدأ بتوافد عناصر تنظيم القاعدة على بلد ما تحاصره المشاكل الداخلية والتهديدات الخارجية.. وتدريجياً يصبح هذا البلد عنواناً للقاعدة ومأوى لعناصره وقواعده الإرهابية.. فتلاحقها القوات الأمريكية.. الرئيس الأمريكى أوباما أوضح أنه لن يرسل قوات برية إلى اليمن.. ومعه الحق فى ذلك.. فاليمن بتضاريسه الوعرة وبتركيبته القبلية والسياسية والاقتصادية المعقدة أصبحت رقماً صعباً فى معدلات الوجود العسكرى الأجنبى فى جنوب الجزيرة العربية.. ورغم ذلك أكد كل من فريدريك كاجان وكريستوفر هانريش - وهما يعملان فى معهد أمريكان انتربرايز للدراسات السياسية - أن السياسة الأمريكية فى اليمن قد ركزت بشدة على محاربة تنظيم القاعدة فى اليمن ولكنها فشلت فى معالجة الأوضاع التى جعلت هذا البلد ملاذا آمنا للإرهابيين. وظلت العسكرية الأمريكية تدعم حرس السواحل اليمنى لمنع تسلل الإرهابيين وتعمل على تحسين قدرات مكافحة الإرهاب لدى القوات اليمنية بوجه عام. أخطر ما فى هذا الأمر أن تنظيم القاعدة معروف عنه التشدد السلفى.. إلا أنه لا يمانع فى عقد تحالفات مؤقتة أو دائمة مع جماعات شيعية متطرفة وحدث ذلك فى العراق ولبنان واليمن وأفغانستان.. لكن قطاع غزة سيظل (تحت سلطة حماس المتحالفة مع إيران الشيعية) حلما رئيسا لتنظيم القاعدة.. لأن القضية الفلسطينية كانت دائماً من الأدوات الرئيسية للتعبئة والدعاية التى يستخدمها تنظيم القاعدة.. وبالتالى فإن زرع جيش الإسلام الموالى لتنظيم القاعدة داخل قطاع غزة يشكل خطورة بالنسبة لكل المهتمين بالأحداث الجارية على الحدود المصرية مع غزة خصوصاً بعد أن بدأ جيش الإسلام يتحرك بحرية فى القطاع وساهم بعض عناصره فى تنفيذ عمليات إرهابية فى سيناء.. الموضوع جد خطير.. ومن لم يقتنع فعليه أن يعيد قراءة هذا الموضوع.؟