من بين كل المخرجين العاملين على الساحة الآن، فإن «خالد يوسف» هو الأكثر إنتاجا، والأكثر إثارة للجدل. «خالد يوسف» أعاد للمخرج السينمائى وجوده وتأثيره وسط صناعة تستبعد الفن السينمائى وصنعة الإخراج، ولا تهتم سوى بالممثل النجم، وقدرته على جذب الجمهور بمواهبه الكوميدية أو العضلية. رحيل «يوسف شاهين» واختفاء من بقى من جيل «الواقعية الجديدة» والسقوط المدوى لآخر أفلام «إيناس الدغيدى» وعدم قدرة «شريف عرفة» على أن يكون له بصمة تميز أفلامه سوى الإتقان الحرفى، كلها عوامل هيأت المجال ل«خالد يوسف» ليصبح «مخرج المرحلة»، مهما كانت الملاحظات التى يمكن أن تنال هذا الوصف. مخرج المرحلة حقق «حين ميسرة» إيرادات غير متوقعة بالنسبة لفيلم غير كوميدى يدور عن العشوائيات، الإيرادات جذبتها «خلطة» المخرج «خالد يوسف» وليس خلطة نجم الكوميديا أو الأكشن الذى يلعب البطولة، أو خلطة المنتج الشعبى كما نجد فى أفلام «السبكية».. وهى الخلطة التى سرعان ما استغلها «خالد يوسف» ومنتجه «كامل أبو على» ليقدما فيلمهما التالى «دكان شحاتة». ؟مم تتكون هذه الخلطة؟ هى مزيج من النقد السياسى المباشر المأخوذ رأسا من قناة «الجزيرة» وأسلوبها الغوغائى الفج فى طرح القضايا السياسية.. ويجب أن أشدد هنا أننى لست مختلفا مع مضمون هذا النقد السياسى، ولكننى أصف النبرة الزاعقة وقلة الموضوعية والمنهجية التى يتحدث بها مذيعو وضيوف هذه القنوات، وفى حالة السينما قلة البراعة الدرامية والنظرة التحليلية التى يفترض أن يصاغ بها النقد الاجتماعى والسياسى فى الفن. تتكون الخلطة من هذا النوع الخطابى المباشر من النقد السياسى مضافا إليه جرعة هائلة من الميلودراما المأخوذة رأسا من الحكايات الشعبية وزمن الأبيض والأسود فى السينما والمسرح.. مع وضع كمية هائلة من التوابل والمشهيات الجماهيرية مثل مساحات اللحم الأنثوى العارى ومشاهد العنف والاغتصاب والإيفيهات الكوميدية الصارخة. كان اعتراضى، ومازال، على هذه الأفلام أنها تخلو من قوة الإيحاء الذى يميز الميلودرامات القوية، ومن النظرة الإنسانية الكونية التى تميز الفن عن المظاهرات السياسية.. وكنت أرى أن رفع غطاء السياسة المسطح عن هذه الأفلام من شأنه أن يكشف عن مدى تهافتها الفنى.. وقد فوجئت بأن «خالد يوسف» أقدم بنفسه على رفع هذا الغطاء فى فيلمه الجديد «كلمنى شكرا» الذى يكشف بما لا يدع مجالا للشك عن رداءة هذه الخلطة السامة. بلا غطاء من العجيب أن «كلمنى شكرا» يبدو وكأنه محاكاة ساخرة لأفلام «خالد يوسف» نفسها، ولا أعلم بالضبط ماذا أو من المقصود بحبكة الفيلم التى تدور حول شاب من حى شعبى يحلم بأن يصبح نجما سينمائيا، ولكنه يجد نفسه «كومبارسا» فى برامج التليفزيون، ثم يتم استغلاله ليمثل أنه شاب عاجز جنسيا أو شاب تعرض للاعتداء الجنسى وهو طفل أو شاب متخلف يدخل على عروسه «دخلة بلدى» أو ضابط يعتدى على المواطنين بالضرب، والقناة التى تقوم بإخفاء وجهه تقدم هذه المشاهد على أنها حقيقية وليست تمثيلا! هذه القناة، من وجهة نظر الفيلم، تتعمد الإساءة لسمعة مصر، والبرنامج تعده مذيعة حسناء من بلد عربى لا يمكنها انتقاد بلدها أو بلد أصحاب القناة ويساعدها مخرج مصرى مأجور ليس لديه انتماء أو شعور وطنى! فى أحد مشاهد الفيلم يدور الحوار بين بطل الفيلم «إبراهيم توشكا» والمذيعة والمخرج حول «الدخلة البلدى» فيقول «توشكا» أنها ظاهرة قديمة ولم يعد لها وجود «تقريبا» سوى حالات قليلة جدا، وترد عليه المذيعة بأن هذا اعتراف بوجودها وبالتالى فهم لا يكذبون أو يخترعون شيئا من العدم.. وفى مشهد لاحق تقوم الشرطة بالقبض عليهم واتهامهم بالاحتيال والنصب، ويتبنى الفيلم هنا، على عكس بقية أفلام «خالد يوسف» وبقية فيلم «كلمنى شكرا»، موقف الشرطة، وهو ما يؤكد موقف الفيلم من القناة. اعتقال مسئولى البرنامج.. ألا يذكرنا بمذيعة الجزيرة هويدا طه بسبب بعض مشاهد تمثيلية لانتهاكات الشرطة، وبالمذيعة «هالة سرحان» لأنها قدمت فى أحد برامجها بعض فتيات الليل اللائى يتحدثن عن ابتزاز رجال الشرطة لهن، وقيل أنهن فتيات تم تأجيرهن ولسن فتيات ليل فعلاً؟! ولكن أليس هذا ما تفعله أفلام «خالد يوسف» نفسها: تقديم مشاهد تمثيلية لمظاهر سلبية من المجتمع تظهر مدى معاناة وتخلف الشعب وسطوة الفساد ووحشية رجال الشرطة؟ الأعجب أن «كلمنى شكراً» ينتقد المشاهد المفبركة لانتهاكات الشرطة و«الدخلة البلدى» والانحلال الجنسى لدى الطبقات الشعبية والعشوائية مع أن أفلام «خالد يوسف» الأخيرة تحفل بهذه المشاهد، وحتى «كلمنى شكرا» سيكون النقد الأساسى الموجه له خلال الأيام القادمة قريبا جدا من النقد الذى يوجهه الفيلم لشخصياته: الإساءة لسمعة مصر، التركيز على مظاهر الانحلال وكأن البلد ليس به شىء واحد إيجابى. بدون تعاطف لا يتوقف ما أسميه محاكاة ساخرة لأفلام «خالد يوسف» عند قصة القناة الفضائية التى تهاجم مصر، فهى مجرد خط ضمن خطوط أخرى كلها تبدو هنا وكأنها مسخ من أفلامه السابقة. البطل الشعبى الخارج على القانون، الشجاع وصاحب الضمير الحى القادر على الحب، والذى أداه الممثل «عمرو سعد» فى «... ميسرة» و«... شحاتة» يخلى المجال هنا للممثل «عمرو عبد الجليل» ليؤدى شخصية الشعبى النذل العاجز عن الحب ولكن صاحب الدم الخفيف والإيفيهات اللاذعة...وهى الشخصية التى أداها فى الفيلمين السابقين كصورة سالبة وكاريكاتير مبتذل للبطل. البطل هنا لا يدعو لأى تعاطف، والفيلم كله يخلو من شخصية محببة واحدة.. حتى العاهرة المغلوبة على أمرها «أشجان» (غادة عبد الرازق) التى يتعاطف معها الفيلم باعتبارها أكثر جدعنة وشرفا من «إبراهيم توشكا» نفسه، ينتهى الفيلم بزواج «توشكا» من الفتاة «الشريفة» التى سلمته نصفها العلوى فقط، بينما «أشجان» يتم تأديبها من قبل زوجها السابق المجرم الخارج من السجن. هذا الموقف الرجعى يتعارض مع ما يزعم الفيلم أنه تعاطف مع الفقراء المغلوبين على أمرهم، وكما ذكرت يخلو الفيلم من أى تعاطف لدرجة أنه يتعامل مع فقدان عدد من الأطفال لأبصارهم نتيجة تعاطيهم لنوع سام من المخدرات باعتباره حدثا عابرا سرعان ما نرى بعده بعض الإيفيهات الساخرة على الأطفال العميان! لا يوفر الفيلم شيئا دون أن يصنع عنه نكتة أو تعليقا ساخرا، من الأغانى الوطنية ومصر إلى غشاء البكارة.. وليس الهدف هو التخريب المتعمد لقيم بالية يتمرد عليها الفيلم، ولكنه سعى وراء الضحك بأى وسيلة وكأن صناع الفيلم فى سهرة حشيش يتبارون فى إطلاق الإيفيهات.. ومن اللافت أن الفيلم يبدأ بجلسة مخدرات وسكر ويعود بنا إلى نفس الجلسة كل فترة كفاصل بين فقراته. حتى المنتجين «نجيب ساويرس» و«كامل أبو على» والمخرج «خالد يوسف» تصاغ الدعابات حولهم ويتم الدعاية لهم على مدار الفيلم بطريقة المسرح التجارى، حين ينزع الممثلون الأقنعة ويتبادلون الحديث مع الجمهور.. هنا أيضا يخلع «خالد يوسف» أقنعة'' السياسة والغلابة والفن السينمائى، ويعلن بوضوح أن الحكاية كلها مجرد لعبة وتسلية وأكل عيش.. شكرا!