هل أصبح هناك تآكل الآن فى المدارس الصحفية؟ سؤال ذهبنا به إلى الكاتب الصحفى صلاح عيسى لكى نبحث عن إجابة له خاصة أن الممارسات الصحفية المحيطة بنا تشير إلى حقيقة خطيرة وهى أن الكثير من الصحف تخلت عن أهم دور كانت تقوم به على مدار العقود الماضية وهو أن تخلق لنفسها هوية وهدفاً تسعى إلى تحقيقه ومن ثم تتحول من مجرد صحيفة تصدر يومياً أو أسبوعياً إلى مدرسة صحفية تسعى إلى تربية قارئ وتوسعة مداركه. صلاح عيسى حاول قبل أن يجيب عن السؤال أن يعود بنا إلى الوراء قليلا لكى يلقى الضوء على أهم المدارس الصحفية وكيفية تطورها بل كيف وصلنا الآن إلى ما أسماه بال «التشوش المهنى». متى تبلورت بشكل حقيقى فكرة المدارس الصحفية؟ - تبلور المدارس الصحفية المصرية بدأ مع ثورة 1919. وقتها كانت الصحف الحزبية قد نحجت بشكل أو بآخر فى أن ترسخ أقدامها .. وفى ذلك الوقت كانت الصحف الوليدة تحاول أن تقلد المدارس الصحفية الأجنبية .. فالأهرام مثلا عندما أنشأها أصحابها الشوام كانوا يسعون إلى جعلها نسخة من الTIMES البريطانية. حيث كانت تعبر عن فكرة الجريدة المستقلة مهنياً، المحايدة تجاه كل أشكال الصراع الحزبى التى شهدتها مصر فى ذلك الوقت..وأتصور أن هذا الاستقلال هو ماجعلها قادرة على البقاء حتى الآن.. الأهرام كانت تدقق فى صحة الخبر، تفرد مساحات لأخبار الأقاليم وتمنح الفرصة لوجهات النظر المختلفة لكى تعبر عن نفسها. أما الصحافة الإخبارية فيؤرخ لها بصدور «المصرى» فى الثلاثينيات والتى رغم محاولتها المستمرة التأكيد على تلك الهوية الإخبارية وعدم الانحياز إلى أى فريق سياسى إلا أنه أحيانا ما كانت تمارس عليها ضغوط حزبية وسياسية تحول دون تلك الممارسات الحيادية. ولكن متى كان التحول الحقيقى والبداية الأصلية للمدارس الصحفية التى ساهمت فى تكونين الرأى العام فيما بعد؟ فى عام 1944 مع ظهور جريدة «الأخبار» والتى كانت تعبر عن دخول قوى للمدرسة الأمريكية إلى مصر .. فالتأثير الأساسى للمدارس الأجنبية على الصحف المصرية كان تأثيرا بريطانيا وفرنسياً.. ولكن الأخبار كان لديها ميل واضح للاتجاه الأمريكى فى الصحافة حيث إبراز الأخبار، والميل إلى الأخبار المثيرة، وتوسيع نطاق الصحيفة اليومية.. فى الوقت نفسه كانت تجربة روزاليوسف قد بدأت فى الإعلان عن نفسها بشكل مختلف. «روزاليوسف» ظهرت فى 1926 كمجلة أدبية فنية ليس لها علاقة بالسياسة قبل أن تطور اتجاهاتها وتميل أكثر إلى الأمور السياسية.. روزا كانت من الصحف المعبرة سياسياً عن الوفد. وفى عام 34 أنشئت الجريدة اليومية والتى انحازت سياسياً إلى النقراشى فى خلاف بينه وبين النحاس الأمر الذى أدى إلى إعلان الوفد أنها لا تعبر عنه .. فتوقفت الجريدة وأصبحت المجلة منحازة إلى النقراشى وبالتالى إلى القصر الذى ارتبط به النقراشى سياسياً. ما أهم ماكان يميز «روزاليوسف» و«الأخبار» وقتها كمدرستين صحفيتين؟ «الأخبار كما قلت من قبل كان لديها ميل واضح إلى سياسات الولاياتالمتحدةالأمريكية باعتبارها تمثل حالة من الجاذبية فى ذلك الوقت خاصة أنها لم تكن متورطة فى إشكاليات المنطقة العربية سياسياً .. أما روزا فمنذ بدايتها وهى تعبر عن مدرسة مختلفة فى الصحافة المصرية ألا وهى مدرسة الرأى. أيضا بمرور الوقت ظهرت الصحافة اليسارية التى عبرت عن التيارات الشيوعية الصاعدة بقوة وقتها مثل «البشير الفجر الجديد» فى الوقت الذى كانت تزداد فيه قوة الصحف الحزبية. وضع المدارس الصحفية اختلف مع اندلاع ثورة يوليو أليس كذلك؟ بعد الثورة وبالتحديد بعد أحداث مارس 54 حدثت صدامات عنيفة بين الثورة وبين جميع الصحف بما فيها التى مهدت لفكر الثورة. بمرور الوقت أصبح هناك خمس مدارس صحفية أو لنقل 5 اتجاهات هى التى شكلت الرأى العام على مر السنوات، تمثلت هذه الاتجاهات فى «روزاليوسف أخبار اليوم دار الهلال والوليدة دار التحرير التى أصدرتها الثورة.» كل هذه الاتجاهات يمكنك توصيفها على أنها كانت بمثابة تنويعات على الخطاب السياسى للدولة على النحو التالى: روزاليوسف كانت تجنح بشكل واضح إلى اليسار ، الدولة كانت تعلم هذا جيدا وتوافق عليه.. ومع الوقت أصبحت ميولها اليسارية أوضح خاصة مع اعتمادها على أسماء كانت تمثل الجناح اليسارى لليبراليين مثل محمود أمين العالم وفتحى غانم وأحمد بهاء الدين. أخبار اليوم ظلت منحازة للولايات المتحدةالأمريكية ومؤيدة بشكل واضح لفكرة التحالف مع أمريكا بينما انحازت روزا للتحالف مع الاتحاد السوفييتى . كانت هذه هى سياسة عبدالناصر أن يمنح الفرصة للصحف لكى تعبر عن التيارات السياسية والفكرية المختلفة فى ضوء السقف الذى حدده هو. الجمهورية مثلا الصادرة عن دار التحرير فكانت لسان حال تقلبات الثورة المزاجية ففى أحيان كثيرة كانت بمثابة صوت يسارى. بالنسبة للأهرام ظل وضعها كما هو إلى أن انتبه ناصر إلى خطورة التدهور الذى تعانى منه على مستوى التوزيع فكان اللجوء إلى «محمد حسنين هيكل» كفكر شاب لكى يتولى رئاسة تحريرها. على الصعيد المهنى ظلت روزا تحافظ على أسلوبها الصحفى الذى يعتمد على الرأى بشكل أساسى .. أيضا كانت دائما مليئة بالحيوية والتجدد من حيث الكتاب والاتجاهات.. بينما لجأت الأخبار إلى حل آخر عندما أصبح هناك مصدر واحد للأخبار بعد قيام الثورة حيث بدأت تهتم بأخبار غير سياسية .. خاصة أن مصطفى أمين وضع وقتها قاعدة هامة جداً وهى إمكانية أن يتصدر خبر عن جريمة الصفحة الأولى .. ومثل الاهتمام الزائد بالرياضة وبكرة القدم على صفحات الجريدة. أذكر فى ذلك الصدد واقعة هامة جدا .. وهى أن جريدة الأخبار هى التى أحضرت فريق ريال مدريد سنة 60 على حسابها لكى يلعب مع مصر ونجحت فى جذب اهتمام الجماهير إلى هذا الحدث. أتصور أن الوضع سياسياً على الأقل أصبح مختلفاً بالنسبة لهذه المدارس فى السبعينيات بكل تحولاتها السياسية أليس كذلك؟ عندما جاء الرئيس السادات أذكر أنه عين وقتها «عبدالرحمن الشرقاوى» صديقه رئيساً لتحرير روزاليوسف.. ومع عودة المنابر أصبحت روزا تعبر بشكل أو بآخر عن التجمع .. ولكن بعد أحداث 18 و19 يناير أقال الشرقاوى وجاء بشخص آخر ليس له أى ميول يسارية أما الأخبار فنجحت فى ذلك الوقت أن تثبت أنها تمثل الصحافة الشعبوية من خلال لغة المقالات والكتابة الرشيقة، فى الوقت الذى ظلت فيه الأهرام محافظة على رصانتها الزائدة فى الأسلوب والكتابة. عدت بذاكرتك كثيرا لكى تستعرض تاريخ هذه المدارس الصحفية .. الأمر الذى يجعلنى أتساءل .. هل ترى أن هناك تآكلا فى المدارس الصحفية الآن؟ هناك درجة من درجات التشوش فى المدارس الصحفية وأعنى هنا التشوش المهنى وحتى تشوش المفاهيم مثل أن تزعم جريدة ما بأنها مستقلة رغم أنها جريدة معارضة وليست مستقلة كما تزعم.. فالشروق أو الدستور أو حتى صوت الأمة ليست صحفاً مستقلة وإنما صحف معارضة فهى من ناحية لا تنشر أى أخبار عن إنجازات للحكومة وحتى إذا نشرته ستنشره بالتركيز على مضمونه السلبى. وما السبب فى ذلك؟ المشكلة الأساسية أن الصحف المستقلة لابد أن تحافظ على استقلاليتها أكثر مما تفعل الآن .. وأن تعرف أن الأساس هو القارئ وأن مهمتها هى تقديم الأخبار للقارئ بغض النظر عن الاتجاهات السياسية .. بلغة أخرى عليها أن تحافظ على تقاليد المهنة. وماذا عن المدارس التقليدية .. هل تآكلت؟ فيما يتعلق بروزا فلم تعد يسارية كما كانت على الصعيد السياسى..أما مهنياً فمازالت تحافظ على مكانتها من خلال اجتهادات صحفية تدعو للإعجاب سواء من ناحية الإخراج أو القضايا ولكن من حيث الرؤية العامة أصبحت أكثر انحيازاً إلى الرأسمالية. من ناحية أخرى مازالت الأهرام الأكثر رصانة والأكثر حفاظا على تقاليد المهنة .. بينما اختلفت الأخبار عن وضعها السابق حيث أصبح هناك تنوع كبير على مستوى الأخبار واستفادت من مساحة الحرية التى أصبحت موجودة ولكن بشكل أو بآخر مازالت الأخبار جريدة شعبوية. ما الذى يجعلك تقول إن هناك حالة من التشوش؟ فى عام 2004 حدث انفتاح من نوع آخر وسقطت كل الخطوط الحمراء وهنا بدأ الزحف الكبير حيث التوسع فى إصدار الصحف .. وظهر جيل جديد من الصحفيين كان مكبوتاً لسنوات طويلة.. وأصبحت الناس تتحدث بحرية عن كل شىء ولكن يندر أن تجد رؤية حقيقية وبالتالى أصبحت الصحافة المصرية مضروبة ب «الاصفرار» بدرجات متفاوتة. وبالتالى أصبحت النتيجة مانراه من تشوش وخروج على تقاليد المهنة وتلفيق الأخبار ولكنى مؤمن بأن الحرية قادرة على تنظيم نفسها بنفسها.؟