كنت فى زيارة لدولة الإمارات.. قبل أيام من انفجار أزمة ديون دبى التى أصابت بورصات العالم بالحمى.. كان كل شىء هناك رائعاً.. بل أروع مما شاهدته فى زياراتى الأولى لها فى بداية التسعينيات.. أيامها اعترفت "نعم أحببتها".. بعد أن سحرتنى قدرة هذا البلد على التعطر بالبخور الهندى مع لمسات من أرقى العطور الباريسية.. والحفاظ على الأصالة العربية عند التعامل مع العالم بكل ما فى العصر من تكنولوجيا.. وفى زيارتى الأخيرة زاد حبى لهذا البلد الذى نجح فى الحفاظ على إنجازات الأب المؤسس للدولة الشيخ زايد رحمه الله.. وأضاف عليها أبناؤه بقيادة الشيخ خليفة بن زايد رئيس الدولة الكثير من الإبهار والروعة والجمال.. وكاد الحديث الهامس عن تأثيرات الأزمة المالية العالمية أن يبطل سحر المدن وجمالها. كنا حوالى 70 صحفيا ينتمون لأكثر من 30 دولة.. أمضينا ستة أيام فى ضيافة دولة الإمارات للمشاركة فى عيدها الوطنى الثامن والثلاثين.. وهناك تعارفنا وتبادلنا النكات والمعلومات والسجائر والضحكات.. وفى كل الأحوال كان معنا رجال المجلس الوطنى للإعلام الإماراتى فى كل خطوة.. ينظمون برنامج الزيارة بدقة.. ويجيبون عن الأسئلة.. ويبذلون جهداً كبيراً دون أن يفقدوا سعة الصدر والمرح وعلى رأسهم المدير العام إبراهيم العابد.. هذا الرجل الوقور.. وسعود الحارثى الذى أصبح صديقاً.. وعمر أحمد السعيدى الذى كان يحل أعقد المشاكل بابتسامة هادئة.. باختصار كانت صحبة رائعة.. وكانت مدن الإمارات أكثر من ساحرة بمطاراتها وموانيها وطرقها السريعة وشواطئها الخلابة ومبانيها البديعة ومتاحفها وفنادقها الفاخرة وأسواقها الحديثة وأدب مواطنيها الشديد.. وبعد عدة لقاءات مع المسئولين هناك لم يعد الحديث عن تأثير الأزمة المالية العالمية على دولة الإمارات العربية واقتصادها قادراً على إبطال سحر الاعجاب بهذا البلد الذى ينافس أكثر بلدان العالم تقدما فى الالتزام بالمعايير الدولية فى كل شىء بدءاً من الحفاظ على البيئة إلى مواصفات أرصفة الشوارع ومن النظافة إلى إنشاء أضخم المشاريع الاستثمارية ومن الالتزام بحقوق الإنسان وتمكين المرأة إلى الجرأة فى التنافس الدولى فى مشروعات التجارة والصناعة والسياحة.. إلخ. فى اليوم الأول للزيارة استقبلنا صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم "نائب رئيس الدولة ورئيس مجلس الوزراء الاتحادى وحاكم دبى" فى قصره.. وبعد أن صافحنا جميعاً جلس معنا وتحدث عن دور الحكومة الاتحادية فى دعم مسيرة التنمية فى الدولة.. وعن تأثيرات الأزمة المالية العالمية على دولة الإمارات قال.. "إنه لا يسميها أزمة بل يفضل أن يسميها تحديا ستخرج منه دولة الإمارات بإذن الله أكثر قوة".. ثم شاركنا الطعام فى وليمة أكثر من فاخرة وبعدها ودعنا على باب قصره.. بعدها قمنا بجولة فى مدينة دبى.. وعرفت خلالها أن إمارة دبى كانت قد أعلنت عن عدد من المشاريع العملاقة مثل مدينة "جميرة جاردنز" بتكلفة 90 مليار دولار.. ومشروع "دبى لاند" بتكلفة 65 مليار دولار.. ومشروع "داون تاون" بتكلفة 20 مليار دولار.. وكانت إمارة دبى قد انتهت من المرحلة الأولى من مشروع مترو دبى المعلق بتكلفة 30 مليار درهم.. وقام الوفد الإعلامى بجولة فى هذا المترو.. وفى المساء حصلت على بعض الأوراق التى توضح بعض جوانب الموقف.. وفيها كلمة ألقاها الشيخ محمد بن راشد نائب رئيس الدولة وحاكم دبى أمام منتدى لرجال الأعمال قال فيها "إن دبى ستتابع مشاريعها التنموية وستفى بالتزاماتها المالية فى السنوات المقبلة.. كما أنها ستبقى عاصمة الشرق الأوسط المالية والتجارية بدون منازع.. وأكد على أهمية البنية التحتية التشريعية للإمارة فضلا عن موقعها الجغرافى فى منتصف مراكز الأعمال فى الغرب والشرق.. بالإضافة إلى امتلاكها سادس أكبر مطار فى العالم وسادس أكبر ميناء فى العالم وأكبر ميناء فى الشرق الأوسط.. وبالنسبة للسوق العقارية التى شهدت ازدهاراً كبيراً طوال السنوات الست الماضية قبل أن تتعرض لانتكاسة قوية تزامنا مع الأزمة الاقتصادية العالمية.. قال الشيخ محمد بن راشد.. نائب رئيس الدولة وحاكم دبى.. إن هذه السوق لم تكن القاطرة الوحيدة لاقتصاد دبى.. وإنه من الإجحاف اختصار تجربة دبى فى تلك المشاريع فحسب مهما كانت ضخامتها.. فقصة نجاح دبى التنموية أوسع نطاقاً وأكثر عمقاً وتنوعاً من الناحية الاستراتيجية.. وشدد على قوة دبى ضمن الاتحاد مع باقى مكونات دولة الإمارات العربية المتحدة.. وأن نجاح دبى هو امتداد لنجاح أبوظبى والعكس صحيح.. والأمر ذاته بالنسبة لبقية الإمارات داخل دولة الاتحاد. انتهى كلام الشيخ محمد بن راشد.. وانتهى معه القلق. فى زيارتى الأولى لدولة الإمارات منذ أقل من عقدين من الزمان كان ما يذهلنى وقتها هو قدرة الشيخ زايد - رحمه الله - على قيادة شعبه فى معركة أسطورية حولت الصحراء إلى مدن متطورة تنافس أرقى مدن العالم فى روعة سحرها وجمالها.. وعندما كنت هناك منذ أيام أذهلتنى قدرة ابنه الشيخ خليفة بن زايد رئيس الدولة على قيادة شعبه فى مرحلة التمكين.. فلم يعد السحر هنا مقصوراً على المدن الحديثة والطرق السريعة.. بل انطلق السحر إلى مرحلة أعمق.. إنها مرحلة المشروعات الاستثمارية الأسطورية.. التى وصلت تكلفتها وفقاً لبعض المصادر إلى نحو 200 مليار دولار.. ومنها مثلا مشروع جزيرة السعديات - على مساحة 27كم2 - ويضم عدداً من المتاحف أهمها متحف لوفر أبوظبى.. ومن المتوقع الانتهاء منه عام 2018 بتكلفة تصل إلى نحو 30 مليار دولار.. ومنها أيضا مشروع مدينة مصدر التى ستكون أول مدينة فى العالم خالية من الانبعاثات الكربونية وتعتمد بنسبة 90٪ على الطاقة الشمسية وسينتهى العمل بها عام 2016 بتكلفة تصل إلى 22 مليار دولار.. ولا يقتصر الأمر على ذلك بل هناك العديد من المشروعات الضخمة فى المجالات الثقافية والرياضية والترفيهية والسياحية.. فمثلا فى قصر الإمارات سيكون هناك قريبا أوبرا عالمية ومعارض دولية للفنون التشكيلية ومعارض دائمة لأحدث الكتب فى العالم.. وفندق فاقت فخامته أى قدرة على التخيل.. وفى جزيرة "ياس" بالقرب من أبوظبى أقيمت مدينة رياضية هى الأحدث فى العالم وقد شهدت مؤخراً سباق السيارات العالمى "فورميلا - 1" ويلاحظ أن هناك ولعا شديدا بإقامة المنشآت الرياضية فى مختلف إمارات الدولة.. وتنظيم المسابقات الرياضية الدولية بعضها خاص بلعبة الكروكيت وأغلبها تنظيم سباقات الهجن والخيول والسيارات والقوارب الشراعية والزوارق الآلية وغيرها. هذا بالإضافة إلى عدد لا حصر له من المشروعات كانت بالنسبة لى شخصياً أقرب إلى الخيال العلمى.. وشعرت وأنا أتابع تفاصيلها وكأننى فى كوكب آخر.. أو أننى أتعامل مع المستقبل بكل تفاصيله.. فمثلا تم حل وزارة الإعلام وأصبحت كل صلاحياتها تحت ولاية المجلس الوطنى للإعلام لملاحقة التطورات السريعة فى هذا المجال.. وتأسست العديد من الشركات المتخصصة فى مختلف الأنشطة الإعلامية من الصحافة المطبوعة والصحافة الإلكترونية والبث الإذاعى والبث التليفزيونى والإنتاج السينمائى.. كما أقيمت العديد من المناطق الحرة الإعلامية فى الإمارات السبع بهدف تحقيق نمو وازدهار فى صناعة السينما والقنوات التليفزيونية والرسائل الإعلامية الأخرى مثل حدائق "تى كوم بيزنس" بدبى ومدينة دبى للإنترنت ومدينة الفجيرة الإبداعية.. وأنشئت منطقة أبوظبى الحرة للإعلام "توفور - 54".. كما أنشئت الحديقة الإعلامية الدائمة بأبوظبى على مساحة 200 ألف متر مربع.. وهى تضم استديوهات إنتاج ووحدات لما بعد الإنتاج.. إضافة إلى خدمات بث للسينما وبث إذاعى ونشر رقمى وصناعات موسيقية ومن المنتظر أن يتم الانتهاء من إنشاءاتها عام .2013 المذهل أنك كلما نظرت فى اتجاه تجد حركة نشطة تتم وفق خطة شاملة.. إنها طريقة تفكير مختلفة.. ولا مجال للمقارنة بين ما يحدث فى الإمارات وغيرها من الدول.. أنهم يتحركون بجرأة.. ووفق رؤية شاملة وتخطيط متناهى الدقة.. ويستعينون بأكثر الخبرات تقدما فى العالم.. فمثلا عندما زرت مشروع جزيرة "ياس".. حيرتنى روعة الإبداع المعمارى فى مرافقه السياحية والرياضية والعقارية والترفيهية.. ولكن عندما عرفت أن تكلفة المشروع تصل إلى 40 مليار درهم (11 مليار دولار) تحولت حيرتى إلى دهشة وتساؤل.. ووجدت الرد على التساؤل فى تصريح كان قد أدلى به الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة أثناء حضوره احتفال السباق العالمى "للفورميلا -1".. قال فيه "إن المشاريع الكبرى التى تقام فى البلاد تعزز من مكانة الدولة بما توفره من دعم للحركة السياحية والتجارية فى الإمارات والمنطقة بشكل عام كما أن المشاريع السياحية والثقافية الكبرى التى تشاهد على أرض الإمارات تعد من أهم الاستثمارات التى تركز عليها الدولة".. وأشار الشيخ خليفة رئيس الدولة إلى أن مشروعا مثل جزيرة "ياس" يعزز طموح دولة الإمارات لتصبح مركزاً إقليمياً ودوليا لجذب الاستثمارات المتنوعة فى جميع المجالات حيث إن الإمارات تملك مقومات كبيرة وفرصا متنوعة لتعزيز هذه الاستراتيجية فى مجالات التجارة والصناعة والطاقة المتجددة والسياحة وغيرها من القطاعات.. وهكذا لخصت كلمات رئيس الدولة طريقة التفكير فى الإمارات.. وشرح تفاصيلها عدد من كبار المسئولين الذين التقينا بهم.. ومنهم الشيخ مبارك آل نهيان وزير التعليم العالى والبحث العلمى.. والسيد عبدالعزيز الغرير رئيس المجلس الوطنى الاتحادى (البرلمان).. ود. أنور قرقاش وزير الدولة للشئون الخارجية.. ومعالى الشيخة لبنى القاسمى وزيرة التجارة الخارجية.. ومعالى ناصر أحمد خليفة السويدى رئيس دائرة التنمية الاقتصادية فى أبوظبى.. والسيد عبدالله حسين السملاوى المدير التنفيذى لمركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية.. ودارت نقاشات طويلة معهم.. كلها كانت تشير إلى أن الإمارات صارت بالفعل دولة الإنجازات الضخمة فى مرحلة التمكين.. والقدرة الهائلة على مواجهة التحديات بنجاح وفق طريقة تفكير مختلفة. وطريقة التفكير المختلفة تعتمد فى الأساس ومنذ إنشاء دولة الاتحاد على تحقيق الاستقرار الاقتصادى للدولة بعيداً عن تقلبات أسعار النفط وكان النجاح فى هذا المجال هو السبب الأهم فى قدرة الدولة الهائلة على مواجهة تداعيات الأزمة المالية العالمية التى عصفت بالجميع منذ العام الماضى وحتى الآن.. ولك أن تتخيل أنه برغم هذه الأزمة نما الاقتصاد الإماراتى وفقا لبيانات وزارة الاقتصاد بنسبة 4,7٪ خلال العام الماضى مقابل معدل نمو 2,5٪ فى عام .2007 وارتفع الناتج المحلى الإجمالى للدولة إلى 4,929 مليار درهم (الدرهم 46,1 جنيه مصرى) فى العام الماضى مقابل 7,729 مليار درهم فى العام السابق له.. وجاءت هذه الزيادة نتيجة لعاملين: الأول هو زيادة أسعار النفط بنسبة تقترب من 30٪ فى نفس الفترة وكان العامل الثانى والأهم هو ارتفاع قيمة مساهمات القطاعات غير النفطية فى الناتج المحلى الإجمالى لتصل إلى 1,577 مليار درهم فى العام الماضى مقابل 9,467 مليار درهم فى العام السابق له.. ومع هذه الزيادة ارتفعت نسبة مساهمة القطاعات غير النفطية فى الناتج المحلى فى العام الماضى إلى 1,62٪. معنى هذا أن المشروعات العملاقة التى ينفذها ويديرها أبناء دولة الإمارات كانت السبب الأهم فى دعم قوة الاقتصاد، وفى تحرير اقتصادهم من الارتباط بالنفط وحده وتقلبات أسعاره العالمية، وهو ما أدى إلى تحقيق فائض فى ميزانها التجارى بلغ 1,184 مليار درهم فى العام الماضى.. وهو ما دعا بعثة صندوق النقد الدولى خلال زيارة عمل لدولة الإمارات إلى الإشادة بقوة اقتصادها وتوقعت أن يرتفع الناتج المحلى الإجمالى بواقع 3٪ فى العام القادم ويستمر فى الارتفاع ليصل إلى 5٪ عام 2012، وتوقعت أن يتراجع التضخم ليصل هذا العام إلى 1٪ بعد أن كانت هذه النسبة قد وصلت إلى 1,11٪ منذ عامين فقط.. المهم هنا أن قوة اقتصاد الحكومة الاتحادية ساعدتها على اتخاذ العديد من الخطوات الفعالة فى مواجهة الأزمة المالية العالمية.. ومنها مثلاً قيام البنك المركزى بضخ 120 مليار درهم لحل مشاكل السيولة.. وبعد إعلان حكومة دبى عن عدم قدرتها على سداد ديون شركات تابعة لها.. وتوقف تنفيذ بعض المشاريع مثل مشروع "دبى لاند" فى إطار تداعيات الأزمة المالية العالمية.. اعتبر بعض المسئولين هناك أن ما حدث أمر مؤقت من الناحية التجارية وإجراء طبيعى لتخطى فترة الأزمة. فعلاً إنهم يفكرون بطريقة مختلفة أكثر تطوراً وطموحاً.. فهم مثلاً يخططون لاستقبال نحو 2,11 مليون سائح فى العام القادم.. وأعدوا العدة لذلك بفنادق هى الأكثر شهرة فى العالم مثل قصر الإمارات وبرج دبى وأطلانتس.. كما أعدوا لذلك مراكز ضخمة للتسوق غاية فى الروعة.. وحولوا الإمارات إلى واحدة من أهم الأسواق الرئيسية فى العالم لتجارة الذهب والمجوهرات والعطور والملابس.. وعندما سألت عن سعر الغرفة فى قصر الإمارات صدمنى الرقم.. وفهمت أنهم يخططون لاجتذاب السياح الأغنياء أكثر من غيرهم.. وبعيداً عن الأرقام والخطط والإنجازات يدهشك أن عدد سكان دولة الإمارات يبلغ نحو 5,4 مليون نسمة منهم 864 ألف مواطن إماراتى فقط ونحو 62,3 مليون وافد من مختلف دول العالم.. وعندما سألنا.. كيف تسير الحياة فى ظل هذه التركيبة السكانية.. كان رد المسئولين واحدا تقريباً.. قالوا: نحن فخورون بوجود هذا العدد الكبير من الوافدين للعمل فى الإمارات من العرب والأجانب.. وعليهم احترام القوانين المحلية ومن يخالف تقوم السلطات المحلية بترحيله. وفى النهاية رحم الله الشيخ زايد الذى وحد الإمارات وأقام الدولة الاتحادية وحول مدنها إلى حياة يملؤها السحر والطموح الزكى.. وسار على نهجه الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة الذى حافظ على تعاليم والده، وأضاف إليها الكثير من فكره لتتحول إلى مشروعات وبرامج عمل جعلت نصيب المواطن الإماراتى من الناتج المحلى "مستوى دخل الفرد" 53 ألف دولار سنوياً.. أو كما قال الشيخ زايد "الإنسان هو محور التنمية".