ثلاثة بلاغات، ضد ثلاثة كتب تقدم بها ثلاثة نشطاء حقوقيون إلي النائب العام.. التهمة واحدة هي أن هذه الكتب تمثل ينابيع التطرف التي ينهل منها دعاة يطاردوننا بجحيم الآخرة.. البلاغات الثلاثة تطالب إما بتجفيف هذه الينابيع، بمصادرة الكتب الثلاثة أو علي الأقل تنقيحها بحذف ما يعد تحريضا مباشرا علي فتنة طائفية أو ازدراء أديان.. الكتاب الأول ل"ابن تيمة"، عنوانه "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم".. والآخران لتلميذه "ابن القيم الجوزية"، الأول عنوانه "هداية الحياري في أجوبة اليهود والنصاري"، والثاني عنوانه "أحكام أهل الذمة". قبل استعراض النماذج التي تحاول إثبات التهمة علي الكتب الثلاثة يجب الوضع في الاعتبار أن "ابن تيمة"، ولد قبل نهاية الحروب الصليبية بحوالي ثلاثين سنة.. كما ولد ابن القيم الجوزية في العام التالي علي نهايتها.. ومع علاقة الأستاذ والتلميذ التي ربطت الاثنين يمكن احتمال قسوة التأويل عند الشيخين.. كما أنهما من أصول كردية، أي يلامسان حرب تحرير القدس من أعلي درجات الحماسة والانفعال علي أساس أن صلاح الدين الأيوبي، محرر القدس، كردي. الشوك علي رأسه في الكتاب الأول "هداية الحياري في أجوبة اليهود والنصاري"، وتحت عنوان "لا غرابة في جحد النصاري رسالة محمد صلي الله عليه وسلم" ص26 - يقول ابن القيم الجوزية: وقد ذكرنا اتفاق أمة الضلال وعباد الصليب علي مسبة رب العالمين أقبح مسبة، علي ما يعلم بطلانه بصريح العقل، فإن خفي عليهم أن هذا مسبة لله وأن العقل يحكم ببطلانه وبفساده من أول وهلة لم يكثر علي تلك العقول أن تسب بشرا أرسله الله، وتجحد نبوته، وتكابر ما دل عليه صريح العقل من صدقه وصحة رسالته، فلو قالوا فيه ما قالوا لم يبلغ بعض قولهم في رب السماوات والأرض الذي صاروا به ضحكة بين جميع أصناف بني آدم". يواصل المؤلف حسب مذكرة الدفاع: فأمة أطبقت علي أن الإله الحق - سبحانه عما يقولون - صُلب وصُفع وسُمِّر ووُضع الشوك علي رأسه ودُفن في التراب، ثم قام في اليوم الثالث وصعد وجلس علي عرشه يدبر أمر السماوات والأرض، لا يكثر عليها أن تطبق جحد نبوة من جاء بسبها ولعنها ومحاربتها وإبداء معايبها والنداء علي كفرها بالله ورسوله، والشهادة علي براءة المسيح منها ومعاداته لها ثم قاتلها وأذلها وأخرجها من ديارها وضرب عليها الجزية وأخبر أنها من أهل الجحيم خالدة مخلدة لا يغفر الله لها وأنها من الحمير، بل إنها شر الدواب عند الله". في الصفحة التالية "29" يقول ابن القيم: "وكيف ينكر لأمة أطبقت علي صلب معبودها وإلهها ثم عمدت إلي الصليب فعبدته وعظمته، وكان ينبغي لها أن تحرق كل صليب تقدر علي إحراقه، وأن تهينه غاية الإهانة، إذ صلب عليه إلهها".. في ذات الصفحة، أضاف المؤلف: و"الذين اختاروا صلاة يقوم أعبدهم وأزهدهم إليها والبول علي أفخاذه فيستقبل الشرق ثم يصلب علي وجهه ويعبد الإله المصلوب، ويستفتح الصلاة بقوله: يا آبانا الذي في السماوات تقدس اسمك". يقفز البلاغ إلي صفحة 182 ويسجل لابن القيم قوله: "وليس عند من زني أو لاط أو سكر حد في الدنيا أبدا، ولا عذاب في الآخرة، لأن القس أو الراهب يغفره لهم.. فكلما أذنب أحدهم ذنبا أدي القس هدية أو أعطاه درهما أو غيره ليغفر له به، وإذا زنت امرأة أحدهم بيتها عند القس ليطيبها له، فإذا انصرفت من عنده وأخبرت زوجها أن القس طيبها قبل ذلك منها وتبرك به". بداية القصيدة كفر البلاغ الثاني اصطاد كتاب "ابن تيمية" من عنوانه "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم"، إذ اعتبر مقدموه أن محتواه ظاهر من العنوان، وهو أنك أيها المسلم حتي تكون علي الصراط المستقيم حقا، فينبغي عليك أن تخالف أصحاب الجحيم، وهم الكافرون بوجه عام، واليهود والنصاري بوجه خاص، وأنك كلما كانت مخالفتك لهم تامة، كانت موافقتك للصراط المستقيم أتم، وكلما وافقتهم في عقيدة أو عمل عادة أو عبادة كلما ابتعدت عن الصراط المستقيم". وبخلاف دلالات العنوان.. فقد جاء في فصل (في ذكر الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع علي الأمر بمخالفة الكفار والنهي عن التشبه بهم) وبالتحديد في صفحة 127: "وقال محمد بن أبي حرب: سئل أحمد عن نعل يخرج فيه، فكرهه للرجل والمرأة وقال: إن كان للكنيف والوضوء لا بأس وأكره الصرار".. وشرح تعليق الهامش المعني بأن الشيخ رحمه الله قال: إن كان للكنيف أو الوضوء فلا بأس، لأنه إهانة، وهل مثل ذلك لو وجدنا صليبا في النعال.. أو وجدنا صليبا في حفاظ الأطفال.. فهل نقول أن هذا لا بأس به، وأنه إهانة، وأي إهانة أعظم من أن يكون محلا للقاذورات. والمعني وفق أصحاب البلاغ أنه لا يجوز أن يرتدي المسلم أي شيء يرتديه غير المسلم إلا إذا كان فيه تحقير لمعتقدات وشعائر غير المسلم.. ويضرب المثل علي ذلك بجواز أن ينتعل المسلم نعلا عليه صليب لدخول دورة المياه، لأن في ذلك تحقيرا لشعائر المسيحي. في فصل (موافقتهم لا تجوز) صفحة 310 يقول ابن تيمية: "إن مشابهتهم في بعض أعيادهم يوجب سرور قلوبهم بما هم عليه من باطل، خصوصا إذا كانوا مقهورين تحت ذل الجزية والصغار، فرأوا المسلمين قد صاروا فرعا لهم في خصائص دينهم، فإن ذلك يوجب قوة قلوبهم وانشراح صدورهم، وربما أطمعهم ذلك في انتهاز الفرص واستذلال الضعفاء.. وهذا محسوس لا يستريب فيه عاقل.. فكيف يجتمع ما يقضي إكرامهم بلا موجب، مع شرع الصغار في حقهم ".. والمعني أنه لا يجوز للمسلم تهنئة أو حضور أعياد غير المسلم، خاصة المسيحيين واليهود لأنهم لابد لهم أن يكونوا صاغرين، مستذلين. في صفحة 327 ضمن الفصل الخاص ب(للكفار أعياد كثيرة مختلفة) يقول ابن تيمية: "وسئل ابن القاسم عن الركوب في السفن التي تركب فيها النصاري إلي أعيادهم، فكره ذلك مخافة نزول السخط عليهم بشركهم الذي اجتمعوا له، وكره ابن القاسم للمسلم أن يهدي إلي النصراني شيئا في عيدهم مكافأة له، ورآه من تعظيم عيدهم، وعونا لهم علي مصلحة كفرهم.. ألا تري أنه لا يحل للمسلمين أن يبيعوا للنصاري شيئا من مصلحة عيدهم، ولا لحما ولا إداما ولا ثوبا ولا يعارون دابة، لأن ذلك من تعظيم شركهم، ومن عونهم علي كفرهم، وينبغي للسلاطين أن ينهوا المسلمين عن ذلك". ولا يرفعوا نارا في كتاب (أحكام اهل الذمة) يسجل البلاغ الثالث علي ابن القيم الجوزية قوله في صفحة 490: "لما كان الصليب من شعائر الكفر الظاهرة، كانوا ممنوعين من إظهاره.. قال أحمد في رواية ابن حنبل: ولا يرفعوا صليبا، ولا يظهروا خنزيرا، ولا يرفعوا نارا، ولا يظهروا خمرا، وعلي الإمام منعهم من ذلك". وفي صفحتي 173 و174 يقول ابن القيم: "فمن ضروب الطاعات إهانتهم في الدنيا قبل الآخرة التي هم إليها صاغرون.. ومن حقوق الله تعالي الواجبة أخذ جزية رءوسهم.. ومن الأحكام الدينية أن تعم جميع الذمة إلا من لا تجب عليه باستخراجها، وأن يعتمد في ذلك علي سبيل السنة المحمدية ومناهجها، وألا يسامح بها أحد منهم ولو كان في قومه عظيما، وألا يقبل إرساله بها ولو كان فيهم زعيما، وألا يحيل أحد من المسلمين، ولا يوكل في إخراجها عنه أحد الموصين، وأن تؤخذ منه علي وجه الذلة والصغار، وإذلالا لطائفة الكفار، وأن تستوفي من جميعهم حق الاستيفاء". في فصل (أوقاف الذميين ووقف المسلمين عليهم) قال ابن القيم في صفحة 214: "وأما الوقف علي كنائسهم وبيعهم ومواضع كفرهم التي يقيمون فيها شعار الكفر فلا يصح من كافر ولا مسلم.. فإن في ذلك أعظم الإعانة لهم علي الكفر والمساعدة والتقوية عليه، وذلك مناف لدين الله، وللإمام إن استولي علي كل وقف أو كنيسة أو بيت نار، بيعه.. كما له أن يستولي علي ما وقف علي الحانات والخمارات وبيوت الفسق بل أولي، فإن بيوت الكفر أبغض إلي الله ورسوله من بيوت الفسق، وشعار الكفر أعظمهن شعار الفسق، وأضر علي الدين، وإن كنا نقر بيوت الكفر الجائز إقرارها ولا نقر بيوت الفسق.. فما ذاك لأنها أسهل منها وأهون، بل لأن عقد الذمة اقتضي إقرارهم عليها، كما نقر الكافر علي كفره ولا نقر الفاسق علي فسقه.. فللإمام أن ينتزع تلك الأوقاف ويجعلها علي القربات.. ونحن لم نقر أهل الذمة في بلاد الإسلام علي أن يتملكوا أرض المسلمين ودورهم ويستعينوا بها علي شعار الكفر". جذور الفتنة مقدمو البلاغات نجاد البرعي المحامي بالنقض، وأحمد أبو المجد المحامي بالاستئناف ومجلس الدولة، وأحمد سميح عن نفسه وبصفته مدير مركز أندلس لدراسات التسامح ومناهضة العنف، أرجعوا حوادث الفتنة الطائفية في الآونة الأخيرة إلي مثل أفكار الشيخين، مؤكدين أنها تعكس حالة من الاحتقان الطائفي، وسببه ما يقوم به البعض سواء عن قصد أو عن جهل من إعادة إنتاج هذه الدعاوي السوداء.. وهذا ما تبين من مراجعة الكثير من الفتاوي والكتب والأبحاث والخطب وشرائط الكاسيت الحديثة التي تحفل بالمفاهيم الخاطئة عن علاقة المسلم بغيره، والتي تشوه مبادئ الإسلام السمحة.. خاصة الإخاء. المؤسف أكثر أن الكتب الثلاثة حافلة بأفكار وآراء شديدة القسوة والعنف بما يجعلها مسيئة للإسلام قبل أن تسيء إلي غيره.. وهذا ليس مستغربا علي أسلوب "ابن تيمية" الذي انتقد الخلفاء الراشدين بمنتهي الحدة.. فأبوبكر محدود الرؤية، وعمر لم يحقق من العدل الكثير، وعثمان كان يحب المال، وعلي ادعي الكثير ولم يفعل شيئا.. كذلك نقده اللاذع للصوفية.. وابن القيم الجوزية تلميذه النجيب.