منذ بداية المشوار، وضع لنفسه دستوره الخاص والتزم به طوال حياته.. دستور عنوانه "الحرية" تلك هي الخبيئة.. الكنز الذي يحتضنه كل ليلة في صومعته علي كورنيش النيل. لقد كشف عن هذا الكنز دون أن يدري عندما كتب "أستطيع أن أعطيك قلبي.. فأصبح عاشقاً.. أعطيك طعامي.. فأصبح جائعاً.. أعطيك ثروتي.. فأصبح فقيراً.. أعطيك عمري.. فأصبح ذكري.. لكنني لا أستطيع أن أعطيك حريتي. محمود عوض اختار الصحافة، فأصبحت ليله ونهاره، صباحه ومساءه، زوجته وأبناءه ماضيه وحاضره.. كانت حياته، وكانت أيضاً مماته.. كان يغار عليها ويتألم منها، ولها.. مهموم بنهضتها، لذلك كان انحيازه واضحاً لشباب المهنة، فلم يمر يوم إلا ويكسب صديقاً جديداً ولا يفوته مقال أو خبر متميز إلا ويجتهد في الوصول إلي صاحبه لتشجيعه وتزويده بالنصائح الأبوية الرقيقة.. جمع حوله عشرات الأصدقاء والتلاميذ. سيظل محمود عوض من أهم الصحفيين الذين أنجبتهم مصر.. كلماته جمل موسيقية نرددها.. عناوين كتبه تشبه التعاويذ السحرية.. مواقفه الوطنية واضحة كالشمس. نعزي أنفسنا في فقدان الأستاذ الكبير بواحدة من أفضل المقدمات، والتي استهل بها كتابه "أفكار ضد الرصاص" الذي صدرت طبعته التاسعة والأخيرة قبل عامين. "أفكار ضد الرصاص" يعتبر أهم كتب الراحل، فقد كان بمثابة رصاصة أطلقها في وجه دعاة التخلف والرجعية والظلام، وشمعة أضاء بها الطريق نحو الحرية والعدل. روزاليوسف
إن الشك عملية مؤلمة وشاقة، لهذا يرفضها الشخص، ويرفضها المجتمع، حينما تنعدم ثقته بنفسه وبتاريخه وبقوته. إن هذا الذي يسكن بيتا من زجاج يخشي عليه من أصغر حجر يقذفه أول عابر في الطريق، أما الذين يسكنون مجتمعا متينا متماسكا، فإنهم لا يخشون النقد والمعارضة.. والشك. إنهم يفعلون ذلك لأنهم يعلمون أن من يؤمن بعد الشك والمناقشة هو المؤمن حقا. إنه مؤمن بعد تفكير وموازنة. إنه قتل مع سبق الإصرار والترصد، قتل مع التعمد. قتل مع التنفيذ. إنه ليس تفكيراً في قتل، ليس شروعاً، ليس محاولة. إنه.. قتل! ومع ذلك.. فإن الجاني يخرج بعد كل جريمة بغير عقاب! إن القتيل معروف.. وأداة القتل مضبوطة.. وسبب القتل واضح. والشهود موجودون.. والقاتل معترف. ومع ذلك- فإن جريمة القتل يتم تسجيلها في النهاية ضد: مجهول. إن القتيل ليس شخصاً عادياً، والقاتل ليس شخصاً واحداً. القتيل هو "كتاب" مجرد كتاب. مجرد حبر وورق.. وعليهما رأي.. لكن- إذا كان القتيل هو "مجرد" كتاب، فإن القاتل لم يكن "مجرد" شخص. إن القاتل في كل مرة كان مجموعة أشخاص.. أحياناً أغلبية. إن السكين ربما تحمله في النهاية أكثر من يد واحدة (السلطان؟ الملك؟ رئيس الوزراء؟ الحكومة؟)، ولكنهم في النهاية سلطة واحدة. لها تفكير السلطة، وأسلحة السلطة، وجبروت السلطة. إن هدف الجريمة في كل مرة هو هدف عاجل: إعدام كتاب. مصادرة رأي- لكن بعد هذا- هناك هدف آجل: إعدام الحرية. فأي محكمة حينما تقرر إعدام مجرم- قتل مجرم- فإنها لا تقصد بذلك تصحيح الجريمة التي ارتكبها، وإنما تقصد- بالدرجة الأولي- أن تحذر الآخرين من سلوك طريقه. وحينما قررت السلطة في المجتمع المصري "إعدام" الكتب الأربعة التي سنتناولها حالاً، فإنها تعرف بالضبط أسباب هذا الإعدام. إن كلا من قاسم أمين، والكواكبي، وعلي عبدالرازق، وطه حسين.. قد أصدر كتاباً يدافع فيه عن الحرية. كانت جريمة قاسم أمين هي أنه طلب الحرية للمرأة.. في مواجهة الرجل. وجريمة الكواكبي هي أنه طلب الحرية للشعب.. في مواجهة السلطان. وجريمة علي عبدالرازق هي أنه طلب الحرية للدين.. في مواجهة الملك. وجريمة طه حسين هي أنه طلب الحرية للأدب.. في مواجهة السياسة. إن جوهر القضية هو نفسه في كل مرة، ومعني العقوبة هو نفسه في كل حالة، لقد تم التشهير بقاسم أمين، وقتل الكواكبي، وعزل علي عبدالرازق، وفصل طه حسين.. كإجراء نهائي، وقبل ذلك، أعلن المجتمع حكمه علي الأربعة: أنهم خونة.. زنادقة.. ملحدون.. فاجرون. ولم يكن كل هذا مفاجئاً. فالسلطة في المجتمع العربي كانت لها دائماً مقاييسها الخاصة التي تخفيها دائماً وتعلنها أحياناً. إنها تعتبر: أن الخوف صبر.. والجمود عقل.. والتطور جنون.. والتجديد إلحاد.. والحرية كفر.. والتفكير جريمة.. الضعف نعمة.. والجبن قيمة.. والشجاعة رذيلة.. والصمت حكمة.. والجهل فضيلة.. والتمرد زندقة.. والاختلاف خيانة.. الظلام نور.. والظلم عدل.. والطغيان قوة.. والإرهاب قانون.. والحاكم إله.. والمرأة حيوان.. والشعب عبيد.. والتاريخ أسطورة.. والماضي مقدس.. والحاضر مقبول.. والمستقبل ملعون. هذه ليست لوغاريتمات.. هذه مجرد عينة.. مجرد نموذج من المقاييس التي حوكم علي أساسها الرجال الأربعة. إنها أيضاً ليست مفاجأة.. فكل من الأربعة كان يعلم مقدماً بما ينتظره، ومع ذلك قرر اختيار طريقه. فكلما اضطر واحد منهم إلي الاختيار اختار الحرية قبل الضغط.. اختار الاختلاف قبل الموافقة.. اختار المفكر فوق السياسي.. اختار الإنسان الواحد فوق القطيع الضخم. لهذا كله دفعوا ثمنا غاليا وتعرضوا لعقاب صارم . ومع توقع النتيجة وانتظار العقوبة، فإن أحدا من الأربعة لم يتردد لحظة واحدة قبل أن يخرج كتابه. لقد قال رأيه وبدأ يحارب من أجله. إنهم يحاربون من أجل إعلان رأيهم . ليس من أجل وظيفة. ليس من أجل مركز. ليس من أجل سلطة. بل من أجل فكرة .. مبدأ.. رأي. وفي كل مرة كانت المعركة تدور بين طرفين غير متكافئين من البداية: رأس ضد الحائط.. قلم ضد السيف.. شيخ ضد الكعبة.. وطه حسين ضد مصر. وكان الصراع يجري بين رأي ورأي . حجة وحجة. ومع ذلك لم تكن هناك مجادلة. لم تكن هناك مناقشة. كانت هناك فقط.. ملاكمة. والأسوأ من هذا أنها ملاكمة تحت الحزام. إن السلطة تصدر حكمها علي المؤلف في كل مرة بأنه كفر بالله ، ثم تستصدر من الله تأكيدا بالحكم .. حتي لا يقدم المؤلف استئنافا إلي السماء! وفي كل مرة كان كل كتاب يثير ردود أفعال كثيرة بين المثقفين في المجتمع المصري. ولكن السلطة هي التي كانت تحتفظ لنفسها بحق الحسم في النهاية. وحينما تحسم السلطة فإنها لا تفكر، لا تقدر، إنها تذبح.. تستأصل.. تقتل.. وللأسف.. كانت السلطة تجد دائماً مثقفين آخرين يمهدون الطريق أمامها.. مثقفين تجدهم في كل مجتمع مستعدين للتصفيق للسلطة.. طالما أن رأساً آخر هو الذي تحت السيف! وفي كل مرة أيضاً كان كل كتاب يثير الشكوك في صحة واحدة من العلاقات الرئيسية داخل المجتمع: علاقة الرجل بالمرأة.. علاقة السلطان بمواطنيه.. أو علاقة السياسة بالدين والأدب. وبالنسبة لكل واحد من هذه العلاقات كان المجتمع يحتفظ لنفسه بمجموعة من المفاهيم الثابتة المستمرة التي أصبحت خبزاً يومياً يأكله الناس، مفاهيم خاطئة.. لا يهم. مريضة.. لا يهم. إن المهم فقط هو أنها موجودة وأن علي كل فرد في المجتمع أن يقبلها علي ما هي عليه. وعلي كل كاتب أن يصفق لها.. أو يغلق فمه. وبالطبع من الممكن دائماً أن تصفق للخطأ.. وتستمر في الكتابة، أو تعرف الخطأ.. لكن تستمر في التصفيق له. هذا ما اختارته الأغلبية في تلك الأيام التي صدرت فيها تلك الكتب الأربعة. ولكن كلاً من طه حسين وعلي عبدالرازق والكواكبي وقاسم أمين اختار طريقاً آخر: طريق العذاب، لقد عرفوا أن مكانهم ليس مع القطيع، ولكن مع الحقيقة.. مع المستقبل. وفي اختيارهم هذا فإنهم دفعوا الثمن الذي كان لابد أن يدفعوه نيابة عن غيرهم، ففي كل جيل من المثقفين تستطيع أن تجد دائماً عدداً قليلاً من الذين يقبلون التضحية بكل شيء- الأسرة، والثروة، والمركز، والأصدقاء، والوظيفة- لكي يجيبوا عن السؤال المفزع: كيف يجب علينا أن نعيش.. ونفكر؟ السؤال صعب.. والإجابة مهمة.. والثمن فادح. إن حياتهم تصبح جحيماً.. والصداقة معهم تصبح تهمة.. والاستماع إليهم يصبح جريمة.. ولكن ضميرهم يستريح، إن الضمير يستريح.. لأنهم قالوا ما يؤمنون بأنه حق، ولأنهم رفضوا الانضمام إلي القطيع، فالأسماك الميتة فقط هي التي تسبح مع التيار. ولأنهم لم يكونوا أسماكاً ميتة.. لم يكونوا عقولاً ميتة.. فإنهم قالوا للناس رأيهم بصراحة. وكان أول ثمن دفعوه لهذه الصراحة هو أن المجتمع وضعهم في قائمته السوداء. نعم. لسنوات طويلة ظل طه حسين وعلي عبدالرازق والكواكبي وقاسم أمين.. رجالاً في القائمة السوداء. إن العقوبة هنا شخصية، ولكن الهدف الأكثر أهمية هو تحذير غيرهم من سلوك الطريق نفسه. لهذا تساوي مركزهم فترة طويلة مع مركز المجرمين.. أسوأ من المجرمين.. لهذا قام المجتمع سريعاً بقتل كتبهم. بقتل آرائهم. ولماذا لا تسمي العنكبوت عنكبوتاً؟ القضية هي حرية الرأي. إن جرائم القتل الأربع ليست هي الجرائم الوحيدة التي ارتكبتها السلطة ضد حرية الرأي، إنها فقط حالات "التلبس". الحالات التي وقف فيها الجاني "متلبساً" أمام التاريخ.. وأمام المستقبل. وهي جرائم ساهمت فيها أطراف كثيرة، ولكن السياسة كانت هناك دائماً وراء كل جريمة. هذا طبيعي، لأن السياسة في مجتمعاتنا كانت دائماً مع الأمر الواقع، وضد التغيير. إن التغيير يقع، والمستقبل يصل، ولكن المستقبل يفاجئنا في كل مرة حيث لم نتصوره، أو نستعدّ له. ولأن السياسة كانت ترفع حرية الرأي كمجرد شعار. منذ ألف سنة وهي شعار، ولأن السياسة كانت تجد في حرية الرأي خطراً مباشراً عليها، وترفاً لا تريده بالنسبة لمواطنيها. وعندما كانت السياسة في مجتمعنا تقتل حرية الرأي- منذ ألف سنة وهي تقتل حرية الرأي- فإنها كانت في الواقع تقتل أشياء كثيرة في مجتمعنا. إنها تقتل العلم والأدب والتفكير والكرامة والعدل. تقتل المستقبل. إنها تزرع الطاعة بدلاً من النقد، النفاق بدلاً من الصدق، الخوف بدلاً من الشجاعة. وفي النهاية كان المجتمع كله هو الذي يدفع الثمن. إن العلم غير موجود. لأنك لا تستطيع أن تبني مجتمعاً علمياً من العبيد. والأدب غير موجود.. لأن الأدب الجيد لا يكتبه أدباء خائفون. والثقافة لا تنتشر.. لأن النفاق يحقق لك ما تحققه الثقافة.. وأكثر. ثم إن السياسة نفسها كانت تقع في تناقض آخر بعد ذلك.. إنها تريد من المواطن أن يكون جباناً في مواجهة ماضيه.. شجاعاً في مواجهة مستقبله.. جباناً في مواجهة حاكمه.. وشجاعاً في مواجهة عدوه. هذا مستحيل.. لأن الجبن والشجاعة لا ينقسمان إلي أجزاء، إن الجبن يتحقق بإعدام الحرية، والشجاعة تتحقق بانتشار الحرية. هذا هو التناقض.. لأن الحرية هي في النهاية شجاعة عقلية، وحينما تموت شجاعة المواطن في بيته.. فإنها لن تولد فيه فجأة خارج بيته. إن الإنسان لا يستطيع أن يصبح شجاعاً فجأة بمجرد شعار، بمجرد خطبة.. مثلما لا يستطيع الإنسان أن يصبح موسيقاراً فجأة بمجرد سماعه قطعة من الموسيقي. إنني أستطيع أن أعطيك قلبي.. سوف أصبح عاشقاً. أعطيك طعامي.. سوف أصبح جائعاً. أعطيك ثروتي.. سوف أصبح فقيراً. أعطيك عمري.. سوف أصبح ذكري. ولكنني- أبداً أبداً- لا أستطيع أن أعطيك حريتي. إن حريتي هي دمائي، هي عقلي، هي تفكيري، هي خبز حياتي، إنني لو أعطيتك إياها.. فإنني أصبح قطيعاً. حيواناً. كمية مهملة، شيئاً بلا قيمة، شيئاً له ماض. ولكن ليس أمامه مستقبل. إن حريتي هي رأيي، هي شجاعتي، هي نبض الحياة في شراييني. القضايا الأربع - الجرائم الأربع - نموذج في الشجاعة العقلية. نموذج من الصراع بين الخوف والشجاعة. بين الماضي والمستقبل. بين السلطة وحرية الرأي. أما الباقي.. فهو تاريخ.؟