ماذا لو أطلقت حرية الاعتقاد في مصر؟! سؤال في منتهي الأهمية لعدة أسباب، الأول لأنه من نوعية الأسئلة الاستكشافية عن واقع المجتمع الذي نعيشه، فالسؤال يجعلنا ننتبه لما يحدث في المجتمع ونرصده ونحلله جيدا لإدراك أبعاد الواقع المجتمعي الذي نعيشه أما السبب الثاني لأنه سؤال استكشافي أيضا عن المستقبل: ماذا لو؟! إنه من أسئلة التوقعات التي تثير الذهن، وتجعله يتوقع ما الذي سوف يحدث ويضع كل توقع في إطاره وتوابعه سلبا وإيجابا، أما السبب الأخير فهو أن هذا السؤال يثير سؤالا آخر يقول: هل حرية المعتقد منحة تعطي من أعلي لأسفل أم أن الأسفل ينتزعها انتزاعا من الأعلي الذي يرفض الاعتراف بها كأي نوع آخر من الحريات مثل الحرية السياسية وما شابه؟ ومن أجل كل ذلك علينا أن نجيب عن هذاالسؤال من عدة محاور: المحور الأول: هل هذا هو الوقت المناسب لإثارة هذا السؤال ومحاولة الإجابة عنه؟ ونحن نري أن مصر قد تأخرت جدا - زمنيا - في إثارة هذا السؤال والإجابة عنه، فالعالم من حولنا تسوده نزعة مطلقة نحو حرية المعتقد، حيث سقطت ما يسمي "الدوجما" أي العقيدة التي تدعي أنها تمتلك الحقيقة المطلقة سواء كانت سياسية أو دينية فقد سقطت الشيوعية بكل ما تحمله من عقائد كان يعتقد أنها هي التي سوف تسود العالم، لكنها انهارت ولم تعش أكثر من سبعين عاما، ومن قبلها انفجرت القرون المظلمة التي عايشتها أوروبا تحت سيطرة الكنيسة، وظهر نور الإصلاح الذي بدد ظلمة سيطرة العقيدة وانحرافها بسلطات الباباوات الذين باعوا الجنة بصكوك الغفران، وكان الإصلاح سياسيا ودينيا وسقطت الخلافة العثمانية في تركيا، وانهارت الأندلس. وفي صحوة الموت للدوجما في السودان وإيران، أصبحتا نموذجا لما يفعله تقييد حرية المعتقد بقوة الحكم والسلطان، وأصبحت الدولة التي تقيد حرية المعتقد دولة سيئة السمعة مرفوضة من المجتمع الدولي الحر، ومصر اليوم تحتاج إلي أن تخرج للعالم الحر رافعة الرأس، فهي منذ محمد علي وإلي اليوم لم تحكم بالدين ولكن الدين بمعناه السلبي من تضييق علي الحريات الفردية، والعامة، مازال منتشرا وواضحا سواء من الناحية الإسلامية أو المسيحية، لذلك فعصرنا هذا مع كل تموجات الحرية في العالم هو أنسب عصر لإعلان حرية المعتقد داخل مصر، والبديل هو الحياة علي هامش الزمن أو الخروج منه. المحور الثاني: هل مصر هي المكان المناسب لإعلان حرية المعتقد؟ ونحن نقول نعم لعدة أسباب، من أهمها أن مصر لها تاريخ طويل في الحرية السياسية والدينية منذ أسس محمد علي مصر الحديثة، وألغي الحكم بالشريعة و قد تم تطبيق قانون ودستور مدني منذ عهد إسماعيل، وأصبحت المواطنة هي الأساس في العلاقة بين أفراد الشعب والقانون والدولة وساهم اليهود والمسيحيون والمسلمون والملحدون كمصريين معا في بناء مصر، وكانت مصر رائدة في هذا الأمر حتي سمعنا ورأينا منذ السبعينيات في القرن الماضي وحتي اليوم عن الإسلام الثروي القادم من الخليج والإسلام الثوري لجماعات العنف والإسلام الرسمي في الأزهر والمسيحية الرسمية في الكنيسة وصبغ المجتمع بمظاهر دينية مختلفة غريبة تماما عن المجتمع المصري، وأصبحت الكنيسة تقوم بدور سياسي هي غير مؤهلة له وليس في عقيدتها الأصيلة.. إلخ. فإذا تم إعلان حرية المعتقد فسوف نتخلص من هذه المظاهر سيئة السمعة مثل مظهر رجال الدين الذين يفتون ليل نهار بفتاوي ما أنزل الله بها من سلطان وفي قضايا سطحية تعود بنا إلي العصر الحجري لأتباع الديانتين الرئيسيتين، وهو ما نتابعه في الفضائيات بقوة وانتشار شديدين، سوف نتخلص من سيطرة المؤسستين الدينيتين واللتين تأتمران بأمر الدولة ذهابا وعودة بمعني تقديم امتيازات لها مقابل تأييد قرارات من الكتب المقدسة، ونتيجة إطلاق حرية المعتقد سوف يظهر التأثير الحقيقي للدعاة علي أرض الواقع، أي تأثيرهم علي الشباب دون تخويفهم من النار أو وعد بنعيم، ذلك لأن دعوتهم سوف تصطدم بحوار مطول وعليهم أن يقنعوا الآخرين بالعقل والمنطق وليس بالتخويف والسلطان وفوق كل ذلك سوف نتخلص من القضايا سيئة السمعة في انتقال شخص من دين لآخر لأجل طلاق زوجته والعودة ثانية ومصير الأولاد، أو تغيير الدين لأجل الزواج أو المصلحة، وقضايا الحسبة ضد الإبداع والفن.. إلخ. لا شك أن حرية المعتقد سوف تنهي كل هذا بطريقة تلقائية. المحور الثالث: هل إطلاق حرية المعتقد في صالح انتشار الأديان أم ضده؟ يحكي لنا التاريخ أن المسيحية في القرون الثلاثة الأولي كانت تنتشر ببطء وثقة، وكان لا يعتنقها بسبب الاضطهاد الشديد إلا الذي يقتنع بها تماما لكن بمجرد أن أعلن الإمبراطور قسطنطين أن المسيحية هي دين الإمبراطورية الرسمي انطلق الناس في الدخول للمسيحية بدون فهم حقيقي لتفاصيل العقيدة أو اقتناع حقيقي بعباداتها، وكان دخول عشرات بل مئات الألوف إلي المسيحية لكي يكونوا مواطنين درجة أولي في الإمبراطورية، فقد اختلط الدين بالسياسة ولأن عصر الإمبراطورية الرومانية يشابه عصرنا هذا في العولمة، حيث كان الحاصل علي الجنسية الرومانية ويدين بالمسيحية ويتحدث اليونانية مواطنا عالميا من الدرجة الأولي كما يحدث الآن للحاصل علي الجنسية الأمريكية ويتحدث الإنجليزية بلكنة أمريكية ويدين بالمسيحية التي تؤيد إسرائيل يصبح مواطنا عالميا، وبفرض المسيحية علي الناس ضاعت المسيحية الفعلية إلا قليلا مع أولئك المتمسكين بجذورها وهو ما حدث في الأندلس وكذلك عندما دخل الأتراك صربيا وقاموا بارتكاب ذبائح وكذلك ذبائح الأرمن.. إلخ وكانت ردود الفعل بعد مئات السنين أكثر وحشية، إن تقييد حرية المعتقد ليس في صالح الأديان إطلاقا، أما إطلاقها فسوف يجعل انتشار الدين حقيقيا وليس مزيفا. المحور الرابع: هل إطلاق حرية المعتقد يصب في صالح المجتمع أم العكس هو الصحيح؟ ونقول أنه بإطلاق حرية المعتقد سوف يتحول المجتمع من مجتمع آبائي يربي أولاده تربية القطيع إلي مجتمع ناضج كل فرد فيه يتخذ قراراته بحرية ويتحمل المسئولية، سواء كان القرار خاطئا أم صحيحا، سوف نتحول إلي مجتمع تقدم لنا فيه الدولة برنامجها وتراثها ورؤيتها وتقنعنا به دون تأثير ديني من المؤسسات الدينية، ونحن عشنا عصر الزعيم الملهم والذي أيدته المؤسسات الدينية فيه، وعشنا عصر الزعيم المتدين الذي أيضا كانت له صولات وجولات مع المؤسستين ذهابا وعودة امتيازات وقرارات، ولكن بإطلاق حرية المعتقد، سوف يكون علي الدولة أن تقنع شعبها بدون هذا التأثير الروحي الغامض الذي يدعو للخضوع والولاء بلا مناقشة وبلا شك سوف يفقد الإخوان المسلمون تأثيرهم علي الناس لأنهم يقدمون أنفسهم كبديل للدولة والمؤسسة الدينية ولايقيمون حوارا حيا ويكفرون غيرهم، وسوف تتحول المؤسستان الدينيتان إلي الإقناع بالحوار والمنطق والعقل والذي يستطيع الصمود في هذا الجو سوف يبقي والذي لا يستطيع ينزوي. أنا أعلم أن هناك كثيرين سوف يقولون أن إطلاق حرية المعتقد سيحول المجتمع المصري إلي فوضي ضاربة، وسيكون مستهدفا من أديان كثيرة غير سماوية، ومن طوائف متعددة مسلمة ومسيحية غير مقبولة، ويقولون سيأتي إلينا البوذيون والبهائيون.. إلخ، وسينتشر الشيعة وفي المسيحية شهود يهوه، والمرمون.. إلخ .هذا فضلا عن بعثات التبشير البروتستانتي للمسيحيين الأرثوذكس والمسلمين. ونحن نقول إن كل هذه الأديان والطوائف موجودة في مصر وهي تدعي غير الحقيقة عن حجمها فكل أتباع دين أو طائفة من هؤلاء يدعون أن عددهم ضخم ويرسلون تقارير إلي المراكز التي أرسلتهم بأنهم يربحون كل يوم أتباعا من المسلمين والمسيحيين وهذه التقارير تقول أنهم في السنتين الأخيرتين ربحوا ملايين البشر وذلك لأن مراكزهم تحاسبهم علي الرأس الواحدة بعدة دولارات، قد رأيت مثل هذه التقارير وسمعت من رؤسائهم في الخارج وقلت لرؤسائهم: لو أن هذه التقارير صحيحة ففي غضون الخمس سنوات القادمة لن يكون هناك مسلم ولا مسيحي واحد في مصر!! لكن إذا وقع العكس وأطلقت حرية المعتقد فسيظهرون للنور، وحينئذ سوف نعرف حجمهم تماما ومدي نشاطهم ونري الملايين الذين ادعوا أنهم ربحوهم، وهذه خدمة كبري للمجتمع وللمراكز التي ترسلهم. وأقول أيضا للذين يخافون الفوضي، ما هو تعريفهم لما يعيشه المجتمع المصري المتدين اليوم هل هو نظامي؟ هل له علاقة بحقوق الإنسان؟ هل له علاقة بالإنسان كإنسان؟ أم ماذا؟ ربحوهم،