حالة من الفزع انتابت الكثيرين عند الإعلان عن رقم الاحتياطي النقدي الأجنبي البالغ 20 مليار دولار.. مصدر الفزع أنه تم ربط الرقم السابق بإمكانيته في توفير السلع الغذائية لمصر لمدة خمسة أشهر.. وهو ما دفع بدوره سقف التساؤلات التي دارت حول: ماذا لو انقضت الأشهر الخمسة دون تقدم ملموس؟.. وهل تواجه مصر شبح الإفلاس مثلما واجهته دول مثل ايسلندا واليونان؟! الإفلاس بالنسبة للدول يعني عجز الدولة عن تغطية إصداراتها من العملات بالذهب، أو العملات الصعبة أو المعادن الثمينة الأخري أو حتي القدرة علي الوفاء بديونها أو تسديد الأموال لدفع أثمان ما تستورده من بضائع وسلع. فهل هذا هو حال مصر «تتساءل د. سلوي العنتري الخبيرة المصرفية» وتجيب: بالتأكيد لا. وتضيف العنتري: «مازالت مصر تسدد خدمة ديونها الخارجية بانتظام وهي الفوائد المترتبة علي الدين الخارجي بالإضافة لتسديدها أقساط الديون ولذلك لا داعي لإطلاق فزاعة اسمها شبح إفلاس مصر وليس معني ذلك أننا لا نمر بظروف اقتصادية صعبة ولكن لم نصل إلي هذه المرحلة، فالاحتياطي النقدي الأجنبي يتم اللجوء إليه في حالة عدم كفاية الموارد المالية المتاحة لاستيراد السلع الأساسية ولكنه ليس المورد الوحيد فمازالت هناك قناة السويس بإيراداتها من العملة الأجنبية وتحويلات المصريين العاملين في الخارج وإيرادات تصدير البترول. وترجع العنتري أسباب الخلل في السياسة النقدية الأجنبية إلي اعتماد الحكومات السابقة علي استثمارات الأجانب في البورصة كأحد مصادر النقد الأجنبي وبالتالي عندما ينسحب الأجانب من السوق ويخرج مبلغ 7 مليارات دولار خلال الستة أشهر الماضية ولا تلجأ الحكومة السابقة إلي فرض رسوم علي هذا التصرف كما نادي البعض وهو ما يطلق عليه مصطلح «hot mony» الأموال الساخنة فسوف تحدث أزمة لا محالة حيث كانت الأموال الساخنة سبباً كبيراً في أزمات طحنت دول شرق آسيا. عاصم رجب رئيس مجلس إدارة هيئة الاستثمار السابق استبعد إمكانية إفلاس مصر قائلاً: لدينا اقتصاد متنوع ومتعدد وليس اقتصاداً هشاً قائماً علي قطاع وأحد بالإضافة لوجود سوق ذي قوة شرائية هائلة مما يعتبر نقطة جذب كبيرة للمستثمرين الأجانب.. ولكن لابد في المقام الأول من جذب المستثمر المصري.. ومنح رسائل طمأنة للعالم الخارجي حول سياستنا الإقتصادية خلال المرحلة المقبلة، مما يستلزم حل مشاكل المشروعات الخاصة بالمستثمرين والمعطلة لأحد الأسباب البيروقراطية وكذلك الانتهاء من المشروعات القومية شبه المكتملة والتي ستستوعب الآلاف من العاملين ويشير رجب إلي حاجتنا لحلول غير تقليدية من الحكومة الجديدة للمشاكل الاقتصادية منوهاً إلي ضرورة إعادة التفكير في الاقتراض الخارجي لتخفيف الضغط علي السوق الداخلية فعندما تقترض الحكومة من السوق المحلية وتطرح سندات وأذون خزانة فإنها بذلك تضيع فرصاً أمام القطاع الخاص للاقتراض من البنوك المحلية لزيادة استثماراته ودفع عجلة الإنتاج والتصدير بالإضافة إلي انخفاض تكلفة الاقتراض الخارجي والتي تتراوح نسبة الفائدة له بين 2 إلي 3% في حين تقترض الحكومة من السوق المحلية بفائدة لا تقل عن 13%. وتتفق وجهة نظر هاني سري الدين رئيس مجلس إدارة هيئة سوق المال السابق مع سابقه بقوله «لا نستطيع أن ننكر بأن الوضع الاقتصادي ليس بالوضع الأمثل وأنه يعاني من تباطؤ ولكن مازال الاقتصاد والسياسة النقدية يتمتعان بالقوة وبعيدان عن الخطر فلم ينخفض الاحتياطي النقدي الأجنبي بنسبة 50% وهو المعدل الآمن، وقد نجحت السياسات النقدية في المحافظة علي الجنيه المصري حتي في ظل انخفاض معدلات النمو (5,1%) ومازالت هناك اختيارات أمام مصر في لجوئها للاقتراض الخارجي للمرور من هذه الأزمة. ويضيف سري الدين: المشكلة ليست اقتصادية في المقام الأول بقدر ما هي مشكلة أمنية وسياسية ويضرب مثلاً بالاستجابة التي شهدتها سوق المال متمثلاً في ارتفاع مؤشراته بعد إعلان المجلس العسكري عن خطوات نقل السلطة والإصرار علي البدء في الانتخابات البرلمانية، وقد مرت المرحلة الأولي من الانتخابات بنجاح كبير مما يمنح مؤشراً مهماً برغبة الشعب المصري في الاستقرار. ويختلف سري الدين مع كثيرين في عدم الانزعاج من الاعتصامات الفئوية.. ولكنه يشدد علي ضرورة القضاء علي أعمال البلطجة وعودة الحياة العملية إلي جميع الوزارات والتوقف عن الإحالة العشوائية للنيابة العامة. ويلجأ د. سلطان أبو علي وزير الاقتصاد الأسبق إلي المقارنات لإيضاح الوضع الاقتصادي الحالي بقوله «عند مقارنتنا المرحلة الحالية بفترة منتصف الثمانينيات نجد بأن الاحتياطي النقدي حينئذ كان يقل عن احتياجات الاستيراد الشهري في حين أن الاحتياطي الحالي يبلغ 20 مليار دولار ويكفي للاستيراد لمدة خمسة أشهر مضيفاً بأن معني إفلاس دولة هو عدم مقدرتها علي الوفاء بالدين الخارجي لها وفي حالة مصر فإن الدين الخارجي يبلغ 35 مليار دولار أي ما يعادل 17% من الناتج المحلي الإجمالي وهي نسبة منخفضة للحدود القصوي للدين الآمن وبعملية حسابية بسيطة نستطيع معرفة نسبة خدمة الدين الخارجي وذلك باحتساب أقساط الديون الخارجية المستحقة خلال السنة مضافاً لها الفوائد المستحقة علي الدين الخارجي خلال السنة مقسوماً علي حصيلة الصادرات من السلع سنجد أن نسبة خدمة الدين الخارجي في مصر 5,6% وهي أقل كثيراً من النسبة الآمنة وهي 20% مستبعداً احتمالات توقف مصر عن دفع الدين الخارجي. ويستكمل «أبو علي» المقارنة مع فترة منتصف الثمانينيات: بأن نسبة التضخم حينئذ كانت 22% فيما تبلغ نسبة التضخم الآن 8% وبالتالي فالمؤشرات لا توحي بأننا علي وشك الإفلاس فلسنا دولة فقيرة ذات مديونية ثقيلة. ويستطرد أبو علي بأن ذلك لا يعني عدم القلق بالنسبة للأداء الاقتصادي الحالي والذي لم يكن جيداً خلال الحكومات المتعاقبة منذ ثورة 25 يناير ولم تتخذ الإجراءات الضرورية وزادت من توقعات الناس في الاستهلاك مما أدي إلي تفاقم عجز الموازنة للدولة وزيادة الدين المحلي ليصل إلي تريليون و44 مليارا و770 مليون جنيه في (3062011) مما يعد معوقا للحكومة علي أداء دورها في الخدمات العامة مثل التعليم والصحة ولذلك لابد من وضع الدين الداخلي تحت الرقابة. ويضيف «أبو علي» لابد من اتخاذ إجراءات لتحسين التوازن الداخلي ليتم السيطرة علي العجز بالموازنة بواسطة إعادة النظر في النفقات العامة للدولة والتقليل من النفقات غير الضرورية ومنح الدعم لمن يستحقه فقط، ويجب إعادة النظر في رفع الدعم عن البنزين 95 وكذلك رفعه عن المصانع كثيفة الاستخدام للطاقة والمصانع المنتجة لسلع الرفاعية مثل السيراميك.. ويضرب وزير الاقتصاد الأسبق أمثلة علي زيادة الإيرادات تباطأت الحكومات في اتخاذها مثل إصدار قانون الضريبة التصاعدية للدخل الأعلي والتي لن توثر علي الإنتاج أو الاستثمار أو الحافز علي العمل بالإضافة لعدم صدور قانون بفرض الحد الأقصي للأجور في الحكومة والقطاع العام بحيث لا يتجاوز 15 ألف جنيه للموظف الحكومي شهرياً ولا يتجاوز 30 ألف جنيه للموظف بالقطاع العام، أما البنوك فيتم وضع حد أقصي يبلغ 50 ألف جنيه للموظف في الشهر وهي حدود جيدة في ظل دول نامية مثل مصر وعندما تتحسن الظروف الاقتصادية تتم زيادة تلك الأجور.. ويؤكد «أبو علي» علي ضرورة أن تبدأ الحكومة في منح مؤشرات للعدالة ومحاربة الفساد ومكافأة المجتهد حتي تستطيع السيطرة علي الوضع الاقتصادي والأمني الحالي. ويؤكد د. فخري الفقي الأستاذ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية وأحد مديري صندوق النقد الدولي سابقاً بأن الصندوق في انتظار شهادة الصلاحية لمصر ليبدأ في برنامج تسهيل التمويل التنفيذي معلناً أنه علي استعداد ليعمل مع مصر دون شروط مسبقة وهي المرة الأولي التي يتعامل فيها مع دولة بهذا الشكل وسيتم إقراض مصر 2,3 مليار دولار بفائدة 5,1% بالإضافة لاستعداد البنك الدولي لإقراض مصر 5,1 مليار دولار، وقد أبدت السعودية والإمارات استعدادهما لمنح قروض حتي يصل المبلغ إلي 10 مليارات دولار وهو مبلغ الإنقاذ المطلوب للاقتصاد المصري خلال المرحلة الحالية. ويضيف الفقي «وتتمثل شهادة الصلاحية في إعلان حكومة الجنزوري عن برنامج تفصيلي لخطة عملها خلال المرحلة المقبلة حتي يهدأ الشعب المصري ويساعد الحكومة علي إنجاز برنامجها ولكن ما أثار قلقي «يواصل الفقي» هو حديث الجنزوري عن مشاريعه العملاقة التي بدأ العمل فيها أثناء توليه رئاسة الحكومة في التسعينيات مثل مشروع توشكي وشرق العوينات ولم يترك له مبارك فرصة إكمالها، وهو بذلك يثير الكثير من التساؤلات هل مصر في موقف يؤهلها لضخ مليارات الجنيهات في مشروعات تمنح عائدها علي المدي الطويل ونحن في أمس الحاجة إلي خطة إنقاذ سريعة للاقتصاد «مضيفاً» بأننا لم نعرف كيف سيتم تحقيق الاستتقرار الأمني وكيف سيكون تعامل وزير القوي العاملة الجديد مع ملف البطالة خاصة أن الجنزوري صرح بأنه سيتم تثبيت نصف مليون من العمالة المؤقتة في الدولة. ويضيف الفقي «هناك رهان كبير علي قدرة الجنزوري الإدارية في خلق نوع من التناغم في أداء الوزراء لديه خاصة أن المجلس العسكري منحه سلطات رئيس الجمهورية فيما عدا النواحي العسكرية والقضائية أي أنه لم يعد له عذر في اجتياز المرحلة الحساسة التي تمر بها مصر، فيما ينبغي القاء الضوء بشدة خلال تلك المرحلة علي المجموعة الوزارية الاقتصادية وتقييمهم هل يستطيعون أداء أدوارهم بفعالية وكفاءة أم لا خاصة من كان له خبرة سابقة بالعمل الوزاري فنجد أن وزير المالية ممتاز السعيد لا يتمتع بالفطنة السياسية ومن التكنوقراط حيث كان موظفا بالوزارة حتي خروجه علي المعاش واستدعاء سمير رضوان له للعمل مرة أخري بالوزارة أما محمود عيسي وزير الصناعة فلم تظهر له أي بادرة إبداعية في تحريك عجلة الصناعة والتجارة خلال توليه المنصب الفترة الماضية وإذا كانت فايزة أبوالنجا لديها الدراية والخبرة في التعاون الدولي إلا أنها ليس لها علاقة بالتخطيط ولذلك فلابد أن يعاونها الجنزوري في هذا الملف أما جودة عبدالخالق وزير التموين والتجارة الداخلية فكان دائم الاعتراض علي سياسات رئيس الوزراء السابق مما يعني انعدام التفاهم بينه وبين عصام شرف ووصف نفسه في أكثر من حديث بأنه نصير الناس الغلابة داخل المجلس ولذلك فسوف يواجه شخصية الجنزوري القوية.. فهل سيقع صدام بينهما أم سيحتوي الجنزوري الموقف ويقوم بدور المايسترو بين وزرائه فيبدأ في الاهتمام بالملف الاقتصادي بعد اختياره لوزير داخلية أصغر سنا مما سبقه وقد يكون قادراً علي التفاهم مع الشباب بصورة أكبر من سابقه. ويؤكد الفقي بأن أداء حكومة الجنزوري ستمنح إشارات للمراقبين الدوليين والمستثمرين الأجانب حول أداء الاقتصاد خلال المرحلة المقبلة فإذا استطاعت الحكومة السيطرة علي الملف الأمني فسوف تعود السياحة مرة أخري.. ويعتبر اسم الجنزوري ليس غريباً علي المستثمرين العرب والأجانب وهذا ما منحهم فرصة لإعادة التفكير والانتظار لاتخاذ قرارهم بالاستثمار في مصر أم البحث عن بلد أخري.