قامت الدنيا ولم تقعد سواء في مصر أو في ليبيا أو في العالم العربي كله بدون استثناء!! كان السبب ببساطة هو عدد مجلة روزاليوسف الذي صدر يوم 6 سبتمبر سنة 1977، ويتصدر غلافه رسم للعقيد «القذافي» وصورتان أصغر للسادات والسيدة جيهان!! وكان عنوان القنبلة التي انفردت بها روزاليوسف تقول: القذافي يتحدث إلي «روزاليوسف» ثم سبعة عناوين كان أخطر ما فيها قول القذافي: السادات والدي ومن حقه أن يعاقبني، جيهان رائدة لزوجتي وأخت كبري لي، وسلاحنا تحت تصرف مصر وبغيرها لا بقاء للعرب.. و.. و. نعم قامت القيامة بسبب الحوار المثير الذي أجراه الأستاذ الكبير والكاتب اليساري «عبدالستار الطويلة» فقد نشر الحوار والعلاقات بين مصر وليبيا في أسوأ حالاتها، والمعارك الكلامية بين صحافة البلدين تجاوزت الحدود، تجريح، شتائم. كان حديث «القذافي» إلي روزاليوسف هو حديث مصر والعرب بغير استثناء، كان «عبدالستار الطويلة» يسأل بحدة وعنف وغضب والقذافي يدافع عن كل الاتهامات! يقول «عبدالستار الطويلة»: هل تتصور أن السادات يعمل لحساب أمريكا بحيث تتحول الصحافة في عهده إلي لسان للأمريكان؟! ويجيب العقيد: أنا مبسوط لأنك يساري وتؤمن بوطنية السادات لأنني أيضاً أشاركك الإيمان بوطنية السادات! يقول «عبدالستار»: إذا كنت كما تقول مؤمناً بوطنية السادات وسبق أن وصفته بأنه «والد»، لك و...!! القذافي مقاطعاً: ومازلت برغم خلافاتنا اعتبره والداً لي، ولن أنسي كيف عوملت في بيته كابن له، ومازلت متأثراً - كأي ابن - من حضوره عيد ميلادي ومن معاملة بناته لي باحترام وأخوة ومن إكرام الجميع لزوجتي. ثم سكت « القذافي » لحظة قبل أن يضيف: ذات مرة قالت لي زوجتي «السادات حقه يضربك بالكرباج» أتدري بم أجبتها؟! قلت لها: هذا أبي من حقه أن يفعل بي ما يشاء!! وما من أسبوع يمر دون أن تتعارك معي «مرتي» (مراتي) وتقول لي: يامعمر أنت حر في خلافك مع الرئيس السادات لكن أنا ذنبي إيه؟! أريد أروح للسيدة «جيهان» التي فتحت عيني علي الحياة، وعلمتني الدنيا ماشية إزاي، أما أنت والسادات، فتعاركا علي كيفكم، ذلك أن هذه السيدة الكريمة رائدة لزوجتي كما هي أخت كبري لي». وعلي مدي ثماني صفحات ونصف الصفحة نشرت روزاليوسف الحوار ثم في نهايته كتب مايسترو الصحافة المصرية «صلاح حافظ» رئيس التحرير - وكان الأستاذ الأديب الكبير فتحي غانم يشاركه رئاسة التحرير - كتب تعليقاً في بابه الشهير «قف» مقالا عنوانه: من الأرشيف السري لمعلومات روزاليوسف: العقيد أمام الكاميرا.. ووراءها! فند فيه كل ما قاله العقيد ل«روزاليوسف»!!. الحقيقة أن روزاليوسف لم تكن غريبة علي العقيد القذافي «فقد سبق أن زارها قبل ثلاث سنوات من حوار عبدالستار الطويلة معه والذي يقول: دق جرس التليفون بعد ظهر يوم من أيام ذلك الشهر - يوليو 1973 - في مكتب عبدالرحمن الشرقاوي رئيس مجلس إدارة مؤسسة روزاليوسف وقال قائل من قصر القبة إن العقيد القذافي يود الحضور إلي مؤسسة روزاليوسف لإجراء حوار مع محرريها في الساعة السابعة من مساء نفس اليوم، ووافق الشرقاوي علي الفور. وكانت ندوة مثيرة ومدهشة ولعل أغرب ما يقوله «عبدالستار الطويلة» أن بعض كبار الناصريين أبدوا دهشتهم من كلامه عن القذافي فسألهم: ولكن ما هو المتوقع من القذافي هل له دور أكبر من دوره الحالي؟! قالوا: هو ممكن يكون جمال عبدالناصر المنطقة!! قال: لست أري أن من صالح تطور الحركة الوطنية والاجتماعية أن يوجد «عبدالناصر» آخر في المنطقة!! ولعل من أغرب ما حدث في تلك الأيام أن الناشر الكبير «الحاج مدبولي» اقترح علي «عبدالستار الطويلة» أن يعد كتاباً عن قصة الحوار وكواليسه وفي خلال 48 ساعة كان الكتاب جاهزاً للطبع تحت عنوان «العقيد القذافي ومصر» - القصة الحقيقية لوساطة روزاليوسف بين القذافي والسادات» لكن المفاجأة أنه يحمل مقدمة مثيرة بقلم «صلاح حافظ» في 11 صفحة روي فيها ملابسات ما جري لكن الأهم أنه يقدم درساً صحفياً جديداً حيث يقول: إن المبدأ الذي تمخضت عنه التجربة كلها كان مبدأ صحفياً قررت «روزاليوسف» الالتزام به وهو حق القارئ في أن يعلم.. و.. و.. تستطيع الحكومات أن تصدق أو تكذب ويستطيع المواطن أن يحاسبها أو يصفح عنها، أما الصحيفة فلا يغفر لها القارئ أبداً أن تكذب عليه حتي في عهود الرقابة لا يلتمس القارئ العذر لها، إنه مستعد أن يصفح عن حقائق لم تنشرها لأن الرقيب شطبها ولكنه ليس مستعداً أن يصفح عن أكذوبة سمحت بنشرها!! وفي قصة الوساطة بين ليبيا ومصر كان موقف روزاليوسف السياسي منسجماً تماماً مع هذا المبدأ الصحفي، فهي بما نشرته قد تجاوزت عملياً لعبة النزاع والشتائم الإعلامية ودعت الرأي العام إلي أن يقرأ ويعلم، ودعت القادة إلي أن يتفاهموا! ولكن المهم في القضية ليس الرأي السياسي الذي خدمته «روزاليوسف» وإنما المهم أنها خدمت هذا الرأي بعمل كان حافزه التزامها بمبدأ صحفي: مبدأ حق القارئ في أن يعلم والدرس الأساسي في هذه القصة إذن، من وجهة نظرنا كأصحاب للتجربة، هو أن دور الصحافة كأداة تنوير وإذاعة للحقائق هو الأصل الذي يضمن نجاحها في خدمة أية رسالة سياسية صائبة». ولم يكن ذلك فقط هو كل ما كتبه المايسترو «صلاح حافظ» بل بعضه فقط! وحسب ما رواه «عبدالستار الطويلة» في كتابه فقد كان الحوار حديث كل ليبي، وهو ما سمعه من القذافي نفسه في لقاء آخر، حيث قال «القذافي» له: كان نشر الموضوع في روزاليوسف بادرة طيبة ورد فعل سررت به، وسُر به كل واحد في ليبيا لأنه مفهوم أن الرئيس موافق علي نشره، لكن لم يعجبني كلام «صلاح حافظ» هل صلاح حافظ هذا يساري؟! قلت في دهشة: طبعا.. ده أبواليسار.. بل هو ماركسي وهو المسئول عن أي شيء يعجبك في روزاليوسف، فهو وفتحي غانم «رئيسا التحرير»! قال القذافي: أمال ليه قال الكلام اللي كتبه ده؟! وكمان عبدالرحمن الشرقاوي الرجل الذي أحترمه وأحبه وأيدته في كلامه ضد شيخ الأزهر في معركة الإسلام المشهورة، لماذا يهاجمني؟! قلت: سيادة العقيد أرجو أن يكون واضحا لك أننا نختلف معك في الكثير جدا من الأمور السياسية الكبيرة والتفصيلية، وأن من حقنا أن ننقدك!! إن أسلوب صلاح حافظ في مقالته التي تشير إليها كان يتضمن تلك الروح تماما يكشف التناقض في تصريحاتك وبين الواقع وبالعكس يهيب بك أن تبذل خطوات لإصلاح الموقف، وعبدالرحمن الشرقاوي، انتقدك بقسوة من هذا المنطلق عندما كانت القنابل تنفجر في مصر وحافظ الأسد يقتل الفلسطينيين. وفي هذا اللقاء المثير كان واضحا أن القذافي يطلب وساطة روزاليوسف لتنقية الأجواء بينه وبين السادات، وهو ما جعل روزاليوسف تضع لهذا الحوار الثاني عنوانا يقول «القذافي يوسط روزاليوسف للصلح مع السادات» ونشر في أول نوفمبر 1976 ونشر في سبع صفحات من المجلة! وفجأة تراجع «القذافي» عن كل شيء، وأنكر ما جاء علي لسانه ونفي أنه طلب أية وساطة من روزاليوسف، وأصدرت وزارة الإعلام الليبية بيانا بهذا المعني وحسب ما يقول «عبدالستار الطويلة» فقد استشاط «صلاح حافظ» غضبا وقال إن هذه إهانة لروزاليوسف ولابد أن نرد ردا قاسيا، وهو ما حدث بالفعل بعد ذلك. ولعل أبلغ وأهم ما جاء في رد روزاليوسف الذي صاغه برشاقة وبراعة صلاح حافظ هو تلك السطور: «أما المصادر المصرية فوصفت برقية وكالة الأنباء الليبية بأنها مبرر جديد للشك - لا في أمانة روزاليوسف- ولكن في إمكان التزام العقيد القذافي بأي كلام يعلنه، وعدم جدوي أي اتفاق يعقد معه». طوال ذلك الوقت كان الرئيس السادات هو الغائب الحاضر في تلك القصة، لكن الحقيقة أن الأمر لم يكن ذلك، وهو ما رواه لي الأستاذ «صلاح حافظ» بنفسه شتاء 1984 في ذكرياته التي نشرتها علي صفحات مجلة «صباح الخير» - بيتي الذي أعتز به - ثم صدرت في كتاب عنوانه «الصحافة. السلطان. الغضب» عام 1991. المايسترو صلاح حافظ أطلق عليه هذا اللقب الأستاذ الكبير لويس جريس رئيس التحرير وقتها. يروي كواليس الحوار المثير فقال لي: «ذات يوم عاد الزميل «عبدالستار الطويلة» من رحلة خارج مصر وقبل عودته كان قد أجري حوارا صحفيا مثيرا مع العقيد القذافي، وفي ذلك الوقت كانت العلاقات مع ليبيا في أسوأ درجات التوتر، وأخذنا نقرأ الحديث وكان بالفعل سبقا مهما وخطيرا، وفيه يقول القذافي معلومات مثيرة! المهم قررنا أن يكون غلاف المجلة هو هذا السبق الصحفي الخطير، وأعددنا الحديث للنشر ثم قال لنا الأستاذ «الشرقاوي» رئيس مجلس الإدارة: أعتقد أنه من الذوق أن نرسل نسخة من هذا الحديث إلي «السادات» ليطلع عليها، لأن ما في هذا الحديث يهمه شخصيا، وفعلا أرسلنا نسخة من الحوار إلي رئاسة الجمهورية. وكانت المفاجأة أن يتصل بي الرئيس السادات نفسه قائلا في التليفون: - أنا قريت الحديث بتاع الولد ده؟! وقلت للسادات: ما رأيك فيه يا ريس؟ قال السادات: الحديث ده مليان أكاذيب وافتراءات! قلت: أكاذيب إيه يا ريس اللي في حديث القذافي؟ ضحك الرئيس السادات وقال: «لا يا صلاح» دي مسألة يطول شرحها وما ينفعش الكلام في التليفون، أنت تجيب عبدالستار الطويلة وتعالوا إسكندرية نتناقش فيه»! كان ذلك في شهر رمضان، وسافرت أنا وعبدالستار للإسكندرية، توجهنا مباشرة إلي استراحة الرئيس في المعمورة بعد الإفطار وقابلنا «السادات» وكان يرتدي جلابية بيضاء صيفية ذات أكمام واسعة، عانق «عبدالستار» ثم عانقني وسألنا عن الصحة والأولاد وعاملين إيه في الصيام وكده!! ثم جلسنا، وجلس السادات وتربع علي الكنبة وطلب لنا شايا وبدأ يتحدث: - أنا قريت الحديث يا أولاد، وعارف إنه «لقمة» صحفية كويسة، ومش عاوز أحرمكم منها، وأنتم أحرار تماما تنشروه أو لا تنشروه، بس عاوزكم تعرفوا القذافي كذاب في إيه وإيه من الكلام اللي قاله في الحديث!! وأخذ السادات يتحدث لمدة أربع ساعات كاملة معنا، وبين وقت وآخر ينادي علي من في البيت قائلا: عاوزين شوية شاي إنتم بخلاء ولا إيه؟ وكان السادات نموذجا بحق للرجل الريفي البسيط المضياف! وأخذ السادات يفند كل ما قاله القذافي ثم قال لنا: - آدي الحقائق قلتها لكم علشان تكونوا في الصورة، إنما أنتم أحرار في النشر!! وأذكر أنني قلت للسادات يومها: ولماذا لا ترد عليه يا ريس بهذه المعلومات التي قلتها لنا؟! وضحك السادات وقال لي: طبعا ما هو أنتوا عاوزين ترفعوا التوزيع وتعملوا سبق صحفي!! بالطبع فهم السادات أن اقتراحي هو اقتراح صحفي يحقق خبطة صحفية عالمية، القذافي يقول والسادات يفند ما يقول، في نفس العدد من المجلة! وقال السادات لي: لا يا صلاح أنا مش ها أرد عليه، دي معلومات لكم أنتم، واتصرفوا كما تشاءون!! انتهي اللقاء مع السادات وعدنا للقاهرة وقررنا نشر الحديث كاملا وكتبت تعليقاً في صفحتين من خلال بابي «قف» عنوانه «من الأرشيف السري لمعلومات روزاليوسف: العقيد أمام الكاميرا.. ووراءها!» واستفدت من المعلومات التي رواها «السادات» في كتابته، ولم أنسب معلومة واحدة مما سمعنا من السادات، ونسبنا المعلومات إلي أرشيف معلومات روزاليوسف، أذكر أنني قلت في هذا المقال: إن المشكلة مع العقيد القذافي كانت سرعة التحول في مواقفه والتناقض المثير ما بين دوره أمام الكاميرا ودوره وراءها». وأخيرا يقول صلاح حافظ: وكان الهدف من نشر مقالي مع حديث عبدالستار مع «القذافي» أن الحديث يجب أن يكون متوازنا بين طرفي خصومة». ولا أعرف السبب الحقيقي لكتابة هذه القصة الصحفية؟! هل نهاية القذافي علي هذه الصورة الدرامية؟! هل هي ذكري ميلاد صلاح حافظ الذي يتوافق مع نفس اليوم والسنة التي ولدت فيها روزاليوسف 26 أكتوبر سنة .1925 ربما كل هذا!!