لا أحد فى مصر ولا غيرها ينكر على الرئيس الراحل جمال عبدالناصر إنجازاته الهائلة فى مختلف المجالات، كما لا يستطيع أحد التشكيك فى وطنيته المفرطة ولا نواياه الحسنة، لكن الطريق إلى جهنم دائماً مفروش بالنوايا الحسنة. بالفعل أحب شخصية جمال عبدالناصر الغيورة على مصر ومكانتها، وأحب فيه انتماءه ودفاعه الصادق عن البسطاء والمعدمين.. لا أزال أحتفظ بنص خطاباته، التى دونها والدى بخط يده من الراديو مباشرة فلم يكن التليفزيون ولا الكهرباء قد وصلا إلى قريتنا بعد،وأذكر الكثير من المشادات التى جرت بينى وبين شقيقى الأكبر مصطفى الناصرى بشدة بسبب ضبطى متلبساً بقراءة كتب مصطفى أمين وأنيس منصور مرات عديدة، كما لن أنسى تلك الخناقة حول كتاب «لعبة الأمم» الذى حاول تمزيقه، لأنه يتضمن انتقادات واتهامات شنيعة للرئيس الراحل.. رغم كل ذلك الإعجاب، لا أتمنى أن يتكرر نموذجه فى الحكم إطلاقاً. أدرك أن الكتابة عن عبدالناصر الآخر الذى ربما لايعرفه الكثيرون فى مصر كالمشى وسط حقول الألغام.. زملائى وأصدقائى وأقاربى وكل من حولى من المتعصبين له ربما يغضبون لأنى تجرأت وفتشت فى جراب زعيمهم المفدى. لقد اعتدنا فى مصر على تصنيف حكامنا منذ عهد الفراعنة إلى شياطين أو ملائكة.. ففى علاقتنا مع الحكام لا نعرف الموضوعية والحياد، ولا توجد لدينا منطقة وسطى بين الحق والباطل، ولا الخير والشر.. إذا كان الرئيس المخلوع حجز موقعه بجدارة فى مقدمة فريق الأشرار، فإن الرئيس عبدالناصر تربع بثقة على رأس القادة الأخيار.. لكننا ونحن على أعتاب مرحلة جديدة ،نؤسس فيها لعهد جديد بعيداً عن الزعامة الزائفة ونجنح نحو النهضة الشاملة، بعد أن تخلصنا من حكم الفرد والعسكر الذى ظل جاسماً على صدورنا لعقود طويلة بلا أى وازع أو رحمة، يجب أن نتسم بالصدق مع أنفسنا ونتخلى قليلاً عن العواطف ،حتى لا يفوتنا قطار التقدم، ونظل أسرى لخطايا الماضى الأليم. وبناء على هذا لا أريد رئيساً يختصر مصر كلها فى شخصه وحده، ولا يرى أن الإساءة له تقيم الدنيا ولاتقعدها وأنه هو ومن بعده الطوفان، أريده يحكمنا عبر منظومة من المستشارين والخبراء وكوكبة من العلماء المخلصين فى جميع المجالات، لتصب قراراته فى المصلحة العليا مباشرة أولاً وأخيراً، لا أريده يحكمنا من خلف منظومة أمنية بوليسية ومخابراتية، ذراعها الطويلة زوار الفجر وأدواتها الجاهزة التعذيب والمطاردة والاعتقال من أجل تأمينه وحماية مصالحه هو فقط.. أريده مؤمناً بحقوق الإنسان، وحق الاختلاف ،لا يعادى الديمقراطية ولا يكره حرية التعبير. أريد أن نطوى صفحة الزعيم الملهم الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فلا يسمع سوى صدى صوته وصوت مجموعة من المنافقين المقربين المفتونين بعبقريته وتفرده. أتيح لى أن أطلع على مذكرات شمس بدران، واستمعت إليه فى لندن على مدى أربعة عشر يوماً كاملة، ثم قرأت معظم مذكرات قادة الجيش فى عام 1967 التقيت بعشرات القادة من أبطال تلك المرحلة، ثم جلست ساعات طويلة أمام الفريق أول عبد المحسن مرتجى، أحد أبرز قادة القوات المصرية فى اليمن.. أصابتنى الدهشة وربما الدوار الوطنى عندما روى لى قصة تحطيم ثلث قوة مصر العسكرية وسط جبال اليمن الوعرة، وتملكنى الحزن عندما عرفت أن «نزوات» السادات الشخصية كانت الدافع الرئيسى فى التورط بحرب عبثية لا ناقة لنا فيها ولا جمل.. تلك الورطة كانت سبباً رئيسياً فى هزيمتنا الكبرى أمام العدو الذى كان يتابع بدقة ما يجرى فى مصر، فاقتنص الفرصة وانقض على مطاراتنا، وأصاب قواتنا بالشلل والصدمة، ناهيك عن تجربة الوحدة المريرة والمتسرعة مع سوريا، وما ترتب عليها من أزمات ظلت رواسبها عالقة بين القاهرة ودمشق عقوداً طويلة. لن أستفيض كثيراً فى اجترار أحزان الماضى وجراحه، فالحكمة تقول ليس عيباً أن يخطئ الإنسان، لكن العيب كل العيب أن يقع فى نفس الخطأ مرتين، وكذلك الحال بالنسبة للشعوب، ليس عيباً أن تتعرض الشعوب للخديعة تحت تأثير الشعارات البراقة والعناوين المثيرة، لكن العيب الحقيقى أن نسقط فى الفخ برغبتنا مرة أخرى.. لدىَّ قناعة عميقة بأن ثورة 25 يناير المجيدة، وضعت نهاية لنظام الدولة البوليسية التى أفرزت حكومة قوية متسلطة ومواطنا ضعيفا ذليلا، وهو النظام الذى أرست قواعده ثورة يوليو 1952 فتحولت مصر إلى سجن عالى الأسوار لغالبية المصريين بعيداً عن طبقة المنتفعين ومصاصى الدماء، فلا يجوز لأى مواطن السفر للخارج إلا بإذن، ولا الكلام إلا فى حدود، ولا التفكير سوى فى إطار ترسمه الحكومة، ولا و.. ولا.. لا.. سلسة لامتناهية من الممنوعات.. ربما كانت النوايا تتجه لبناء مجتمع اشتراكى قوى، لكن المحصلة النهائية، جاءت عبارة عن بناء هش نجح السادات فى هدمه بسرعة وبدون عناء. لا يقبل أى مصرى أن تتكرر الطرفة التى سمعتها من الفنان العالمى عمر الشريف عندما أراد السفر للولايات المتحدة للعمل فى هوليوود، تقدم بطلب لوزارة الداخلية للحصول على إذن بالسفر، فسأله الضابط عن سبب السفر فرد عليه للراحة والفسحة فرفض الضابط منحه الإذن المطلوب.. كاد عمر الشريف أن يفقد فرصته العالمية لولا عثوره على واسطة سهلت له عملية السفر، بعدها قرر عدم العودة إلى مصر مرة أخرى.. هكذا كان شكل الدولة وأسلوب إدارتها.. هذا الأسلوب أدى بالتراكم إلى استفحال أجهزة الدولة وتضاؤل دور الإنسان الذى كان يخشى أن يتحدث مع أقرب الناس إليه فى القضايا العامة تجنباً للفتك والتنكيل والملاحقة، فترسخت مشاعرالخوف والسلبية بداخل الناس وتعمق الجبن والانعزال وعدم المشاركة فى هموم وقضايا الوطن.. لهذا ولغيره من الأسباب لا أريد زعيماً ديكتاتوراً حتى لو كان عادلاً، فقد تركت لنا تجاربنا السابقة إرثا ثقيلاً من المشكلات فى السياسة،والصحافة،والاقتصاد، والتعليم وحتى فى علاقاتنا مع الآخرين سواء كانوا من الأشقاء العرب الذين ناصبناهم العداء بلا مبرر، مثلما حدث مع العائلة السعودية فضاعفوا من أحقادهم التى تجلت فى الانتقام من جيشنا باليمن، فى المقابل ساهمنا فى إبراز زعامات وهمية كما حدث مع القذافى.. وسار العقيد الشاب على طريق الزعامة حتى أصيب بداء العظمة، واستنزف موارد بلاده وبددها على مغامرات غريبة.. فكانت نهايته مؤلمة بعد أن أهلك شعبه ودمر بلده وتركه على فوهة بركان البدائية والرجعية. لا أريد زعيماً لمصر يدغدغ مشاعر الشعب بخطب رنانة عن ضعف وضآلة العدو، ثم يستيقظ الناس فى الصباح فيجدوا هذا العدو الضعيف تحول بقدرة قادر إلى وحش مخيف ابتلع القدس، وسيناء وأجزاء استراتيجية من أربع دول عربية، كما يمتلك ترسانة نووية جبارة، وقدرات اقتصادية تفوق مصر وشقيقاتها مجتمعين.. كل هذا والعدو يتمتع شعبه الذى كان مشتتاً بالديمقراطية والحرية والأمان. لا أريد زعيماً يقرر مصيرنا جميعاً ويدير البلاد بمفرده، ينجح ويفشل بمفرده فنجاحه هو نجاح وطن، وإخفاقه انتكاسة للأمة، فمهما كانت درجة إخلاصه ونقائه وبراءته لا أريده.. كفانا بطولات وهمية.. شبعنا خطباً حماسية ،وآراء ثورية، وكلمات نارية.. الشعوب لم تعد تتعاطى هذه البضاعة الراكدة التى برع فى تسويقها وبيعها كتاب احتكروا الأخبار والمعلومات، وتنافسوا على السيطرة على أذن الزعيم وتغييب عقله.. تحدوا رفاقهم فى المهنة والعمل بعد أن أصابتهم النرجسية وحب الذات، فحققوا مكاسب أدبية ومادية طائلة على حساب وطن جريح عانى شعبه من التهميش والإهمال. المدهش أن الساحة الآن تعج بمن يسعون إلى الزعامة،ويروجون لأنفسهم بشعارات فارغة،خاوية من أى مضمون.. هؤلاء شارك بعضهم الرئيس المخلوع فى أغلب القرارات وأخطرها. اللافت أننا نراهم اليوم يتنكرون مما اقترفت يداهم ويتبرأون من ذنوبهم ويسعون إلى الاستفادة من شعبية وهمية لا وجود لها سوى بين شريحة سائقى التوتوك والميكروباص.. أخيراً مصر المفعمة بالثورة والانفتاح العالمى لم تعد بحاجة إلى زعيم يخلد ووطن يموت!!