كتب - شعبان يوسف من العبث طبعاً محاولة الكتابة عن أدب الديكتاتور المطرود من السلطة، أقصد معمر القذافي، ليس لأنه كان رئيساً لبلاده، فكم من رئيس مارس الكتابة الأدبية منهم من كان جاداً فعلاً، وأخذه النقاد والقراء والمبدعون مأخذ الجد مثل الزعيم الأفريقي ورئيس دولة السنغال ليوبولدسنجور، وكان شاعراً موهوباً، وفناناً حقيقياً، مرهف الحس ولديه رؤية فنية يمارس بها الكتابة بعيداً عن مقعد السلطان وحفزت جودة وارتفاع قيمة أشعاره أن تترجم إلي عديد من اللغات الحية، وهناك هوشي منه زعيم فيتنام، وماوتسي تونج زعيم الصين وقائد ثورتها الشعبية، الزعيمان مارسا كتابة الشعر وكانا موهوبين بالفعل، ولكنهما بعد انشغالهما بتسيير أمور البلاد أقلعا عن هذه الممارسة. وهنا فاتسلاف هافل رئيس جمهورية تشكيوسلوفاكيا والذي كان أديباً مسرحياً عالمياً قبل توليه سلطة البلاد وهو كاتب أصيل وله مسرحيات ترجمت إلي العربية مثل مسرحية المذكرة التي صدرت عن دار الهلال عام ,90 ونقلها الكاتب والمترجم عبدالمنعم سليم وهناك كثيرون في العالم مارسوا هواية الأدب، وفي عالمنا العربي نجد أن الزعيم جمال عبدالناصر شرع في كتابة رواية قبل قيام ثورة 23 يوليو وهي رواية «في سبيل الحرية» وتدور أحداثها عن مقاومة المصريين للإنجليز في رشيد والمعروفة تاريخياً بمعركة رشيد، ولكن عبدالناصر قد أهمل الرواية، وتركها لمن أكملها بعده، بعد إجراء مسابقة عن أفضل تكملة لهذه الرواية وبالفعل جاءت كتابات كثيرة مكملة لهذه الرواية أهمها تكملة الراحل الأديب عبدالرحمن فهمي الذي حاز علي المركز الأول في هذه المسابقة، كذلك أنور السادات كان ذا مواهب متعددة أو علي الأقل عنده نزوع نحو ممارسة بضعة فنون منها التمثيل والكتابة وهو قام بدور هارون الرشيد في إحدي المسرحيات التي كانت تعرض في السجن في الأربعينيات عندما كان محبوساً علي ذمة قضية اتهامه بمقتل أمير عثمان مع آخرين، ومارس كتابة القصة بعد ذلك، وبالفعل نشر بعضها في مجلة كانت تصدر في أواسط الخمسينيات عنوانها «الرقيب» والملاحظ طبعاً أن كل هؤلاء تركوا الهواية أمام متطلبات إدارة سلطة البلاد، ولكن يبقي زعيمان تميزا بصفات تكاد تكون متشابهة، الأول مهيب الركن صدام حسين والذي أصدر علي التوالي خمس روايات أشهرها «زبيبة والملكة»، وكان مهيب الركن يستقطب الكتاب والأدباء نحوه، ويعقد لهم مؤتمرات دورية، أشهرها مهرجان المريدي وينشئ لهم مجلات وصحفاً في العراق وخارج العراق وهو كان يعرف جيداً أن الأدباء والكتاب عجلة قوية لتسويق سياساته، وترويج شخصه كمثقف وأديب وسياسي وإنسان وبطل يقترب من الأبطال الشعبيين.. وثاني الاثنين هو عجيب الركن معمر القذافي والذي تمت صناعته وتدشينه هنا في مصر منذ أن حل عليها ضيفاً، وقال له الزعيم جمال عبدالناصر أنت أمين القومية العربية وحارسها من بعدي، وراح القذافي يقلد عبدالناصر ولكن شتان بين المركز والأطراف وبين الظاهرة وتوابعها أو أشباهها، وتجلي تدشين القذافي هنا في القاهرة بعد رحيل عبدالناصر في الندوة الشهيرة التي عقدتها له جريدة الأهرام في 7/4/1972م وحضرها كما قلنا في المقال السابق لفيف من كبار الأدباء والكتاب، حشد غير عادي ومظاهرة ثقافية وفكرية وأدبية وسياسية لعجيب الركن معمر القذافي وقدمه هيكل باعتباره أحد زعماء المنطقة الكبار والذي قاد ثورة تعتبر هي رد الاعتبار لهزيمة ,1967 وكان هيكل هو المايسترو في هذه الندوة وهو الذي كان يوجه ويرشد ويدير، وأزعم أن معرفة القذافي من الممكن أن تبدأ من هذه الندوة اللافتة، والتي نجد فيها نطوحات القذافي السياسية، وشططه الفكري المبكر، هذا الشطط الذي وجد من يقدره ويتعاطاه من مفكرين كبار وأدباء كبار من طراز لويس عوض وحسين فوزي وتوفيق الحكيم وأحمد بهاء الدين ومحمد سيد أحمد ونجيب محفوظ برعاية محمد حسنين هيكل، ومن الممكن أن تختفي الظاهرة لولا أن عوامل قيامها ورعايتها موجودة، فالحوار الفكري والسياسي عند القذافي واضح منذ البداية، والخلل أيضاً موجود إذن ما الذي جعل الاحتفاء بهذا الخلل قائماً ومستمراً ويتطور يوماً بعد اليوم؟ الإجابة طبعاً.. هي التقرب من السلطة والطمع في خير المعز وذهبه، هما كانا مربط الفرس في استمرار وعظم هذا العوار. وكان أول هذا العوار هو الكتاب الأخضر، وأنا رأيت بأم عيني محاولات للسعي نحو ترجمة هذا الكتاب إلي اللغة الروسية، وكانت تدار في مصر مكاتب ومراكز ودور نشر وصحف ممولة من السلطة الليبية، وكانت هذه الكيانات تلعب دوراً كبيراً في خدمة تثبيت دعائم النظام الليبي، وأظن أن هذا ملف ساهم فيه ساسة وكتاب رسميون وحكوميون، كما ساهم فيه كتاب مستقلون أنشأوا مراكزهم بأموال عجيب الركن معمر القذافي، أو بالأحري أموال شعبه وسيأتي اليوم الذي تفتح فيه هذه الملفات. طبعاً الكتاب الأخضر الذي لم يكن سوي كتاب نظري عجيب جاء علي غلافه: «النظرية العالمية الثالثة» تم بعدها تغيير «سلطة الشعب» كركن سياسي للنظرية العالمية الثالثة العقيد عجيب الركن كان مهووساً بإطلاق التعبيرات والاكليشيهات وسنجد أن القذافي والذين معه أي الذين نفذوا وكتبوا شطحاته يكتب كلاماً لا ينطبق عليه الواقع، فعندما يتحدث عن المجالس النيابية يقول: «المجلس النيابي يقوم أساساً نيابة عن الشعب وهذا الأساس ذاته غير ديمقراطي لأن الديمقراطية تعني سلطة الشعب لا سلطة نائبة عنه.. ومجرد وجود مجلس نيابي معناه غياب الشعب والديمقراطية الحقيقية لا تقوم إلا بوجود الشعب نفسه لا بوجود نواب عنه؟! هو يلغي وجود المجلس النيابي ويسفه من ضرورته ويسخف من جدواه، ويحاول أن يأتي بما ليس عاقلاً، فيقول في ذلك: «ولكي نعري المجلس النيابي لتظهر حقيقته علينا أن نبحث من أين يأتي هذا المجلس فهو إما منتخب من خلال دوائر انتخابية أو من خلال حزب أو ائتلاف أحزاب وإما بالتعيين وكل هذه الطرق ليست بطرق ديمقراطية إذ إن تقسيم المكان إلي دوائر انتخابية يعني أن العضو النيابي الواحد ينوب عن آلاف أو مئات الآلاف أو الملايين من الشعب حسب عدد السكان».. وهكذا يسترسل القذافي في عرض نظريته، أو افتكاساته السياسية، والتي - طبعاً - لم تجد لها أقدام حقيقية لتسير بها في أرض الواقع، لأنها مجرد افتكاسات جاءت من مغتصب سلطة ووجدت هذه الافتكاسات من يحميها ومن يشرحها ويسوقها ويروجها، ويترجمها وهكذا ولا ينطوي الكتاب الأخضر علي افتكاسات سياسية فحسب، ولكنه يطرح بديهيات شبه مضحكة، فيقول في باب المرأة: «المرأة أنثي والرجل ذكر.. والمرأة طبقاً لذلك يقول طبيب أمراض النساء.. إنها تحيض أو تمرض في كل شهر، والرجل لا يحيض لكونه ذكراً فهو لا يمرض شهرياً «بالعادة»، وهذا المرض الدوري أي كل شهر هو نزيف.. أي أن المرأة لكونها أنثي تتعرض طبيعياً لمرض نزيف كل شهر، والمرأة إن لم تحض تحمل، وإذا حملت تصبح بطبيعة الحمل مريضة قرابة سنة.. أي مشلولة النشاط الطبيعي حتي تضع، ويظل النص علي هذه الوتيرة المضحكة والمبكية في ذات الوقت مضحكة لأن ذلك كلام يكاد يكون بدائياً، وينطوي علي أخطاء ومبكياً لأن ذلك منصوص عليه في كتاب اعتبرته السلطة أنه أعلي نص في البلاد، أي دستورهم وكتابهم المقدس، وكل ماعداه دنس ولن نسترسل - بالطبع - في شرح وسرد نصوص من الكتاب، ولكنه كتاب من المفترض أن يتم تدريسه كإحدي وثائق الديكتاتورية البشعة، والتي تختفي - للأسف - تحت شعارات الجماهير والشعب والحرية والديمقراطية وغيرها من شعارات براقة والمتأمل لظاهرة الكتاب الأخضر سيكتشف فوراً أشكال الخلل المتعدد التي يعج بها هذا الكتاب، ولكن في حينه لن يسمعك أحد تحت انهيال - إذا صح الاشتقاق - الدنانير والميزات الملكية التي كان يحظي بها رجال حاشية القذافي وسلطته. وتأتي بعد ذلك مجموعته القصصية «القرية.. القرية.. الأرض.. الأرض.. وانتحار رجل الفضاء» والتي أفناها كثيرون من قبلي درسا ونقدا وتأملا، ومن العجيب أن يتعاطاها الكتاب والأدباء علي محمل الجد فملخص هذه المجموعة أو التهويمات السردية، والتي - بالتأكيد - ساعده فيه مساعدون، تنادي بعدم صلاح المدنية، فهي الخراب الذي حل بالعالم، ولم تعد هناك أي جدوي لسكناها وعلينا أن نعود إلي القرية، ففي قصته «الفرار إلي جهنم» وبالمناسبة القذافي من مواليد قرية اسمها «جهنم» والتابعة لمحافظة «سرت» يطرح عددا من المعطيات التي تقبح وجه المدينة، والرافضة لكل تقدمها وتحضرها وتطورها، فهي آكلة للإنسان ولقدراته ولطبيعته التي خلقها الله، ونافية لرجولته، ومهانته ومجبرة إياه علي الخنوع والخضوع، ولا مفر من الفرار منها، والذهاب إلي القرية جهنم، حيث الأهل والأصحاب والأحباب، وهنا يورد القذافي عددا من الآيات القرآنية.. مستميلا - طبعا - القارئ المسلم، وكم من الجرائم ارتكبت تحت استخدام الآيات القرآنية، وكل هؤلاء الفاشيين والقتلة استخدموا آيات الكتاب الكريم لاستغلال الناس، حتي نابليون بونابرت الذي دخل مصر حاملا القرآن الكريم، واللافت للنظر أن القذافي «ساكن خيمة» البدوي يحاول أن يجد مسوغا لاستخدام آيات القرآن، فيقول إنك لن تستطيع أن تري تحققا كاملا لآيات القرآن الكريم إلا في القرية، ويورد آيات مثل: «والضحي والليل، إذا سجي» وهكذا من آيات لكي يوضح أن الطبيعة التي نص عليها القرآن الكريم، لن تجدها إلا هنا في «جهنم»!! ويا للعجب ومن المضحك كما لاحظنا في كتابه «الأخضر» ومرتلاته، ففي قصته «الموت» يبدأها بالتساؤل عن ماهية الموت: هل هو ذكر أم أنثي؟ وإلي آخر هذه الترهات، والتي لا تنتمي إلي عالم القصص ولا عالم السرد، إنها هذيانات كما قال عالم نفس فرنسي، أو مقالات بائسة كما قال يوسف القعيد، فلا هي تنطوي علي بناء ولا جماليات، ولا حتي لغة قصصية، إنما مجرد أفكار ارتدت ثوب الأدب فقط لا تجد أفكاراً صاغتها عقلية مشتتة ومكملة لجميع أفكار القذافي الدائمة والقبلية، والتي تدعو الناس إلي هجران المدينة، ولن نصدم أن نجد أن هذه الدعاية بدأت منذ توليه الحكم، والمتأمل لهرتلاته أي لخطبه سيجد هذه الدعوة، وكما لاحظنا علي خطاباته النهائية، والتي تفوق قدرة أي باحث علي الفحص لتضاربها، ولعدم انطوائها علي منطق، سوي الشطط والهرتلة، والتسيب الفكري المجاني الذي لا يخرج القارئ منه بشيء ويكاد هذا أن يكون مقصودا وتعالوا نري كتابه الثالث، والذي اختار له عنوانا عجيبا، أيضا وهو «تحيا دولة الحقراء» وكما قلنا إن القذافي مهووس بالاشتقاقات مثل الحقراء، ويقول أيضا في فصل عنوانه: «الشعب في النظرية الثورية تعبير جماجي غامض» و«علينا أن ننتظر انتصارنا حتي لو تأخر 360 عاما، ويأتي الكتاب في لغة سقيمة ومصمتة.. فيكتب: «ما أحلي انتصار الحقراء وما أعظمه!! ما أجمل فجر الحقراء عندما ينبلج بدون إذن من أحد، ما أروع شمس الحقراء عندما تبهر الدين، وكم هي رشيقة تلك الأجساد الملونة بالعذاب.. كم ثمينة تلك الأسمال الممزقة والمرتفعة.. من يملكها غيركم، ومن يرتديها دون أن ينظر إليها غيركم.