عندما عاد المسافر عمر الشريف إلى مصر فى أوائل الثمانينيات كان يعلم جيدا أن هناك مسافات تصل إلى أكثر من واحد وخمسون عاما تفصل بينه وبين الشاشة الفضية فى مصر كان يعلم أن الذى عاد بعد أن التقى مؤخرا بالعقد الخامس من عمر وتلون شعر بخصلات بيضاء ليس هو نفسه الشاب الذى سافر إلى الجانب الآخر من العالم يسبقه حنينه إلى السحر الهوليوودى فى منتصف الستينيات الحلم لم يعد هو نفسه والطموح تغيرت أشكاله وصيغه مساحة وجهه كانت قد تقلصت على أفيشات السينما العالمية التى تصدى فيها من قبل بقوة لأسماء صاغت خيالات ملايين من المشاهدين فى شتى أنحاء العالم (بيتر أوتول) (مايكل كين) و(باربرا سترايسند) وغيرها من الأسماء .. وحياته هو خارج إطار الشاشة الفضية كان قد تغير شكلها..اصطدمت بمطبات ومنحنيات أيقظت بداخله حنينا عفويا إلى (مصر)، لذا قرر أن يعود. كثر الحديث وقتها عن أنه عاد فقط لأنه لم يعد لديه ما يقدمه عالميا، وشكك آخرون فى قدرته على الاستمرار وقتها عرض عليه (هانى لاشين) المخرج الطموح فى ذلك الوقت (أيوب) سيناريو أعده سينمائيا (نجيب محفوظ)...عن رجل أصبح مقعدا بعد أن تفوق عليه المرض..يقرر أن يكتب مذكراته ويبدأ عقد محاكمات عاجلة لنفسه قبل إعلان الهزيمة. لم يتصور أحد أن يوافق (عمر) على الفيلم...فإتقانه للهجة المصرية بعد هذه السنوات من الابتعاد كانت محل شك..ولكنه فعلها..وقدم ليس فقط دورا مهما، وإنما فيلما هو بلا شك من أفضل أفلام تلك الفترة بما يحمله من دلالات إنسانية وفلسفية نقلها (الشريف) عبر الشاشة إلى الجمهور بسلاسة ومرونة تمثيلية..كان يعلم أن هذا هو الدور الأنسب له بعد العودة ليس فقط عمريا وإنما حتى إنسانيا.. هو نفسه كان فى حاجة إلى إعادة ترتيب أوراقه التى تبعثرت فى الغربة...بدأ السيناريو وقتها وكان نابعا من ذكرياته هو، ولا نقصد هنا بالطبع تلك الوقائع الخاصة بفساد (أيوب) فى الفيلم، وإنما تلك الحالة من المواجهة مع الذات بجرأة تصل إلى حد الجلد أحيانا. رحلتا الهبوط والصعود كانت ومازالت أهم مشاكل (عمر الشريف)..خلال مشواره السينمائى الممتد لسنوات طويلة...هى عدم قدرته على الاستغلال الأمثل للفرص...رغم النجاح الذى حققه (أيوب) إلا أن (الشريف) قرر الابتعاد مرة أخرى ربما لإدراكه أن الساحة السينمائية المصرية كانت قد تغيرت وأفرزت أسماء أخرى لم يعد لديه مكان بينها..أو ربما لأنه رأى الخيار الأمثل له العودة مرة أخرى إلى أحضان باريس... خلال السنوات الست التى تفصل بين عودته مع (أيوب) وبين (الأراجوز) - ثانى إطلالة سينمائية له فى مصر بعد الرجوع إليها- قدم عمر ما يقرب من 41 عملا فنيا أجنبيا متواضعا فى قيمتها معظمها أعمال أو مسلسلات تليفزيونية إيطالية أو فرنسية..أو أفلام ضعيفة مثل (الحريم) الذى يجسد فيه شخصية سلطان يشترى فتاة إنجليزية يتم اختطافها من خطيبها ويضمها إلى (حريمه)...يمكنك أن تستثنى من تلك المجموعة عملين فقط يتسمان بقدر ما من الأهمية، ولكن مساحة دوره فى العملين لم تكن متكافئة مع الرصيد الذى حققه من قبل ونقصد بهما فيلمىَّ ..Les possèdés و .Keys to freedom ظل (الشريف) حتى نهايات الثمانينيات متخبطا بين رغبته فى الانتصار لتاريخه القديم وبين اضطراره لقبول المتاح من أجل البقاء إلى أن جاءته الفرصة من جديد ومرة أخرى يكون صاحبها هو (هانى لاشين)... بلا شك يظل (الأراجوز) هو أحد أهم شخصيات (عمر) السينمائية على الإطلاق، ليس فقط فى تلك الفترة وإنما عندما تعيد النظر فى مسيرته ككل. عاد ليتألق بس فيه حاجات بتعيش..زيك كده يا عمر يا شريف)...جملة كانت تقولها (يسرا) ل(عمر الشريف) فى سلسلة إعلانات تليفزيونية شهيرة جمعتهما فى منتصف التسعينيات بعد أن بدأ وجه عمر الشريف يعود مألوفا للجمهور مرة أخرى بعد أن زادت سنوات عمره وزادته بريقا وجاذبية..يمكنك القول أن فترة التسعينيات شهدت تصالح (الشريف) مع السينما المصرية بعد عودته إليها بأكثر من عمل ومع السينما العالمية أيضا التى قدم لها أفلاما تعيد إليه توازنه السينمائى خلال تلك الحقبة. كان عمر ينظر إلى تجاربه وإلى أعماله بمنطق مختلف...كان متسامحا مع كل ما سبق..أخطاؤه كانت نصب عينيه طوال الوقت، ولم يحاول إخفاءها، ولعل هذا ما أعطاه ذلك الوهج العميق فى تلك الفترة التى يمكنك التأريخ لها بدءا من (المواطن مصرى) الذى يعد ثالث رهان صعب يوضع فيه عمر الشريف بعد العودة، وفى أقل من 7 سنوات.. ولكن لم يكن غريبا على (صلاح أبو سيف) الذى آمن ب(عمر) فى (بداية ونهاية) أن يعيد المراهنة عليه فى فيلم يذهب هذه المرة إلى أعماق القرية المصرية، ومن خلال شخصية العمدة التى كان عليه إنقاذها من الكليشيهات التى كادت أن تخفى ملامحها الحقيقية... انطلاقا من (المواطن مصرى) فى 1991 يعيد (الشريف) حساباته سينمائيا ويبحث عن مناطق أهدأ وأعمق...يمكنك الاستمتاع بمشاهدته فى الفيلم الاجتماعى الكوميدى (السيدة أريس تذهب إلى باريس) فى 1992 والذى يحكى قصة سيدة متواضعة الحال تعمل جاهدة لشراء فستان فخم من باريس، وهناك تلتقى بالسيد (ماركيز هيبوليتز) الثرى الوسيم والذى يكشف لها عن أبعاد أخرى للعالم... شاهده أيضا فى (الجنة قبل الموت) 1997 والذى يروى قصة شاب ترك القدس لأنه كان منبوذا بسبب قدمه العرجاء والذى يسافر إلى كندا التى يرسمها فى خيالاته بلد الاختلاف والحرية، وهناك يقابل أشخاصا يرشدونه الى أعمق معانى الحياة، ومنهم النبى (جبران خليل جبران) الذى يصبح دليله بحكمته إلى الجمال. لم تكن مشاركة عمر حكرا على السينما الأمريكية بل شارك فى أعمال هندية، ويابانية، وإيطالية وفرنسية..وحتى فى تعامله مع هوليوود لم يكن فى تلك الفترة حكرا أيضا على الأفلام الفلسفية أو الإنسانية مثلا، وإنما تجده فى فيلم غارق فى توابله التجارية مثل (المحارب ال13) 1999 جنبا إلى جنب أنطونيو بنديرياس ''... والذى يروى قصة صداقة جمعت بين شاعر عراقى شاب يتم الحكم عليه ظلما وينضم إلى مجموعة من قطاع الطرق ويصبح (الشريف) هو دليله... فى تلك الفترة عاد عمر ليقدم أمام (عمرو دياب) ويسرا دورا معقولا تمثيليا فى (ضحك ولعب وجد وحب)، ولكنه لم يكن بنفس عمق التجارب ال3 التى سبقته.. البحث عن الذات انطلاقا من الألفية الجديدة بدأ عمر مرحلة سينمائية مختلفة...وبدأت السينما العالمية تنظر له بمنطق مختلف... أصبح يمثل لهم أيقونة أشبه بتلك التى كان يمثلها أنطونى كوين..وجوده فى الكادر يضيف إليه هيبة وحكمة غير مدرسية... تجاوز السبعين من عمره وتجاوز أخطاءه وهفواته..أصبح يتحدث كثيرا فى حواراته الصحفية الأجنبية او حتى المحلية - عن أنه فى فترة من الفترات كان لديه عشق وشغف لأشياء لم تعد تشغله، ولكنه قرر أن يولى هذا العشق قبلة الفن... يجمع حساسية تجاربه جميعا وثراءها فى (السيد إبراهيم وزهور القرآن) ذلك الفيلم الذى لم نلتفت نحن فى مصر سوى إلى تلفيق تصورات مشوهة به تدعى أنه يسىء إلى الإسلام...لم ننتبه إلى هذا المعنى المتمادى فى عمقه للدين، والذى يظهر خلال علاقة (إبراهيم) صاحب الدكان البسيط فى إحدى حوارى باريس بالفتى اليهودى (موسى) أو (مومو)... علاقة إنسانية بسيطة فى تفاصيلها المغلفة بنعومة تمتص آلام صدمة المشهد الذى يترك فيه (إبراهيم) الحياة ويذهب بعيدا...لم يكن غريبا وقتها أن يحصل عمر على جائزة مهرجان (سيزار) الفرنسى بما تمثله من أهمية فنية مثلما لم يكن غريبا أن يحصل عن نفس الدور على جائزة خاصة من مهرجان (ڤينسيا)... راجع ما كتبته مجلة (فارايتى) الشهيرة وقتها عن أدائه (عمر الشريف ممثل ساخر وعميق، يستطيع أن يضفى حتى على الكليشيهات روح الدعابة والحياة)...وفى موضع آخر قالت عنه (بشعره الرمادى وأعوامه ال71 لم يفقد عمر الشريف سحره أو جاذبيته التى جعلته أحد النجوم العالميين فى الستينيات... دور آخر مهم له فى فيلم (ليلة واحدة مع الملك) 2006 والذى يقف فيه مرة أخرى أمام رفيقه (بيتر أوتول)..الذى وقف معه من قبل فى (لورانس العرب).. ودور آخر أهم فى فيلم (القديس بطرس) الذى يجسد فيه مسيرة أحد تلامذة وأتباع المسيح الذين ساهموا فى تغيير مسار المسيحية فى روما...ذلك الدور الذى أمتع الجميع بغض النظر عن اختلاف هوياتهم الدينية.. حنين آخر جذبه إلى مصر مرة أخرى منذ حوالى 4 أعوام خاصة بعدا استدعاء مهرجان القاهرة السينمائى الدولى له لتكريمه فى إحدى دوراته...قرر أن يؤكد عليه بعودته إلى الشاشة المصرية، والتى تصادف أن تكون تليفزيونية وليست سينمائية فى 2007 من خلال مسلسل (حنان وحنين)'' والذى كاد أن يكون ناجحا لولا عوامل كثيرة نجحت فى الخروج به من دائرة المنافسة...يتجاوزه بعمل سينمائى مبدع مع (عادل إمام) فى »حسن ومرقص«.. بدور رغم صغر مساحته يحتوى كل أدواره التى قدمها للشاشة الفضية بعد عودته مع (أيوب)...ويضيف إليها كثيرا من الخبرة والصدق.من خلال شخصية الشيخ التقى الذى تطارده الجماعات الإرهابية ويضطر للتخفى فى شخصية القسيس (مرقص)...دور مهم فى فيلم لا يقل عنه أهمية وخطورة.. المسافر وبعد.. يأتى المسافر ليصبح بمثابة تتويج مؤقت - حتى إشعار أو لنقل بعثا آخر - لمسيرة إنسانية أكثر منها فنية، أهم ما يميزها حقيقيتها، وهذا لا يعنى بالطبع مثاليتها. ولكن تبقى حقيقة أننا ظلمنا عمر الشريف.. حاصرناه دائما باتهامات تدخل فيها مصطلحات الانتماء والوطنية..لم ننشغل بمسيرة فنية وإنسانية بها أخطاء وخطايا وإنجازات قابلة للنقد والتقييم بقدر انشغالنا بحقيقة ما إذا كان أحفاده يهودا أم مسلمين، و(جررناه) إلى مناورات يلعب فيها دور المدافع عن عقيدته وصدق انتماءاته الوطنية، ونسينا أنه قرر منذ البداية أن يكون صريحا، وأن يكون...فنانا.؟