القنال يطل بحزن الآن علي المدينة وقهوة البورصة تتلصص علي الطابية والغريب. الكورنيش القديم أيضا صامت وحزين. حتي الطيور في سمائه توقفت عن المغامرة بالنزول لالتقاط الأسماك الصغيرة التي أصبح من النادر رؤيتها تلهو تحت غطاء الماء المبقع بالزيت وقيء البحر. شعلة وجبل وشمس تسقط في البحر وقت الغروب. ضحك العيال وأكل الترمس علي لسان المدينة الذي يتدلي في مرج القنال والخليج يصل شطري الكرة الأرضية. تلك الصور لم يعد لها وجود. فالسويس يحترق ينتظر الغوث من مجلس الآلهة الثلاثين الذين حولوا قلوبهم وعقولهم عن هذا البلد الذي يتوسط العالم والذي أوجع كرامة الإسرائيليين وأصابهم بالعار الذي يستحقونه. يقولون عن السوايسة أنهم مياه مالحة ووشوش كالحة. وأقول ماء الحجيج ووجوه لفحتها الشمس بقسوة في طريقها لكسب لقمة العيش. لن تستطيع نفي البطولة عن شعب مهما ضللته. سيظل آلهة المجالس يحاولون والسوايسة صامدون كما صمدوا دائما. شعب السويس الذي أعرفه ليس شعبا واحدا. ربما أذهب لأن أقول إن أهل السويس يمثلون بر مصر من أول الخريطة إلي آخرها. فالسويس مدينة جاذبة. ليس فقط لكل المصريين. جملة أصبحت تعني أن الغريب الوافد إلي المدينة يجد رزقا واسعا وحظا وافرا بين أهلها الذين اعتادوا علي تقبل الآخر منذ عهود بعيدة سبقت نشأة المدينة «بلد الغريب». ماذا فعلتم بمدينتي؟ تركتموها للفئران والغربان تقوض أركانها واشتغلتم علي طمس الذاكرة التي لم يتبق لها ما يحفزها فحجم التخريب الذي تعرضت له المدينة في زمن ما بعد الحرب يفوق بمراحل حجم التخريب الذي تعرضت له السويس إبان الحرب الأخيرة مع القتلة من اليهود بمساعدة الأمريكان وغيرهم من الأوغاد. مدينتي التي أعرفها لم يتبق منها إلا القليل. بيني وبين الجيش علاقة قديمة منذ أيام الحرب حيث كانوا يدقون بيتنا الكائن بحي الأربعين في الليل يهدوننا أقراص الجبن المطبوخ وعلب البسكويت أبو كمون. كنت أراهم في العتمة التي يفرضها انقطاع التيار بسبب الغارات التي لا تنقطع عن المدينة. كنت أراهم فكرة نبيلة وعملاقة وقوية. فكرة تطرد فكرة الشمامة التي كانت أمي تهددنا بظهورها إن لم نحافظ علي النظافة وتمادت أمي في استخدامه لردعنا عن الخروج فنصاب بطلقة أو ينهار فوقنا جدار. كنت صغيرة ولكن أخوي الراحلين كانا كبيرين وكانا مسئولين عني بدرجة ما. فكانا كثيرا مايصحباني ومنهما تعلمت الكثير من مغامرات الصبيان. فكنا ندخل البيوت المغلقة بالأقفال بعد أن يكون صاروخ أمريكي الصنع قد هدم أحد الجدران وجعل غرف النوم والحمامات مفتوحة علي الشارع. عثرنا علي كنزنا الصغير في حجرة أم حميد التي كانت تبيع الكبريت علي أول حارة حمدي. كانت هناك كمية من أمشاط الكبريت تكفي لإشعال العالم، استبدلناها بالفول والطعمية والعيش من مطعم الشاعر القائم إلي الآن بشارع الجيش بالأربعين. السويس زمان والسويس الآن أمران مختلفان تمام الاختلاف. لحقنا بأم حميد وغادرنا السويس لقضاء العيد مع أهل أمي وأصبحنا مهجرين وبقي أبي بالسويس ننام ونصحو علي حلم العودة إلي بيتنا الذي وجدناه مهدما بالكامل بعد العودة. تقوم خناقة بسيطة بين بائع متجول وبين صاحب محل الكهرباء «حادث بسيط في ميدان الأربعين» يتحول إلي حرب أهلية تشمل أصحاب المهنتين والعائلتين وتكثر الضحايا والأعداد المعلنة تكذبها دماء القتلي والمصابين «البلطجية» حسب الروايات الرسمية. تموت طفلة وتحترق رءوس أموال صغيرة بالكاد تفي بمتطلبات رئيسة لأسر أصحابها الذين سيشهرون إفلاسهم وينضمون إلي المتضررين في ميدان الأربعين بسبب تقاعس الداخلية ورفض الجيش التدخل وهو الذي كان قد وعدنا بحماية الأرواح والممتلكات. عندما كانت تصلني رسائل المجلس العسكري كنت مثل كل المصريين آخذها علي محمل الجد. «علي المواطنين الشرفاء تحمل المسئولية والتصدي للعناصر غير المسئولة». منذ تلقيت الرسالة وأنا أفكر في حمل سلاح مناسب لهذا المطلب وقبل أن أحسم أمري وجدت المصريين وقد أصبحوا مسلحين ويتبادلون الأسلحة كما يتبادلون الموبايل. السويس بوابة مصر وأفريقيا الشرقية تحترق. السويس التي حمل قاطنوها علي مر العصور مسئولية المواجهة. السويس التي كانت مدينة دولية بطابعها العمراني المميز وثقافة أهليها المنفتحة علي كل من هو آخر/غريب بنفس المحبة التي يكنها السويسي لأهل بيته. السويس تدور بها الآن حرب أهلية. الله وحده يعلم إلي أين ستفضي بنا وبمصر كلها. هل يعلم رئيس الوزراء الذي قبلنا به بناء علي إرادة الثوار الذين أصبحنا نصطدم بهم في المكاتب الحكومية فجأة رغم أزمة البطالة المقنعة؟ هل يعلم اللواء الفنجري الذي اعتبرناه في لحظة زمنية رسولاً مبشرًا حين يظهر علي شاشاتنا. هل يعلمان وهما واحد يضرب والآخر يلاقي أن هناك أكثر من ستين أما تعتصم بميدان الأربعين في انتظار الموت أو الثأر. أوجعها كثيرا أن تري القتلي طلقاء يتباهون أمام عينيها. لم يكفهم ما فعلوه به حيا. صفع وإهانات لم يسلم منها أبناء السوايسة بلا سبب إلا أن السادة في مزاج سيئ! قتلوه وصفوه بالبلطجي قالوا لها بثقة ابنك ليس بشهيد هل تقول للأم التي تعتصم أن ابنها سيدخل النار؟ هل تعرف ما يعرفه؟ هل تظن أنه سيأخذ بتصنيفك؟ استيقظ فأنت في السويس لقد ألقي المغني بالعود وشارك في الاعتصام وأمهات السويس لن يغادرن ميدان الأربعين ولا ثيابهن السوداء والعدد في ازدياد أنحني لأمهات الشهداء.