«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سباق مع الصاروخ
نشر في أخبار الأدب يوم 07 - 05 - 2011

لم يمت رمضان ميتة بطل شهيد.. ولكن الثابت أنه سقط صريعا في العدوان علي السويس.. فترك بموته أسطورة متداولة بين السكان النازحين.. والقصة التي يرويها كافة المهاجرون من أهل السويس عن الرجل.. تجمع أنه كان والدا لثلاثة أطفال.. منهم طفلة.. هي التي يقول الجميع أن الصاروخ لم يستطع أن يمنعه عن احتضانها في النهاية.. وتقسم الحاجة زينب.. وهي التي تؤكد موته والطفلة بين ذراعيه.. أنهم سمعوه وهو يلهث لافظا آخر أنفاسه يردد في أذن طفلته.. الصاروخ سبقني.. الصاروخ سبقني.. وكأنه كان يعتذر لها عن وفاته.
وتدور بك الرواية علي كل لسان.. فتسمع من عمك بركات.. ومن الشيخ ندا الغريب.. ومن خالتك بهية.. ومن نادية حسين ومصطفي السويسي والزيني شحاتة.. من الذين أقاموا عند أقاربهم في الدقي وإمبابة.. والذين طرحت بهم دفعات التهجير إلي أكثر من جهة في محافظات الفيوم والجيزة وبني سويف.. تسمع من الكل.. قصة السباق الجنوني الرهيب الذي قام بين رمضان وبين الصاروخ العجيب الذي أصابه علي آخر ثانية بعد أن اجتاز المدينة من أقصاها إلي أقصاها وجري ليقتحم الدار ويحمي أولاده من وابل النيران وهول الجحيم الذي انهال علي السويس وأهلها في آخر حلقات العدوان الوحشي الإسرائيلي.
والسبب الذي من أجله تسري أسطورة رمضان ما بذله الرجل من جهد جبار هو أشبه بمعجزات الصالحين.. حتي نجا من هول السعير.. فقد انطلق من داخل المعامل في »الزيتية« قاصدا أن ينقذ أولاده الصغار وكان قد تركهم وحدهم وأغلق عليهم باب البيت في مساكن الغريب وانطلق مبتعدا عن لسان الخليج حيث تحوم الطائرات وتنطلق المدافع.. فاجتاز المستعمرة.. وأوغل شرقا إلي وسط المدينة فقطع حي زرب في ثوان معدودة..
ونزل من الأربعين إلي كفر كامل..
فتارة هو أمام خزان ملتهب.. وتارة أخري هو علي حافة قناة مشتعلة.. ثم تجيء وقفته وهو ينهج في ظل حائط ينهار فيكاد يقصف رقبته.. ورمضان يجري.. ويجري.. ولا يشعر والدخان يتزايد والدنيا تحتجب.. ولا يري.. والصراخ والعويل ونداءات الاستغاثة والتحذير تتلاحق من كل جانب تملأ الجو.. وهو لا يسمع.. حتي أصوات الرعد التي تصاحب طلقات مدافع المقاومة فتهز السماء فوق رأسه ويظل صداها يدمدم في أعالي الجو إلي أن يرتطم بأعلي الجبل فيرعد من جديد في دوي قاصف.. ما كانت لتوقفه.. وهو يمرق كالسهم.. يقتحم الشوارع والطرقات.. وأحيانا ما ينفذ من داخل حجرات البيوت المتساقطة وكأن حيطانها من ورق الكرتون.. اجتاز المهالك والمسالك كلها ووصل سالما إلي حجرتيه في مساكن الغريب.. حتي إذا فتح الباب اندفع ينادي علي الأولاد.. وفي لمح البصر كان قد اختفي بأولاده.. أكلهم الصاروخ الذي سقط علي البيت لحظة دخوله.
يقول السيد بركات.. ويهز الشيخ ندا رأسه بالموافقة علي تفاصيل ما حدث
- تعرفوا الحكاية جت ازاي يا أولاد.. الحكاية جت من ساعة ما رمضان سمع صوت الطيارات المهاجمة..
- ما احنا كلنا سمعناها زيه!!
- ماحدش كان فاكر إنها هجوم بالشكل ده! بالنار وفي النار! منشنين علي الزيتية..
- أنا قايلها من ساعة ما غرقنالهم المركب بتاعتهم مش حيسكتم.
- أمال ليه ماكنش موافق علي التهجير يا سيدنا الشيخ؟!
- آه!! سؤال غريب ما أجاوبش عليه.. احنا بندن في مالطة يا جدع إنت وهو!! ماقدامكم رمضان.. مات صدفة بعدما كان قد سبق الموت..
واحتدم النقاش بينهم طويلا.. إلي أن فوجئوا بمعضلة النوم.. فحتي هذه اللحظة لم يكن أغلبهم قد أستقر نهائياً علي المكان الذي سينامون فيه..
بينما اتصل الحديث في الجانب الآخر من حجرات شقة البدروم.. وكان يدور حول نفس الأسطورة..
أسطورة رمضان والصاروخ.. وخالة بهية هي التي تمسك بأطراف الحديث:
- الحمد لله اللي مات في وسط ولاده.
مش أحسن ما كان الصاروخ كلهم قبل ما يوصلهم وفضل عايش بحسرتهم طول العمر.
- وفيها إيه لو كان الصاروخ وقع علي الوسعاية اللي قدام مساكن الغريب.. دي ولا البحيرة.
ولو أن هذا قد حدث بالفعل.. لكان الكل الآن قد أخلدوا إلي النعاس ولم يفكر أحدهم في العودة إلي السويس ثانية والارتكان إلي ما حدث لرمضان كأسطع مثال علي المصير المحتوم لكل إنسان فإنه المصير الذي لا يغير منه وجود الخطر في مكان عن مكان.
قالت نادية حسين لمصطفي السويسي بعد أن أقنعته بسمة الخيم وتوافر الضروريات:
- ما تزنش ورايا برمضان وصاروخه إنت راخر.. دول ناس عبط.. هو الموت لعبة!!
- دي أعمار يا ستي.. أنا عارف رمضان كويس..
- كان وليًّا من أولياء اللّه الصالحين!! مش كده؟!
- لأ.. ماكانش..
وسبح مصطفي السويسي في ذكريات الليلة التي أمضاها قبل نهار الضرب مع رمضان.. كانت جلسة طويلة فوق الرصيف وبجوار المقهي الخشبي.
»قهوة وبار أثينا«.. وسط الخليج تماما.. في المسافة الفاصلة بين »الزيتية« وجسر بور توفيق.. ورمضان يتأمل عتاقة ويقارن بين سويسي الأمس.. وسويسي اليوم والغد.. زمان كان يدور وسط الحواري.. يصلح بوابير الجاز.. وهذه الأيام التي أصبح فيها من العمال البارزين في صناعة البوتاجاز.. وبعدين.. حين يتعلم الولد.. فيصبح مهندسا في المعامل.. والبنتين.. كل واحدة في المدرسة.
كان الوقت قبل الغروب بقليل.. والشمس تختفي وراء عتاقة.. وظل الجبل الغارق في ماء الخليج الراكدة طوال اليوم يزداد قتامة مع كل دقيقة.. وخيال الصهاريج والمداخن.. وتركيبات الأنابيب التي كانت تضاء كل مساء فتحيل واجهة »الزيتية« إلي ما يشبه أسطع شوارع القاهرة بثرياتها الكهربائية.. تتلألأ فوق سطح الماء وسط غلالة رقيقة شفافة من الضباب.. فتضيء الخليج وكأنها عقود من اللؤلؤ علي صدر غانية حسناء يلفها السحر..
وكان مصطفي السويسي ينصت إلي رمضان..
- أنا قلبي حاسس بالخطر.. علشان كده.. مليت استمارة تهجير .. وكلها يومين وأرحل بالأولاد..
وأصبح الصباح.. ولم ينقض اليوم بكامله والا وكان رمضان قد رحل في هجرة أبدية مع أولاده الثلاثة.. ولكنه رحل بعد أن ترك بين بقية المهجرين.. تلك الهزة المقلقة.. الهزة الفاصلة.. بل الهوة القاتلة المخيفة التي تفصل بين التسليم بالمصير المقدر.. وسلامة تقدير المصير.. فلو أن رمضان كان قد سبق الصاروخ واستطاع أن يخرج بأولاده إلي الخلاء الواسع الممتد أمام مساكن الغريب.. لما دارت بينهم الأحاديث كل في مستقره الجديد.. حول الموت الذي يدرك الناس حتما.. ولو كانوا في بروج مشيدة.
وعادت نادية حسين تلح علي زوجها
- مصطفي!! أوعاك تكون ناوي تسهر الليلة دي كمان.. وترجعوا للكلام والحديث..
- كلام أيه! وحديث أيه! هو أنا كنت لحقت أتكلم معاه أكثر من كلمتين!
أمال أيه اللي رجعك وش الفجر!
- أنا ليلتها رجعت بدري..
- بدري يا مصطفي!!
- ساعة العشا تمام.. سايبه داخل يصلي في جامع أبوالعزايم..
- رمضان!! أنت لسه عايش مع رمضان!! ماحدش منكم قادر يفكر غير في رمضان.. ودا كله علشان معجزة!
عمل معجزة!!
والحق أن مصرع رمضان كان يمثل أكثر من معجزة.. فلو قدر لمصطفي السويسي أن ينهض ساعتها.. ليقوم بما يشبه الجولة التفتيشية علي معظم المهجرين من السويس.. هجرة اجبارية أو اختيارية لما وجد لأحد منهم سيرة.. غير سيرة رمضان.. والصاروخ الذي قضي عليه بعد أن عبر المدينة بأحيائها جميعا.. من المستعمرة وراء الزيتية.. إلي الطرف الآخر علي لسان الخليج ليصل إلي مساكن الغريب.. والصاروخ يهبط عليه مع أولاده الثلاثة.. وكأنه كان في انتظارهم.. بالثانية والدقيقة.. لينسفهم نسفا من علي وجه الأرض.
لكن لعل مصطفي السويسي كان سيسعده بدلا من أن يجبر علي ملازمة الحجرة استجابة لرغبة زوجته نادية.. أن يجد نفسه في تلك الحلقة الصغيرة من السوايسة التي تجتمع كل مساء حول عمك بركات والشيخ ندا ومعهما الحاجة زينب وخالتك بهية.. ذلك أنه كان يستند مثلهم إلي ما حدث لرمضان وأولاده في تأكيد مايجيش بنفوسهم.. وهو أن الهجرة من السويس كضرورة عسكرية.. لا تعني الابتعاد
عن التعرض لخطر العدوان الماثل علي الضفة المقابلة للقنال.. وفي أرض بلدنا يا عالم ياهوه.. في أرض بلدنا.. ولكم كان بوده أن يصرخ في وجه زوجته بما كان يصرخ به ليلة الأمس في وجوههم جميعا.
- موت رمضان فيه عبرة.. لكن مش هو الحجة..
- وانتوا لكم سيرة غير سيرته!!
- يا ست يا عاقلة أفهميني.. الناس بتاخد موتة رمضان كمثل.. أنما الأصل أننا مش حنقضي بقية عمرنا مهجرين.
- قصر الكلام عاوزين ترجعوا السويس!!
والشيء الغريب حقا أن ذات العبارة التي كانت تجادل بها نادية زوجها.. كانت في نفس الوقت تماما.. تتردد علي لسان الحاجة زينب وهي تحاول أسكات زوجها عن متابعة حديثه.. وأن يكن في حجرة كبيرة واسعة.. بنيت في الأصل لكي تكون مخزنا في البيت الذي أقاموا فيه بأمبابة.
- قصر الكلام عاوزين ترجعوا السويس! مش كده!
- رد أنت يا شيخ ندا علي الحاجة زينب.. وأنا مش حاأتكلم..
وطوي عمك بركات ذراعه اليمني تحت إبطه اليمني..وذراعة اليسري تحت إبطه اليسري
وراح يهتز فوق الشلتة وهو يبسمل في سره.. بسم الله الرحمن الرحيم.. بسم الله ماشاء الله.. بسم الله ما شاء الله.. وكان معني ذلك أنه أنزوي بنفسه عن متابعة الحديث.
- اتكلم يا شيخ ندا..
وأمام صمته الذي طال.. هتفت به خالتك بهية..
-فهمونا قصدكم ايه؟!
وتنحنح الشيخ ندا.. وابتلع ريقه بصوت مسموع.. ثم راح يشرح بهدوء
- هو احنا حنهاجر للأبد!! مانبقاش سوايسة.. احنا متهجرين.. مش مهاجرين.. مسيرنا راجعين للسويس النهاردة قبل بكرة.. اللي في الفيوم واللي في بني سويف.. ومن باب أولي.. اللي نزلوا في الجيزة..
قالت الحاجة زينب وهي تمصمص شفتيها..
- أنتي فاهمة قوله يا خالة بهية؟!
وحشرج عم بركات وقطع البسملة وهو يهتز ويزوم..
- توكل يا شيخ ندا! كمل! كمل كلامك!!
- الحكومة جايبانا هنا علشان تبعدنا عن الخطر.. لكن احنا مش جابين تقعد عوالة.. لا علي الحكومة.. ولا علي الناس.. السويس.. أولي بالسوايسة..
وتنحنح عمك بركات ثانية وهو يهتز علي الشلتة..
- هو فيه عظة.. أكبر من عظة رمضان!!
- كل ما حد منهم يتكلم!! يقولوا رمضان! رمضان ايه!
فإذا عدنا حيث يقطن مصطفي السويسي وحرمه نادية حسين لما كان غريبا أن نلحظ وجود الزين شحاتة يجادلهما في نفس الموضوع.
- إذا كان حد حيدافع عن السويس.. احنا أولي بالدفاع عنها.. والحمد لله مافيش راجل مننا يعز عليه السلاح.
- كلنا اتدربنا في المقاومة الشعبية..
- قول لها يا زين يا شحاتة..
- هو سي مصطفي لا سمح الله.. وش بيع طعمية وسجاير..
- كفاية بنشرب الشاي علي الأرصفة.. العمر واحد.. والرب واحد.. وصرخ الزين شحاتة.. - شيللاه يا غريب.. شيللاه يا غريب..
ونطقت نادية حسين في تهكم مرير
- وما تقروا الفاتحة علي روح الشيخ رمضان راخر..
وكانت تقصد ما رددته قبلا الحالة بهية علي مسمع من الباقين.. وهو أن أرتكانهم الدائم علي الصاروخ الذي أصاب رمضان في آخر ثانية.. انما يؤكد علي عكس ما يرجفون.. أن احتمالات الخطر أقوي من تصرفات القدر.. وبركات الأولياء والمشايخ.. وتلاحقت الأيام.. وتضخم عدد المهجرين.. وانشغل كل بملاقاة أهله وجيرانه من الذين تتابع وصولهم فرادي وجماعات.. ومع كل فوج جديد.. كانت الرغبة تتضاعف بين الرجال علي ضرورة العودة إلي السويس.. فليس بعد الاطمئنان علي مستقر الزوجة وحياة الطفل الا الجوع إلي مسقط الرأس ومنبع الرزق.
- عمار يا سويس.. دايما عمار بإذن الله.. نظرة يا سيدي الغريب وجاء فوج كبير قيل أنه سيكون الفوج الأخير.. وصادف أن كان بين أفراده.. بعض أقارب الحاجة زينب.. وأحد جيران مصطفي السويسي.. واسمه حسن الغريب.. كان قد سبق لهم أن هجروه.. ولكنه لم يطق البعد عن المدينة فارتد عائدا إليها..
- وحد تاني كان رجع معاك يا حسن؟!
- كنت أنا لوحدي اللي رجعت..
- ولقيت أيه هناك؟!
- مافيش شغل.. ولا فيه مطاعم.. المطاعم كلها قفلت !!
وضحك أغلبهم من كلام حسن.. فمن غير المعقول أن يكون هذا هو انطباعه الوحيد عن السويس.. ولم يحاول أحدهم أن يذكر بينه وبين نفسه ولا أن يتذكر من معرفته لحسن.. أنه كان يشتغل في مطعم.. ولكنهم انهالوا عليه بالأسئلة العديدة.
- وحضرتهم وهما بيطفوا النار؟!
- قعدت مشعللة في »الزيتية« تلات تيام بلياليهم.. وطالت المستعمرة كانت حتاكلها وتدخل علي بقية البلد.
أنا كنت باطفي معاهم بأيديه.
وأهتز عمك بركات فوق الشلتة وقبل أن يرشف من كوب الشاي سلط عينيه علي وجه حسن في أمعان فاحص.. وكانت عيناه تبرقان ويحيطهما كل مرة.
- أنت يا واد مش كنت ساكن في الغريب؟! جنب رمضان!
- ايوه!! بس رمضان.. الصاروخ أكل بيته..
- أمال لما رجعت كنت بتنام فين!
- مع رمضان وعياله..
وهب الجالسون في فزع حتي كادت رؤوس بعضهم تلمس سقف البدرون.. وتحرك الواقفون في وجل واضطراب.. وصرخ الشيخ ندا في وجهه صرخة عالية..
- بتقول أيه ياواد يا حسن! بتقول أيه!!
- كنت بتنام فين؟!
وأجابهم حسن اجابة القاتل في قفص الاتهام وكافة العيون في قاعة المحكمة مسلطة علي وجهه مثل كاميرات السينما.. والكل ينتظر اعترافه بالقتل..
- مع رمضان وعياله..
وكان من المحال أن يحتمل حسن الصرخات المدوية التي أنهالت عليه كالسياط..
- رمضان مين ياوله!!
- في الجنة ولا في النار!!
- أنت مخبول يا ابني؟!
- الواد الظاهر حصل عنده لطف!
- لا حول الله يارب!!
- أنطق يا حسن؟!
- رد ياوله!!
وتقدم منه زين شحاتة وراح يهزه من كتفيه..
- فتح ياواد واصحي لنفسك.. أنت مش عارف اللي جري لرمضان وعياله؟!
- عارف..
- أمال أزاي ياواد أنت كنت بتنام معاهم؟!
- يمكن قبل العدوان..
ولوح لهم حسن بيديه.. كما يلوح الابلة في غير اكتراث أو مبالاة.. مع أنه كان قائل الأسطورة..
- ليلة امبارح كنت نايم معاه هو وعياله في شاليه واحد.. كنا في شاليهات المصيفين اللي عند عتاقة.. هناك ناحية الجبل..
وفي الحال.. خرج الجمع.. النسا قبل الرجال.. وفي صحبتهم حسن.. واستأجروا ثلاثة تاكسيات.. وتوجهوا إلي محافظ الجيزة حيث قال حسن أنه ترك رمضان وأولاده هناك.. مع آخر فوج من أخوانهم المهجرين وصل بالأمس.. ولم يطل بهم البحث فقد كان رمضان جالسا.. وحوله العديد من السوايسة.. بأطفالهم ونسائهم وهو يروي لهم قصة نجاته ونجاة أولاده من الصاروخ اللعين.. ذلك أنه قبل أن يخرج في صباح وقوع الهجوم.. كان قد ترك لهم المفتاح تحت زجاج النافذة.. وأوصاهم إذا سمعوا غارة أو شاهدوا الضرب بمغادرة الشقة فورا واللجوء إلي الخلاء الواسع الفاصل بين المساكن وشريط السكة الحديد.. لكنه هو نفسه حين بدا هدير المدافع وازيز الطائرات.. نسي كل شيء عن المفتاح وخيل إليه أن المفتاح قد ضاع منه وأنه أغلق علي أولاده الشقة ليقتلهم داخلها..
وابتلع رمضان ريقه.. وهو يروي للعيون الشاخصة حوله بقية ما حدث.. حينما شك في ضياع المفتاح.. انطلق يجري في جنون لانقاذهم.. وكان كلما صادفه عائق.. رجلا أو امرأة أو حتي طفلا يعترض طريقه.. يروي لهم وهو يلهث والندم يعتصر قلبه.. اغلاقه لباب الشقة علي الاولاد.. ودفنه لهم بيديه وهم أحياء.. ولكن الذي حدث أن ألاولاد أنفسهم هم الذين انقذوه من الموت.. وكانوا مختبئين بين أكوام الرمل.. نادوه وهو يجري ناحية المساكن.. والصاروخ في طريقه إلي منزله.
- الصاروخ سبقني.. لكن الأولاد سبقوا الصاروخ ونادوني.. نفدت معاهم.. شفت البيت بيتطربق بعنيه.. وهما في حضني جوا الرمل.
- وبعدين يا رمضان!!
ولا قبلين.. نفدنا بمعجزة.. جريت علي عتاقة طوالي..
واحتمي بالجبل بقية النهار.. ولم يسمحوا له بدخول المدينة.. وأنما استبقوه في الشاليهات حتي أول أمس.. ثم جاءوا به مع بقية المهجرين إلي الجيزة.
- وبيتك يا رمضان؟! مارحتش بيتك!
- الصاروخ.. طيره.. في ستين داهية..
ولم ينفرط الجمع الملتف حول رمضان وهو جالس يروي قصة نجاته ونجاة أولاده من الصاروخ.
وانما كان بعض الرجال يحاولون أعطاءه من نقودهم.. والبعض يحاولون اعطاءه من سجائرهم..
والبعض الآخر يحاولون مده بما في أيديهم من طعام.. بينما التقت النساء حول ولده وبنتيه وتسابقن علي تقبيلهم واحتضانهم وكأنهم جميعا.. النساء والرجال.. يوفون ندرا من النذور التي تعودوا علي أن يوفوا بها لحاميهم.. وحامي رمضان.. وحامي السويس.. سيدي الغريب.. الفاتحة له.
أخبار اليوم
52/11/7691


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.