تعلمنا أحداث التاريخ أنه لا حق للضعفاء.. وأن الويل للمهزومين والمنقسمين.. وأن النصر للأقوياء حتى لو كانوا سفلة ومغتصبين.. ولا أعرف كيف تغيب تلك المقولات عنا مع انتشار حالة الارتباك التى يشهدها الشارع المصرى.. خصوصا فى ظل مطالبات فئوية لا تتوقف ومصادمات طائفية تنتقل من قرية صول إلى مسجد السيدة عائشة.. ومن التظاهر أمام الكاتدرائية إلى أحداث إمبابة.. ومن المطالبة بتحرير كاميليا إلى الدعوة لتحرير القدس.. هل معنى هذا أننا لم نتعلم أن بناء عناصر القوة والوحدة أقصر طريق لتحقيق النصر والكرامة الوطنية؟ أم أننا أدمنا السير فى الطريق الخطأ.. والقصة هنا طويلة ومريرة. عندما وقعت نكبة فلسطين اجتاح الصهاينة فرصة لا مثيل لها بقيام دولتهم.. وعاش الفلسطينيون أسوأ أيامهم.. وشعر ضباط الجيش المصرى بالغضب وبالمهانة الوطنية.. فى تلك الأيام البعيدة قال بن جوريون - قائد الحركة الصهيونية الفعلى فى فلسطين - لضباطه «ما تحقق لنا من نصر سببه أن أعداءنا العرب يعيشون فى حالة مزرية من الاختلاف والفساد». وانتشرت بين الضباط المصريين مقولة «لقد هزمنا شراتيك القاهرة» نسبة إلى شرتوك رئيس أركان القوات الصهيونية وفى إشارة إلى فساد نظام الحكم الملكى فى مصر.. وانتهى الأمر بقيام ثورة يوليو وانهيار الملكية.. وخلال العقود الستة الماضية انتقل الفلسطينيون من السكون إلى المقاومة.. ومن التفاوض والسعى لإقامة دولتهم إلى الانقسام.. وعاش المصريون أيام النكسة وأيام الانتصار.. وأيام السلام.. وجاءت الذكرى 63 للنكبة بعد مرور نحو أربعة أشهر على بداية اندلاع ثورة شباب التحرير.. والتى غيرت المناخ السياسى العام فى الشرق الأوسط.. ووجدنا أنفسنا أمام أربعة مواقف متباينة.. صدمة وقلق فى إسرائيل وتحرك سريع من قادة الفصائل الفلسطينية لإنجاز المصالحة.. وجهود مضنية بذلتها الدولة المصرية لتوقيع الفصائل على اتفاق المصالحة الفلسطينية.. وتهيئة الظروف للتحرك نحو إقامة الدولة الفلسطينية.. ثم دعوة شباب الثورة لمليونية فى ميدان التحرير يوم الجمعة 14 مايو لدعم القضية الفلسطينية.. شوشرت عليها أحداث إمبابة.. ومظاهرات أمام السفارة الإسرائيلية تطورت أحداثها مما استدعى تدخل قوات الأمن لتفريق المتظاهرين. باراك صدمة إسرائيل فرضت ثورة الشعب المصرى وغيرها من الثورات التى يشهدها العالم العربى حاليا واقعا إقليميا جديدا.. وانعكس هذا الواقع على مجمل الأوضاع الدولية.. وصنع الثوار المصريون عاصفة حاصرت إسرائيل وقال عنها وزير الدولة العبرية «إيهود باراك»: «إسرائيل تواجه إعصارا سياسيا».. وقال: «إن ما يحدث فى المنطقة العربية صدمة تاريخية.. إن كل شىء ينهار دفعة واحدة.. مع كل ما يتضمنه ذلك من أخطار وعدم استقرار ونكبات.. مؤكداً أن منطقة الشرق الأوسط صعبة ولا مكان فيها للضعفاء».. وسادت إسرائيل حالة من الصدمة والقلق لخصتها المحللة السياسية الإسرائيلية آمون آلون قائلة «إن العالم العربى ينقلب رأسا على عقب.. وكذلك إسرائيل ويكفى النظر إلى ما يحدث فى الشرق الأوسط لكى نفهم أننا لا نفهم شيئا». والأكثر من هذا أن العديد من التحليلات الإسرائيلية اتفقت مع ما قاله إيهود باراك من أن هناك حركة دولية للاعتراف بدولة فلسطين.. ولنزع الشرعية عن إسرائيل.. ووضعها فى حالة من العزلة التى وجدت جنوب أفريقيا نفسها فيها قبل إنهاء نظامها العنصرى».. وأشارت تلك التحليلات إلى أن وضع إسرائيل فى العالم سيئ للغاية.. لذلك دعت إلى تحريك عملية السلام وإعادة بناء الثقة مع الفلسطينيين.. لأن الوصول إلى وضع متأزم مع السلطة الفلسطينية سيقود المنطقة إلى توتر كبير.. هكذا فهم الإسرائيليون تأثيرات الثورة المصرية والثورات العربية.. التى دفعت الشباب الفلسطينى للخروج إلى شوارع الضفة وغزة مرددين هتافات: الشعب يريد إنهاء الانقسام.. بينما كانت بعض الشوارع المصرية تشهد أحداث الفتنة الطائفية.. والاحتجاجات الفئوية.. والمظاهرات العبثية. نتانياهو وفى استجابة سريعة للأحداث الجارية فى المنطقة العربية عقد مؤتمر هرتزيليا بداية من يوم 16 فبراير الماضى - والذى يضم عادة أهم العقول الاستراتيجية الإسرائيلية - وبدأ المؤتمر بالإعلان عن تراجع المناعة القومية فى إسرائيل، حيث أكد جبرائيل بن دور - الخبير فى هذا المجال - أن الدراسات أثبتت حدوث انخفاض جوهرى فى مستوى وطنية اليهود فى إسرائيل وتراجع استعدادهم للدفاع عن دولتهم.. وذلك بسبب الفجوات الاقتصادية بين الشرائح الاجتماعية.. وانتشار الفساد وأزمة القيادة وغيرها من المشاكل التى تواجه المجتمع الإسرائيلى.. ورأى إليكسب مونتس الخبير بمركز هرتزليا أن الزمن لم يعد فى صالح إسرائيل التى كانت تراهن على ضعف العرب وخلافاتهم.. وأوصى دانى روتشيلد رئيس المؤتمر بضرورة التحرك الإسرائيلى العاجل لإنقاذ الموقف واستباق التطورات المستقبلية فى المنطقة.. واتخاذ قرار حاسم بإنجاز صفقة مع الفلسطينيين قبل فوات الأوان. المصالحة الفلسطينية وبينما كانت شوارع القاهرة تشهد العديد من الاحتجاجات الفئوية أو الطائفية أو الارتجالية.. كانت الدولة المصرية تؤكد حضورها القوى فى العديد من القضايا الإقليمية وخاصة فيما يتعلق بالحقوق الفلسطينية.. وهو ما عبر عنه بوضوح وفد الشخصيات الفلسطينية المستقلة الذى عقد فى القاهرة سلسلة من الاجتماعات بدءا من يوم 10 أبريل الماضى مع المسئولين المصريين، حيث اجتمعوا مع د.نبيل العربى وزير الخارجية وبمسئولين فى جهاز المخابرات العامة المصرية.. كما التقى الوفد بالأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى.. وأكد الوفد على تقديره العميق لدور مصر القوى والمركزى الحاضن للقضية الفلسطينية.. والراعى للحوار الوطنى الفلسطينى.. والذى قطع شوطا طويلا بدءا من إعلان القاهرة عام .2005 ووثيقة الأسرى عام 2006 وحكومة الوحدة الوطنية 2007 وانتهاء بالورقة المصرية التى تمت على أساسها المصالحة الفلسطينية.. بالإضافة إلى تداعيات الثورة المصرية التى ألهمت الشباب الفلسطينى فخرج يهتف فى شوارع الضفة وغزة «الشعب يريد إنهاء الانقسام».. وفى ظل هذه المتغيرات كان من الضرورى استئناف الحوار الوطنى الفلسطينى الشامل وفق ضوابط حددها الوفد الفلسطينى بأن يكون محكوما بسقف زمنى قصير يتفق عليه.. وأن ينطلق من النقطة التى وصل إليها الحوار السابق.. وأن يرتكز لحوار على النقاط التى مازالت عالقة.. وأن يأخذ المستجدات والثورات العربية فى الحسبان.. وهو ما تم بعد ذلك بالفعل خلال لقاءات تمت فى القاهرة.. بيت العرب. وقد شكلت ورقة المصالحة التى أعدها رجال المخابرات المصرية اعتمادا على آراء كل الفصائل الفلسطينية وبعد موافقتها على الصياغة النهائية لها.. كما شكل محضر الاجتماع الذى جمع حركتى فتح وحماس فى القاهرة يوم 27 أبريل الماضى جوهر اتفاق المصالحة الذى وقعت عليه الفصائل.. واحتفل به يوم 5 مايو الحالى فى مقر المخابرات المصرية وبحضور رئيس والأمناء العاملين للفصائيل الفلسطينية.. وبدأ الاستعداد لتنفيذ اتفاق المصالحة الذى وقع برعاية مصرية بما يضمن تحقيق السلم الأهلى للفلسطينيين.. وإعادة بناء ما دمره الاحتلال.. والتحضير لإجراء الانتخابات خلال موعد أقصاه عام من توقيع الاتفاق.. وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية.. وتضمن الاتفاق توضيحات تخص ملفات كثيرة منها لجنة الانتخابات.. وتطوير منظمة التحرير وملف الأمن وغيرها.. ويمثل الاتفاق محصلة لما تم الاتفاق عليه فى دمشق «سبتمبر 2009» وفى غزة «أبريل 2010» بين حركتى فتح وحماس.. وأضيف إلى هذه النقاط ما ورد فى مبادرة الرئيس أبومازن التى أعلنها يوم 6 مارس الماضى والخاصة بإجراء الانتخابات المتزامنة وتشكيل حكومة الكفاءات الوطنية. ابو مازن ويشير النص الكامل لاتفاق المصالحة الفلسطينية - وما تضمنه من تفاهمات - بوضوح إلى الجهد المصرى الضخم الذى بذله رجال المخابرات المصرية.. فكل سطر فى هذا النص استلزم اجتماعات وتوافقات ومفاوضات مع كل الفصائل الفلسطينية.. وجاءت ثورة التحرير لتغيير المناخ السياسى فى الشرق الأوسط.. وتجد حماس نفسها فى وضع خطر فى سوريا.. وأكثر خطورة فى غزة ذاتها بعد خروج شباب غزة يهتفون فى شوارع القطاع مطالبين بإنهاء الانقسام.. هذا بالإضافة إلى الضغوط التى تعرضت لها دوليا وإقليميا.. وفى ظل كل هذا تخلت حماس وباقى الفصائل الفلسطينية عن تشددها.. وأمكن التوصل إلى اتفاق على ورقة التفاهمات التى وقعت بالأحرف الأولى يوم الأربعاء 27 أبريل الماضى.. وفى هذا المجال قال محمود الزهار القيادى فى حماس: «كان الترتيب أن نعقد جلسة قبل الغداء وأخرى بعده.. ونكمل فى اليوم التالى.. ولكننا أنهينا كل شىء بعد أربع ساعات فقط». خالد مشعل وفى النهاية يبقى السؤال: إذا كانت ثورة 25 يناير قد أصابت إسرائيل بالصدمة ودفعت الفصائل إلى المصالحة.. فلماذا لا تقودنا هذه الثورة فى اتجاه بناء عناصر القوة المصرية؟.. فالمظاهرات وحدها لا تحقق التقدم ولا تشعرنا بالكرامة الوطنية.. أو كما قال أحد قادة حماس: ليس بالمظاهرات وحدها نقيم الدولة الفلسطينية