هذا قول له معنى واضح، أن مصر هى مفتاح الشرق الأوسط، وحجر زاويته فى القضايا الكبرى، وقائل هذه العبارة ليس رجلًا عاديًا، بل ضابط فى المخابرات الإسرائيلية (الموساد) ل 38 سنة، حتى ترأسه من 2016 إلى 2021، بالطبع لم يقلها صراحة، فمن المؤكد أنها ثقيلة على قلبه وعقله، خاصة أن إسرائيل تحاول منذ بدء العشرينية الثانية من القرن الحادى والعشرين أن تعيد تشكيل الشرق الأوسط على هواها ومصالحها، وتمد خيوطها العنكبوتية بإصرار شرقا، تحت عنوان براق مخادع، هو الاتفاقات الإبراهيمية مع دول عربية لا حدود لها مع إسرائيل، ساعيةً أن تكون السيد الحاكم فى المنطقة، فكيف يقولها ومصر واقفة لها مثل اللقمة فى الزور، حتى إنها دون أن تنطق حولت «السلام الإبراهيمى» الذى اخترعه الرئيس الأمريكى فى ولايته الأولى إلى نكتة عارية، يمكن أن تضحكنا ونحن مطأطأون الرأس خجلًا من سوءتها. قائل العبارة هو يوسى كوهين رئيس الموساد السابق، صهيونى حتى النخاع، على شاكلة بنيامين نتنياهو، يريد سلاما مع العرب (الطيبين)، ويأخذ معه بعضا من أرضهم، ويحتفظ أيضًا بالأماكن المقدسة إلى الأبد، ويتوعد بأنه سيحارب من يناهض رؤيته لإسرائيل «بحرب كالجحيم»، مستندًا إلى وصف دونالد ترامب له حين التقيا ذات يوم فى واشنطن وهو رئيس الموساد: كيف حال أقوى رجل فى الشرق الأوسط؟! وقالها كوهين فى كتابه الصادر بالعبرية بعنوان: «الحيل تصنع لك حربًا»، وبالإنجليزية: «سيف الحرية.. الموساد والحرب السرية». الكتاب صدر قبل شهرين، وأفردت له الصحف العالمية والمواقع على شبكة الإنترنت وعلى صفحات التواصل الاجتماعى مساحات لشرح بعض الأحداث التى رواها والرؤى التى دافع عنها، وفسروا الكتاب وما رواه كوهين عن نفسه وزوجته وصهيونيته بأنه يقدم أوراق اعتماده إلى الجمهور الإسرائيلى، ليختاروه فى دور قيادى جديد، رئيس وزراء إسرائيل، ولم لا وهو يتمثل ثلاث شخصيات سياسية لها مكانة فى تاريخ الدولة العبرية، باعتبارهم المثل الأعلى والنموذج الذى سيمشى على خطاهم وهم: ديفيد بن جوريون مؤسس الدولة، وزئيف جابوتنسكى ومناحم بيجين مؤسسو اليمين الصهيونى. وطبيعى أن يلجأ كوهين إلى أحداث مخابراتية مثيرة صنعها وهو ضابط فى الخدمة، يسوق بها نفسه عند الإسرائيليين، لينتظروه على أبواب صناديق الانتخابات، فيستعرض عملية سرقة الأرشيف النووى الإيرانى فى عام 2018، كما لو كان يفسر لماذا نجحت إسرائيل فى ضرباتها الجوية للمواقع النووية الإيرانية فى يونيو الماضى، فهو الذى رسم خطتها من الألف إلى الياء، ويقول فى عبارات تدغدغ المشاعر: «كنت صبيًا يتخيل نفسه وكيلًا يتجسس بعيون صقر، وبخبث ثعلب، وبقدرة النمر على الوثوب وعندما يقوم بالمهمة، يتمتع بصبر القناص، وعفوية الساحر»! هذا خيال روائى يحاكى صورة «جيمس بوند» الجاسوس الماكر فائق الذكاء، الذى اخترعه الكاتب البريطانى إيان فيلمنج فى رواية «كازينو رويال» عام 1953، ثم كتب عنه بعدها 11 رواية متتالية، وختمها ب«الرجل ذو المسدس الذهبى» فى عام 1965، كان عمر كوهين وقتها أربع سنوات فقط! واختراق إسرائيل لأمن بعض الدول، خاصة التى بها جاليات يهودية كبيرة أو صغيرة له تاريخ قديم وتتسم بالسهولة، فالانتماء إلى إسرائيل غالب على عدد غير قليل من أعضاء هذه الجاليات المتناثرة فى أكثر من مئة دولة، ينفذون ما يطلب منهم بدقة ومهارة متوارثة، حتى فعلوها مع الولاياتالمتحدةالأمريكية نفسها، وإيران بها جالية تقدر ب25 ألف يهودى، يعيش أغلبهم فى طهران وشيراز وأصفهان. أى كان الحصول على «تفاصيل» المشروع النووى الإيرانى أو معلومات عن تحركات قادة الحرس الثورى فيغتالون فى طهران أو بغداد أو دمشق أمرًا ليس صعبًا، ويضرب كوهين مثلا بعملية اغتيال قاسم سليمانى بغارة أمريكية فى بغداد، وكيف ذهب بنفسه إلى واشنطن وأمدهم بمعلومات وفيرة جدًا عنه، فمنحوه ميدالية عرفان بالجميل. لكن عملية اختراق حزب الله اللبنانى كانت أصعب نسبيًا، ولا أصدقه فى أن الموساد اخترق الحزب أيام احتلال القوات الإسرائيلية جنوبلبنان، فسنوات المقاومة (1982-2000) صنعت حزبًا صلبًا متماسكًا موحدًا له قضية وطنية ملحة وهى تحرير التراب اللبنانى، لكن بعد إجبار إسرائيل على الخروج من الجنوب، انفتح المجال السياسى والاقتصادى على مصراعيه أمام رجال الحزب، وصاروا بحكم السلاح الذى يملكونه أصحاب سطوة ونفوذ، فتسلل إليهم فيروس المطامع والصراع على الثروة والسلطة، ليفتك بقيم الولاء للقضية، ومنا هنا دخل الموساد إلى النفوس الأضعف، واخترق الحزب عرضًيا ورأسيًا، وهى ما تدل عليه عملية انفجارات البيجر فى بضعة آلاف من أعضائه، واغتيال الكثير من قياداته بمن فيهم أمينه العام الرمز حسن نصر الله. أين إذًا مصر من كل هذا؟ تسطع مصر دورًا وقيمة فى مواجهة خطة تهجير الفلسطينيين من غزة، ويوسى كوهين هو صاحب الفكرة، بالرغم من انتهاء خدمته فى الموساد، وغلفها بإنسانية زائفة، أن تكون هجرة مؤقتة حتى يمكن تقليل عدد الضحايا من المدنيين الذين يسقطون فى الحرب دون ذنب سوى وجودهم فى أرض العمليات العسكرية، وقد وافق عليها مجلس الوزراء الإسرائيلى، وكلفه بأن يتحرك إلى عدد من الدول العربية، ليقنعها بالقبول، وفعلا سافر إلى عدة عواصم، وعندما أبدى عرب هذه العواصم تخوفهم من أن تكون الهجرة دائمة، كما لو أنهم موافقون على هجرة مؤقتة، عرض عليهم أن يأتيهم بضمانات دولية مكتوبة من خمس دول هى:أمريكا وبريطانيا والهند والصين واليابان، وبالفعل بدأ فى إجراء اتصالات بها للحصول على هذه الضمانات، المدهش أن ثلاث دول من هذه الخمس كانت تؤيد إسرائيل فيما ترتكبه من جرائم ضد الإنسانية فى غزة، وأتصور لو أن إسرائيل تراجعت عن وعدها وأغلقت أبواب العودة فى وجه أهل غزة، فلن تفعل هذه الدول شيئا، وقد تقبل الأمر الواقع وتدافع عنه. هنا ردت مصر بكل قوة وإصرار: لا.. وقال الرئيس عبدالفتاح السيسى إن التهجير خط أحمر، لن تقبله مصر بأى حال من الأحوال. فصار تنفيذ الخطة مستحيلا! وكلنا يتذكر حجم الضغوط التى تعرضت لها مصر طيلة عامين من الحرب، مكالمات كثيرة من قادة دولة أجنبية مع الرئيس السيسى، وزيارات ولقاءات تطلب: هل يمكن لمصر أن تفتح سيناء أمام الفلسطينيين ليفروا من الجحيم الإسرائيلى مؤقتا؟!، سؤال مسموم منقوع فى قطرة عسل! لم تبلع مصر خدعة يوسى كوهين، لأنها أدركت أن عبارة الترحيل المؤقت، تشبه الموت السريرى، مجرد «تصريح» إلى الرحيل الدائم. وظل الرد الحاسم مشهرًا: هذا يعنى تصفية القضية الفلسطينية، ولا يمكن أن نقبله! ولهذا حين يذكر كوهين اسم مصر فى كتابه، تتغير لغة الحكى، فهو يعرف أن ما تتخذه مصر من قرارات يرسم حدود طموح إسرائيل. فى المقابل تتعامل إسرائيل مع بعض الدول العربية من منظورين، إما ساحات نفوذ لها، أو شركاء مؤقتين فى علاقة قابلة للنمو. ويقول بالنص: مصر ليست دولة تُجر إلى هندسة إقليمية، بل هى دولة تحدد قراراتها إمكانية تحقيق هذه الهندسة. ولهذا حين حصلت إسرائيل على دعم الرئيس الأمريكى دونالد ترامب حتى تبنى خطة تهجير أهل غزة، وبناء ريفييرا فيها، لم تتقدم الفكرة خطوة واحدة إلى الأمام، بل العكس هو الذى حدث، مصر أقنعته بالتخلى عنها تمامًا، والبحث فى بدائل إيقاف الحرب نهائيا. باختصار وحسب اعترافات رئيس الموساد السابق، مصر هى التى أفشلت تهجير أهل غزة، حافظت على القضية الفلسطينية من مؤامرة التصفية. 1624