روت السيدة سميحة عبدالحميد الفقى، زوجة الفريق محمد سعيد الماحى ، بطولات زوجها وأحداث نصر أكتوبر العظيم التى عاشتها وكانت جزءًا منها هى وأسرتها. تعود السيدة الفقى بالذاكرة لتفخر بمصر وقادتها ورجالها الذين ضحوا بأرواحهم لكى تحيا مصر حرة مستقلة، وتشعر بلذة الفخر بالنصر الذى مر عليه سنوات طويلة وكأنه اليوم والأمس. قالت الفقى إنها أنجبت 3 بنات وولدًا، وكانت أصغر بناتها تبلغ من العمر 12 عامًا قبل حرب أكتوبر، تضيف أن الماحى حلم بصناعة التاريخ، فالتحق بالكلية الحربية عام 1939، وتخرج منها فى يونيو 1942 ضابطًا فى سلاح المدفعية، حاملًا فى قلبه وعدًا بأن تكون مدافعه صوت الوطن. «مدافع النيل.. اضرب» أضافت الفقى أن الماحى كان قائدًا يمتزج فيه الهدوء العجيب بالدقة القاتلة، ورغم قلقها وخوفها على حياته، إلا أنها اعتادت على غيابه ووجوده فى العمليات لفترات طويلة. وتذكر أن لديها خلفية تاريخية عسكرية لأن والدها أيضًا كان ضابطًا، وتتابع: «كنا نخاف أيضًا ونقلق على البلد وندعو له بأن يرجع سالمًا وبيده النصر». لقد خاض الفريق الماحى غمار حرب فلسطين عام 1948، حيث ذاق مرارة القتال وصقلت تجاربه روحه، وبعد ثورة يوليو 1952، جاب الميادين فى اليمن وسوريا خلال الوحدة، يزرع بذور الخبرة التى ستزهر فى يوم النصر، وفى يوليو 1971 عندما تولى قيادة سلاح المدفعية، بدأ الماحى فى حياكة خطة عبقرية كما لو كان نساجًا يصوغ من خيوط الصبر والدقة تحفة عسكرية. كان يعمل فى صمت يرتب المدافع ويدرب الرجال كفنان يحضّر لوحته الكبرى. وعندما أشرقت شمس السادس من أكتوبر 1973، وقف الماحى كالمايسترو، يقود أوركسترا من النيران، وأمر بكلماته الحاسمة: «مدافع النيل.. اضرب»، وفى لحظات انطلقت أكثر من 11 ألف قذيفة بمعدل 175 قذيفة فى الثانية، لتحيل سيناء إلى جحيم يذيب صلابة خط بارليف. لم يكن هذا مجرد قصف، بل كان سيمفونية مدروسة، نسج خيوطها الماحى مع العميد منير شاش والعميد محمد عبدالحليم أبو غزالة. أصابت خطتهم أكثر من 2000 هدف بدقة مذهلة، وفتحت ثغرات فى حصون العدو، ومهدت لعبور الدبابات والمشاة، وبفضل الإخفاء والتمويه، ظلت مدافعه بعيدة عن عيون العدو، تضرب كالصاعقة وتختفى كالظل. خطة أذهلت العالم كانت خطته تحفة عسكرية، دراسة دقيقة لكل نقطة فى خط بارليف، حيث سجل رجاله كل تحصين وكل ضعف، واختاروا الأسلحة بعناية لتدميره لمدة 53 دقيقة، بدأ التمهيد النيرانى فى الساعة 14:05، ليمهد لاقتحام القناة، ويضرب النقاط القوية وبطاريات العدو ومراكز قيادته. أسكتت مدافعه 90% من نيران العدو، وحولت شرق القناة إلى ممر آمن، بينما كانت طائرات مصر تعبر السماء ومجموعات اقتناص الدبابات تتقدم لتحتل مصاطب العدو الترابية، مكبدة إياه خسائر فادحة. ولم يتوقف دور المدفعية عند العبور، ففى الأيام التالية واصلت دعم القوات وصد الهجمات المضادة، وتأمين رؤوس الكباري. فى معركة الدبابات الكبرى يوم 14 أكتوبر، قادت المدفعية هجومًا بنيران 500 مدفع، مع مقذوفات موجهة مضادة للدبابات أذهلت العالم، أبطال مثل محمد عبدالعاطى، الذى دمر 23 دبابة، وإبراهيم عبدالعال، الذى أسقط 18، كتبوا ملاحم البطولة، وحتى عندما حاول العدو اختراق ثغرة الدفرسوار، واجهته المدفعية بنيران لا ترحم، جعلت قادته يتوسلون إلغاء العملية. وتابعت الفقى أن الفريق الماحى كان طبيعيًا جدًا، فلم يتغير فى طباعه ونظامه اليومى قبل الحرب، وكان دائمًا يقول: «سنحارب بإذن الله»، لكنه لم يقل أى شيء آخر. «أبوكم بطل» تتذكر الفقى يوم 5 أكتوبر حيث كان الماحى فى البيت ولم يخبرها بأى شيء، وفى يوم 6 أكتوبر نزل كالمعتاد وعرفت خبر الحرب من التليفزيون، حينئذ كانت فى حالة ذهول لا تعرف ماذا سيحدث، تضيف أنه لم يتحدث معها لمدة أسبوع أو أقل، لكن كان هناك بعض الاتصالات من مكتبه ليطمئنوا عليها ويسألوا إن كانت تحتاج أى شيء، لكنها لم تكن تستطع إيصال أى رسائل أو أخبار عنه. وبعد الحرب بأسبوع اتصل ليطمئنها، وكان الصوت بعيدًا جدًا. وعن مسئوليات البيت والأولاد وسط القلق والخوف عليه، قالت: «ربنا دائمًا يعين، خصوصًا وأنا فاهمة أن هناك مسئوليات يجب أن يقوم بها، وأنا أيضًا يجب أن أقوم بواجبى ومسئولياتى تجاه بيتى وأولادى، كنت أقول للأولاد: «نتوكل على الله وما فيش فى أيدينا حاجة نعملها ولازم ندعى ربنا»، ودائمًا كنت أقول لهم: «أبوكم بطل» رغم أنى كنت خائفة عليه». «الصامت الرهيب» قالت الفقى إن الفريق الماحى كان كتومًا لا يحكى عن أى شيء حصل أبدًا، لكنه كان دائمًا يقول: «أولادنا أبطال والجندى المصرى شجاع يضحى بنفسه فداءً لمصر». وأضافت: «أنا من عائلة عسكرية اعتدت على ظروف السفر وغياب الزوج والأب وكنت أنا التى تتولى مسئوليات الأولاد وحدى أثناء غيابه، وأفتخر بأنى إحدى زوجات أبطال الحرب. نعيش ذكريات جميلة عن احتفالات 6 أكتوبر كل سنة. وأغنية «بسم الله» دائمًا تأتى فى بالى فى ذكرى الحرب». وتابعت الفقي: «أحب أن أقول للشباب إن الواحد يضحى بكل حاجة فى سبيل البلد، وأقول الحمد لله إننا بخير وإنك فخر لنا وللعائلة كلها. وكمان أحب أن أقول لأحفادى برغم السنين الطويلة دى الناس كلها لسة بتتكلم على جدو وبطولاته وكلنا نفتخر به». «أقول لهم خليكم زى جدكم، اعملوا بضمير وإخلاص ولازم يكون عملكم له تأثير كبير، فالرئيس السادات كان يقول عن جدكم «الصامت الرهيب» لأنه كان قليل الكلام، ولكن شغله وبطولاته وعمله لها أثر عظيم، فالمهم العمل بإخلاص وتفانٍ وبدون ضجة ومظاهر». بعد النصر لم يتوقف الماحى عن العطاء. رُقّى إلى رتبة فريق وقتى فى يونيو 1974، وتقلد مناصب كبير الياوران، ثم رئيس المخابرات العامة من 1978 إلى 1981، حيث عمل فى الخفاء كعادته، ثم أصبح محافظًا للإسكندرية حتى تقاعده عام 1982. طوال حياته، حصد أوسمة كثيرة، من نوط الجمهورية إلى وسام النجمة العسكرية، تقديرًا لأربعين عامًا من العطاء. حتى رحيله فى يونيو 2007 عن عمر يناهز 85 عامًا، ظل الفريق الماحى رمزًا للهدوء الرهيب، وقائدًا نقش اسمه فى سجلات التاريخ، وخططه تدرس فى أعرق الأكاديميات، كانت مدافع النيل، التى قادها ببراعة، شاهدة على عبقرياته، وصوتها لا يزال يتردد فى أروقة النصر العظيم. وأكدت الفقى أن الفريق الماحى كان طيب القلب وحنونًا يحتوى من حوله، ومعروف عنه فى الجيش والمخابرات وفى الإسكندرية أنه كان يهتم بأولاد الشهداء، وبعد رحيله أيضًا فوجئوا بناس كثيرين لا يعرفونها كانت تحكى لهم مواقف كثيرة تظهر أن الفريق الماحى وقف بجانبهم وساعدهم وكان سندًا وأبًا لهم سواء المصابين أو أولاد الشهداء.