بعد 22 عامًا خلف جحيم سجون إسرائيل، يعود للحياة حاملًا معه ذكريات عقود من الصمود والعزيمة، تعكس صمود شعب وتضحياته التى تخطت المستحيل، حيث استطاع أن يحول جدران السجن إلى فصول فى التعليم والمقاومة، ولم يكسره استشهاد ابنه الأكبر أو سجن ابنيه محمد ومحمود معه، ليصبح أحد جنرالات الصبر والصمود كوقوف أشجار الزيتون وشموخ جبال فلسطين. حول طفولته وبداية الانضمام للمقاومة يقول الأسير المحرر وأحد قادة حركة فتح خالد خديش، إنه منذ بداية سنوات الطفولة قام بالانضمام إلى أشبال العمل الاجتماعى فى مخيم بلاطة بنابلس، والتى كانت نشيطة على المستوى الاجتماعى بشكل عام، وكانت هناك أنشطة مثل تنظيف الشوارع ومساعدة الناس فى بعض أعمال البناء بجانب الذهاب فى رحلات إلى الأراضى المحتلة سنة 1948 كمدينة عكا عروس فلسطين، وغيرها من المدن القديمة، وممارسة أنشطة اجتماعية بها. .. كما أننى نشات فى عائلة وطنية كان علمها ورأس حربتها الوالد الحبيب والأم الغالية، أم أحمد، التى كانت تواجه همجية ووحشية جنود الاحتلال وتخلص الشباب من بين أيديهم، بجانب إطلاق الحجارة عليهم وخاصة من فوق البيت لأن بيتنا محاذٍ للشارع الرئيسى لمخيم بلاطة. كما أن أمى كانت تعشق حب الوطن والأغانى الفلسطينية وتزين ملابسها بألوان العلم الفلسطينى وكنا فى البيت برفقة إخوتى نعيش بروح معنوية مرتفعة إلى عنان السماء لسماع صوت الثورة الفلسطينية الذى كان يبث كما أعتقد من القاهرة، إضافة إلى مجلة البيادر السياسى التى حررها المرحوم جاك خزمو. ومن هذه المجلة تعرفت عن قرب على الشخصيات القيادية للثورة الفلسطينية والفهم الحقيقى للعمل الثورى بدعم من شقيقى الأكبر محمد.. ومن هنا بدأ تشكيل شخصيتى الوطنية دون أن يكون هناك مستوى وعى معين سوى أن هؤلاء الصهاينة أعداء يحتلون أرضنا ويجب مقاومتهم بكل الوسائل. وعن بداية مقاومة الاحتلال فى سن مبكرة يضيف الأسير المحرر خالد خديش: كنت طالبًا كأى شاب فلسطينى متيم بالمشاركة بالمظاهرات وضرب الحجارة وإشعال الإطارات بهدف إزعاج العدو وصده، وذلك فى عدة مناسبات وطنية منها يوم الأرض وذكرى مذابح صبرا وشاتيلا، وغيرهما من المناسبات التى كانت تحدث على أرض فلسطين، إضافة إلى محاربة أتوبيسات ايجيت التابعة لشركة إسرائيلية وكنا نرمى عليها الحجارة لكى لا تدخل المخيم. بجانب طبع المنشورات التى تحتوى على معانٍ ثورية وتهديدات لكل من يحاول التعرض لمن يضرب الحجارة على اليهود أو على الجنود الإسرائيليين، مع توزيع المنشورات على من يهددون من يقاوم الاحتلال وشاركت بتحضير زجاجات حارقة كنا نلقيها على سيارات العدو الصهيوني، وفى إحدى المرات أحرقنا شاحنة إسرائيلية، وعلى أثر ذلك تم اعتقالى وبدأت مرحلة جديدة فى حياتي. وحول تفاصيل أول اعتقال للأسير المحرر، أبوالعبد، خالد خديش قال لقد تحولت من مرحلة الحياة والعمل فى ظل الحرية إلى مرحلة الاعتقال والانفصال عن الواقع وعمل المقاومة المباشرة ضد العدو، وكان ذلك فى يناير 1986 وتم الحكم عليَّ بأربع سنوات بسبب صغر سنى وهى مرحلة فارقة فى حياتى، حتى تم الإفراج عنى فى يناير عام 1990، لكى أبدأ مسيرة حياة جديدة، هى استمرار لما بدأته وخاصة بعض الأشهر الأولى للإفراج عنى حيث كنت من القوات الضاربة فى مخيم بلاطة وقمنا بنشاط ميداني واجتماعي فى المخيم ومحيطه وممارسة أنشطة متعددة لها علاقة ببرنامج الانتفاضة الأولى إلى أن تم اعتقالى مرة أخرى فى نفس العام فى نوفمبر 1990 ونلت حكمًا بالسجن ستة أشهر. ويؤكد خالد خديش أن انضمامه لحركة فتح منذ الصغر ساعده فى تولى مناصب قيادية، وأنه بعد الإفراج عنه فى مايو 1991 استمرت حياته بشكل طبيعى دون الانضمام إلى أى لجان متخذًا لنشاطه جانبًا سريًا «شكلنا جهاز الضبط والردع الفتحاوى لمحاربة الظواهر السلبية، إلى أن جاءت السلطة الوطنية الفلسطينية على خلفية مشروع أوسلو والتى أدت إلى أن يكون ممارسة العمل الوطنى والميدانى والتنظيمى مختلفًا عن السابق».. المعنى أنه أصبح من الممكن العمل بشكل واضح ومعلق، وكانت البداية الأكثر دقة فى التجربة حين تم عقد أول مؤتمر حركي «فتحاوي» له علاقة بالانتخابات الحركية الرسمية فى مخيم بلاطة، وحضره العديد من الإخوة أعضاء اللجنة المركزية، ومجد ثورى فتح كان أبرزهم الأخ أبوجهاد العلول وهانى الحسن وحكم بالعاوي، وفى هذا المؤتمر أجريت عملية انتخابات حضرها أكثر من 500 وكان من نتائجها أن تم اختيارى أنا والعديد من الإخوة أعضاء لجنة منطقة كما تسمى لدينا فى النظام الحركى والتنظيمي، وتم اختيارى لأكون النائب لأمير الحركة الأخ أبوتحرير ، وهذه كانت أول لجنة تنتخب بشكل شرعى عبر مؤتمر حركى رسمى فى داخل الضفة الغربية، ثم أصبحت أمين سر حركة فتح لقيادة اللجنة فى المخيم فى ظل ظروف صعبة كان أبرزها وأهمها ظهور الانتفاضة الثانية، وحصار مخيم بلاطة لمده 18 عاما وكانت فترة حرجة ومرحلة اختبار حقيقى لقوة المخيم وثباته. ويعتبر القيادى بحركة فتح بأن المرأة الفلسطينية منارة الكفاح الوطنى، وهى المصدر الأساسى لكل مناضل وجرس الإنذار فى ساحة النضال والمقاومة الفلسطينية، فالمرأة الفلسطينية مصدر إلهام ومنبع رعاية ودعم للمقاومة والمواجهة مع المحتل، وهى كانت حاضرة تاريخيًا فى جميع الميادين الثقافية والأكاديمية والوطنية والاجتماعية وحتى العسكرية، وغيرها، لتمثل عنوانًا بارزًا للعطاء والتضحية والشهادة وأداء الواجب والانتماء، وكل التحية للمرأة. ويصف الأسير المحررخالد خديش، بأن اعتقال ابنه محمد المتكرر ترك أثرًا كبيرًا داخله، والمره الأولى لاعتقاله كان صغيرًا وكان ذلك صعبا لعلمى بمدى صعوبة السجن، ولكن هذا الألم وهذا التأثر تحول إلى تجربة إيجابية تعلمنا منها العديد من الأمور، أهمها أنى استطعت التعرف على ولدى وأن ما حدث معه نفس ما حدث مع الأب، ومن خلال هذه العلاقة أدركت أنى لا بد من التأثير فى وعيه وسلوكه، وأن أنتزع من لسانه كلمة أبى لأنه هذه الكلمة أنا لم أتعود عليها فترة السجن، وأيضا اعتقال محمد تكرر أكثر من مرة لممارساته ونشاطات الوطنية ضد العدو، كان الأكثر تاثيرًا وإلهاما، والاعتقال الأخير جاء برفقة أخيه محمود، وأيضا ابن عمهم مجاهد، لنعيش جوًا عائليًا. كما أكد القيادى بحركة فتح خالد خديش أن 22 عاما فى الاعتقال لم تكن سهلة بتاتا، فهى سنوات عجاف وصعبة جدا، خاصة فى بدايتها، حيث كانت العلاقة مع إدارة السجون علاقه ندية، وكنا فى رعب دائم ومشاكل مستمرة مع حالات قمع واعتداءات وضرب وتفتيش ليلى ونهاري، ومنع وسوء فى الأكل والتعامل والرعاية الطبية وكل حياة الأسرى إلى أن تمكنا كحركة أسير من استنهاض أنفسنا وتوحيد كلمتنا والبدء بخطوات لتحسين أوضاع السجون، وفعلا تم البدء بشكل فعلى فى هذه الفترة رغم صعوبتها، حيث بدأنا فى ممارسة بناء الذات ثقافيًا وأكاديميًا تحديًا للواقع والقيود اللى كنا نعيش فيها، كما أن العلاقة مع السجان كانت متشعبة الأوجه والسياسات المختلفة، ولكن المهم هو الجانب المضيء لحركة الأسير التى خاضت إضرابات ومواجهات عدة مع إدارة سجون الاحتلال وجنود الطغاة والحاقدين، وكانت العلاقه مع السجان علاقة معقدة وكانت تأخذ منحى المد والجزر، وكانت تعتريها صبغة التوازن بالمصالح. وحول معاناة الأهل أثناء الزيارة للسجون، قال الأسير المحرر خالد خديش إن الأهل هم الوحيدون الذين يستطيعون وصفها لأنهم من ذاق مرارها وألم وشدة السفر والحواجزوالمعابر والتعامل السلبى والسيئ اثناء نقلهم فى السيارات والاتوبيسات التابعة للصليب الأحمر، سواء كان تأخرهم فى ساعات طويلة من الليل حتى يصلوا البيوت أو تأخرهم أثناء دخولهم لزيارة أبنائهم وخضوعهم لتفتيشات مذلة ومهينة وأحيانا تعرضهم للضرب والاعتداء من قبل بعض الجنود الحاقدين أو السب، وأحيانا كان الأمر يتعلق بمنعهم من إدخال الملابس، وهو ما كان يؤثر بشكل سلبى على الأسرى وعلى الأهالي. كما أن السجون الإسرائيلية تعج بالإخوة القياديين من جميع الفئات والمستويات التنظيمية والحركية والحزبية، ومن كل التنظيمات طبعًا، ومن أبرز من قابلتهم بالسجن عبدالناصر عيسى والأخ مروان البرغوثى وأحمد سعدات وعباس السيد وائل الجاغوب والصديق ناصر عويس وحسام شاهين ونهاد صبيح ومنصور شريم وأبو ربيعه، ومع فهم معاهدة الصراع مع العدو بشكل دقيق، ومن ثم تطوير التجربة التنظيمية بشكل أفضل، وحصولى على شهاده البكالوريوس فى الخدمة الاجتماعية والإعداد للماجستير. ولا أنسى لقاء أمى، كانت لقاءاتنا قليلة بسبب غيابى الكبير والطويل عن البيت والانشغال فى أمور العمل التنظيمى الوطني، ولكن كانت تدعو لى باستمرار وكانت تؤمن بقدرى ومصيري. وحول لحظة الإفراج عنه، يتذكر الأسير المحرر خالد خديش أنها كانت مليئة بالشك والخوف، وكان أهم شيء بالنسبة له وقت الإفراج عنه هو التخلص من العذاب والضرب والإهانات التى كان يتعرض لها من جنود الاحتلال، سواء كان فى الأقسام التى كنا ننتظر بها أو حتى أثناء نقلنا عبر سيارات والضرب من خلال الجنود الصهاينة النازيين الذين اتخذوا معنا كل طرق الإهانة، وبذلوا كل ما بوسعهم ليسيئوا لنا نفسيًا وجسديًا وأخلاقيًا، كان البحث عن الخلاص هو أهم بكثير من أن نتنسم وأن نشم راحة الحرية حتى فى لحظة التسليم للاخوان المصريين، أما اللحظة التى شعرت فيها بنسيم الحرية الحقيقى فكانت عندما خرجت من الفندق دون أى رقابة من أى أحد. وعن رؤيته للموقف العالمى تجاه القضية الفلسطينية والموقف المصري، أكد الأسير المحرر والقيادى بحركة فتح خالد خديش أن الجميع أصبح يلاحظ هذا التغير الدولى تجاه فلسطين بداية 7 أكتوبر، وأن الجماهير والشعوب العالمية متقدمة فى موقفها وسلوكها اتجاه التضامن مع الشعب العربى الفلسطينى وخاصة مع شعبنا فى غزة وهوموقف متقدم جدًا على مواقف الجماهير العربية هذا له علاقة بالثقافة والتربية، وأيضا فى طبيعة القيم التى تمتلكها وتؤمن بها هذه الشعوب. وعلى سبيل المثال طلاب الجامعات الأمريكية الذين انتفضوا وقاموا باحتجاجات كبيرة، كان لها الأثر الكبير فى إغلاق جامعة تابعة للجامعة العبرية الإسرائيلية فى ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وهولندا، وفى دول أوروبية عديدة تخرج الشعوب ما زالت تخرج فى الشوارع رافضة الاعتداء والقتل والدمار والذبح الموجود فى غزة. وقال إن الموقف المصرى -تاريخيًا- وعلى مدار معاناة الشعب الفلسطينى ومواجهته مع الاحتلال كان متقدمًا مع متطلبات الشعب الفلسطيني، وخاصة موقف الرئيس السيسى من رفض التهجير القسرى منذ بداية الحرب وإطلاق نداء كبير فى غزة، وأعتبره أمرًا خطيرًا يضر بمصلحة الوطنية الفلسطينية، وأيضا الأمن القومى المصري. ويختم الأسير المحرر خالد خديش حواره برسائل إلى أسر الأسرى وأحرار العالم، بمطالبة أسر الأسرى المحررين أن يكونوا على قدر الأمانة والوفاء لدماء الشهداء، قائلا إن أهلنا فى غزة يقدمون تضحيات لكى نكون نحن خارج السجون، أما بخصوص إخوانى الأسرى داخل السجون فأدعو لهم بالثبات وأن يحفظهم الله من اعتداءات وإجراءات العدو الطاغية، وأتمنى لهم عبير الحرية كما تنسمناه نحن خارج هذه السجون. وأرجو من الأحرار فى العالم كله أن يستمروا فى نضالهم وخروجهم إلى الشوارع ومناشدتهم لدولهم وحكوماتهم وبرلماناتهم بأن يقوموا بدعم القضية الفلسطينية والمطالبة بإقامة الدولة الفلسطينية عربية حرة على أرض فلسطين، ومنع الاحتلال بممارساته البشعة والدموية فى غزة وهذا واجب على أحرار العالم فى كل مكان.