لا تزال أصداء الضربة الصاروخية الإيرانية على إسرائيل مطلع أكتوبر الجارى تتردد فى أروقة الحكومة الإسرائيلية، وبين دراسة الرد المناسب كما أعلنت حكومة نتنياهو مرارًا وتكرارًا، وبين رفض الولاياتالمتحدة توسيع نطاق الصراع فى الشرق الأوسط، وحث تل أبيب على القيام بعملية محدودة بعيدًا عن المنشآت النفطية والنووية الإيرانية، تترقب منطقة الشرق الأوسط بحذر نهاية لا تبدو قريبة لعمليات ثأر مجنونة بين طهران وتل أبيب. الجدل الذى تزامن مع إطلاق الصواريخ الإيرانية تجاه أهداف فى إسرائيل، تخلله الكثير من السخرية من بعض المسئولين الإسرائيليين؛ حيث وصفت العملية بأنها أقرب إلى لعب الأطفال أو «بمب العيد»- تلك الألعاب النارية الاحتفالية الصغيرة التى يستخدمها الأطفال ولا تسبب ضررًا يُذكر. بينما انطلقت تساؤلات حول ما إذا كانت الضربة مجرد مناورة رمزية من إيران، وتمت وفق ترتيبات دبلوماسية أمريكية لحفظ ماء وجه جميع الأطراف؛ خصوصًا بعد مقتل حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، وإسماعيل هنية، الزعيم السياسى لحركة حماس، وعدد من قادة الميليشيات المدعومة من إيران، ولمنع دخول المنطقة فى أتون حرب لا تحمد عقباها. موقف البنتاجون المتحدث باسم البنتاجون، أضاف طبقة أخرى من الغموض على تلك الضربة؛ حيث أكد أن التنسيق المسبق بين الأطراف المختلفة فى المنطقة ساهم فى منع وقوع خسائر مادية أو بشرية فى إسرائيل بسبب الضربة، ما قد يعنى ضمنيًا أن إسرائيل علمت مسبقًا بالضربة، وتم التنسيق مع الولاياتالمتحدة لضمان عدم حدوث أضرار جسيمة! وتشير الوقائع على الأرض إلى أن إسرائيل لم تتأثر بهذه الضربة بالشكل الذى توقعه البعض، وكونها رمزية فقط من جانب إيران، لا ينفى احتمالية سعى الأخيرة لإرسال رسالة سياسية أكثر من كونها ضربة عسكرية، لتجنب ردود الفعل الدولية العنيفة، مع الحفاظ على موقفها العدائى تجاه إسرائيل. بينما تعاملت تل أبيب مع الأمر ببرود نسبى مكتفية بالتصريحات الإعلامية التى تقلل من أهمية الضربة، بهدف عدم تصعيد الموقف إلى مستوى أعلى، وتوجيه رسالة مفادها أن قوتها العسكرية والتقنية تجعلها فى مأمن من أى تهديدات إيرانية. التوافقات غير المعلنة التفاهمات غير المعلنة بين جميع الأطراف ربما تفسر سبب عدم حدوث تصعيد عسكرى مباشر من الطرفين عقب الضربة الصاروخية، وربما يكون هذا النوع من التفاهمات هو ما يمنع حتى الآن نشوب حرب شاملة فى المنطقة؛ حيث تسعى جميع الأطراف إلى تجنب كارثة أكبر. ومع ذلك؛ فإن مثل هذه التفاهمات قد تكون هشة للغاية، وتحتاج إلى توازن دقيق بين جميع الأطراف، ولا تعنى بأى حال من الأحوال عدم التصعيد الإسرائيلى ضد إيران سواء كان عسكريًا أو سياسيًا. إيران طلبت موافقة أمريكا صحيفة تايمز البريطانية نشرت أن إيران أخطرت الولاياتالمتحدة مسبقًا بأنها تنوى شن هجمات صاروخية على إسرائيل، لكن دواعى ذلك لا تزال غامضة، وقالت إن إسرائيل عندما تضرب لا توجه تحذيرًا مسبقا، واعتبرتها أفضل استعدادًا، وحتى عندما كانت الولاياتالمتحدة تحذر العالم من أن وابلاً من الصواريخ الباليستية فى طريقه إلى إسرائيل، دوت صافرات الإنذار فى جميع أنحاء البلاد وضجت الهواتف المحمولة بالرنين عالى النبرة الذى يحث سكانها البالغ عددهم 10 ملايين نسمة على اللجوء إلى المخابئ والغرف الآمنة، أما بالنسبة لسكان وسط إسرائيل وتل أبيب؛ فإن صافرات الإنذار تشكل بحسب الصحيفة البريطانية مصدر إزعاج أكثر من كونها سببًا للذعر، فالهجمات الصاروخية من حركة حماس فى غزة فى أوقات التوتر، كما هو الحال الآن، هى حدث متكرر إن لم يكن يوميًا. وأضافت الصحيفة إن معظم السكان يثقون فى الدرع الصاروخى الإسرائيلى المعروف باسم القبة الحديدية، الذى أبقى الخسائر فى صفوف المدنيين عند الحد الأدنى فى هذه الجولة من القتال مع الفلسطينيين، لكنها قالت إن الهجوم هذه المرة كان يمكن أن يكون أكثر خطورة. فهناك فرق كبير بين صاروخ باليستى متوسط المدى والصواريخ المصنوعة يدويًا التى تطلقها حماس، فالصاروخ الباليستى يستغرق 12 دقيقة للوصول من إيران إلى إسرائيل، مقارنة بنصف ساعة لصواريخ كروز والصواريخ الأخرى. ونقلت تايمز عن تقارير متعددة زعمها أن السبب الذى جعل الولاياتالمتحدة قادرة على إصدار تحذيرها لإسرائيل هو أن إيران أبلغت واشنطن وموسكو مسبقا بأن الصواريخ وشيكة، وتشير تلك التقارير مجتمعة إلى حدوث ارتباك فى طهران، وهو أمر متوقع بعد الضربات المدمرة التى تلقتها مؤخرًا لمعنوياتها ومكانتها بين حلفائها. ووفقًا للصحيفة، فإن إيران آثرت انتهاج سياسة الصبر الاستراتيچى بدلا من شن حرب فورية، وذلك عقب مقتل قائد فيلق القدس فى الحرس الثورى الإيرانى قاسم سليمانى فى يناير 2020، والذى كان يدير شبكة الميليشيات الإيرانية بالوكالة فى جميع أنحاء الشرق الأوسط، وأيضًا اغتيال العميد محسن فخرى زادة، رئيس البرنامج النووى الإيرانى، فى نفس العام. الهدف على المدى الطويل ذكرت تايمز أن مستشارين سياسيين لنظام طهران- لم تسمهم- أوضحوا للصحفيين أن هدف إيران على المدى الطويل هو جر إسرائيل إلى صراعات متكررة مع جيرانها، إلى أن تتسبب الضغوط الداخلية والخارجية فى نهاية المطاف فى انهيارها من الداخل، وكانت الصحف الإسرائيلية قد كشفت أن وسطاء دبلوماسيين مع الغرب حذروا طهران من أن إسرائيل قد تكون مستعدة للقيام بالشىء الوحيد الذى يعتقد معظم المراقبين أنه سيدفع إيران إلى التحرك، وهو هجوم عسكرى مباشر على بنيتها التحتية الرئيسية، وعلى الأخص المواقع المرتبطة ببرنامجها النووى، وهو رد من الممكن أن يكون مدمرًا للمنطقة بأكملها. الهدف الإسرائيلى فى إيران ما يشيع بعض الاطمئنان أن الجنون الإسرائيلى لن يصل إلى ضرب النووى الإيرانى، وهو ما نشرته صحيفة واشنطن بوست؛ حيث أبلغ رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو الإدارة الأمريكية استعداده لضرب المنشآت العسكرية وليس النفطية أو النووية فى إيران، ووفقا للصحيفة استعد الشرق الأوسط فى الأسبوعين الماضيين اللذين أعقبا الهجوم الصاروخى الإيرانى على إسرائيل؛ خوفًا من أن تنفجر الحرب الخفية التى استمرت عقودا بين البلدين لمواجهة عسكرية مباشرة، فى وقت سياسى محفوف بالمخاطر بالنسبة لواشنطن، قبل أقل من شهر من الانتخابات الرئاسية، وقال الرئيس چو بايدن علنا إنه لن يدعم ضربة إسرائيلية على المواقع النووية الإيرانية. وأوضحت الصحيفة أنه عندما تحدث بايدن ونتنياهو فى أول مكالمة بينهما منذ أكثر من سبعة أسابيع وبعد أشهر من التوترات المتصاعدة بين الرجلين، قال نتنياهو إنه يخطط لاستهداف البنية التحتية العسكرية فى إيران وفقًا لمسئول أمريكى مطلع على الأمر. وقال المسئول الأمريكى إن الإجراء الانتقامى سيكون مدروسًا لتجنب تصور التدخل السياسى فى الانتخابات الأمريكية، وهو ما يشير إلى فهم نتنياهو بأن نطاق الضربة الإسرائيلية لديه القدرة على إعادة تشكيل السباق الرئاسى، وقد قوبلت خطة نتنياهو المعلنة لمهاجمة المواقع العسكرية بارتياح فى واشنطن، كما قال المسئول الأمريكى فى وصفه للمكالمة بين نتنياهو وبايدن، إن نتنياهو كان فى موقف أكثر اعتدالا مقارنة بما كان عليه من قبل، وأن التخفيف الواضح لموقف رئيس الوزراء كان عاملا مُهمًا فى قرار بايدن بإرسال نظام دفاع صاروخى قوى إلى إسرائيل. النصب الإسرائيلى نادرًا ما تعترف إسرائيل بخسائرها الحقيقية من أى ضربة تتلقاها، لكن صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية نشرت أن الهجوم الإيرانى كلفها 53 مليون دولار خسائر ممتلكات خاصة، ونقلت الصحيفة عن بيانات حديثة لضريبة الأملاك الإسرائيلية أن الأضرار التى لحقت بالممتلكات المدنية تتراوح بين 150 و200 مليون شيكل أى مايوازى 40 إلى 53 مليون دولار، وأن هذا هو أكبر ضرر ناجم عن هجوم صاروخى واحد على إسرائيل منذ بداية الحرب فى 7 أكتوبر 2023.. وأضافت إن الأضرار الناجمة عن سقوط صاروخ بالقرب من مجمع سى آند صن على الشاطئ شمال تل أبيب تقدر وحدها بنحو 50 مليون شيكل أى 13.5 مليون دولار، كما لحقت أضرار جسيمة بالمطاعم والمحلات التجارية الفاخرة، بما فى ذلك مطعم توركيز الذى دمر بشكل شبه كامل، وتضررت نحو 150 شقة فى المساكن الفاخرة نتيجة سقوط صاروخ بالقرب من المكان فى المنطقة نفسها. ونقلت يديعوت أحرونوت عن مصدر مسئول لم تسمه قوله إنه لو كان الصاروخ قد أصاب المبنى الذى يضم 250 شقة بشكل مباشر لأسفر عن وقوع العديد من الإصابات. وأضافت: كان أحد مراكز السقوط فى هود هشارون، وهى مدينة وسط إسرائيل حيث تضررت نحو 100 شقة، وفى أحد المبانى تقدر الأضرار بأكثر من 10 ملايين شيكل، أى نحو 2.6 مليون دولار، وفى اليوم التالى للضربات الإيرانية أقر الجيش الإسرائيلى بأن الضربة الصاروخية خلفت أضرارًا فى قواعده الجوية، ويتضح الهدف الإسرائيلى غير المعلن الآن أن نتنياهو وحكومته ينوون مقاضاة إيران على الإصابات التى يقولون إنها مدنية. وقالت مسئولة مطلعة على الأمر إن الضربة الإسرائيلية على إيران ستنفذ قبل الانتخابات الأمريكية فى الخامس من نوڤمبر المقبل؛ لأن إيران قد تفسر عدم اتخاذ إجراء على أنه علامة ضعف وستكون هذه واحدة من سلسلة من الردود.. وقال زوهار بالتى مدير الاستخبارات السابق فى الموساد، إن نتنياهو سيحتاج إلى الموازنة بين دعوات واشنطن للاعتدال والمطالبة العامة فى إسرائيل برد ساحق. وقال مسئول مطلع إن نتنياهو عقد اجتماعًا لمجلس الوزراء الأمنى لمدة ثلاث ساعات لمناقشة الخيارات المطروحة على الطاولة، لكنه لم يطلب إذنًا رسميًا للهجوم من مجلس الوزراء، تاركًا موعده مفتوحًا عمدًا. ووفقًا لواشنطن بوست؛ فإن داخل المؤسسة الدفاعية الإسرائيلية؛ قلقًا من أن الضربة لن تكون قوية بما يكفى أو علنية بما يكفى لردع إيران عن شن هجوم مباشر آخر على إسرائيل، أو عن تطوير أسلحة نووية. وقال مسئول إسرائيلى مقرب من رئيس الوزراء، إنه فى حين سيواصل نتنياهو التشاور مع المسئولين الأمريكيين حول الضربة الإسرائيلية الوشيكة ضد إيران؛ فإنه لن ينتظر الضوء الأخضر من واشنطن.. مضيفا إن الشخص الذى سيقرر الرد الإسرائيلى على إيران سيكون نتنياهو، ويواصل شخصيات سياسية إسرائيلية بارزة، بمن فى ذلك رئيس الوزراء السابق نفتالى بينيت، الضغط من أجل شن هجوم مباشر على المنشآت النووية الإيرانية، وقال إن أى شىء أقل من ذلك يعنى التضحية بالزخم الذى اكتسبته إسرائيل من حروبها فى لبنانوغزة. وأضاف إن حزب الله وحماس، وكلا منهما يعمل لصالح إيران، يعانيان من تراجع كبير فى قدراتهما، وإسرائيل لديها كل المبررات التى يمكن أن تتوافر لها: «نحن لدينا القدرة، ولدينا فرصة لا تتكرر إلا مرة واحدة فى العمر». 2