لا تزال روايات البدايات فى درجها الصغير، لا تزال تحلم رُغم كل صعب مرت به، لا تزال تفند أوراق التاريخ تبحث وتدقق وترسم بخيالها حوارات بين شخوص عاشوا ذات يوم لتعيد لتاريخهم بعض الإنصاف وتلون بعالمهم عوالم الحاضر.. أبطالها يعيشون تجاربهم كاملة دون خوف وبطلات حكاياتها قويات فاعلات يبحثن عن حريتهن ليثبتن ذواتهن، نساؤها يؤمِّن أن الحرية لديهن هى حرية عقل وقلب يتحرر معها البدن من فارضى الوصاية عليه ويتحرر معها الوطن من كل محتليه. خمس عشرة سنة أو يزيد منذ بداية الرواية الأولى التى نشرت للروائية العالمية د.ريم بسيونى والتى ترجمت العديد من أعمالها الروائية إلى الإنجليزية والإسبانية واليونانية والحاصلة على العديد من الجوائز العربية والعالمية منها جائزة نجيب محفوظ للأدب عن ثلاثية (المماليك) وجائزة أفضل عمل مترجم فى أمريكا سنة 2009 عن رواية (بائع الفستق). لا ينقص روايات ريم بسيونى سوى أن تدرك أنك جزء من هذا السرد الروائى لا تقلق سيحدث ذلك بلا شك أو لربما تتخيل نفسك داخل إحدى الجلسات الصوفية تطلق لخيالك العنان لتستحضر شخصيات تخرج من بين السطور فى رشاقة يكسوها الحبكة للمعنى ولطافة يغلفها السبكة للكلمة يندمجان لتصنعا هذه الجمل المنقوشة على حوائط زمن ذهب ولكن بقيت بقاياه داخل أماكن بعينها داخل المحروسة. كانت قصص الحب فى روايات ريم بسيونى لا تنسلخ عما يمر به المجتمع العربى من تحولات وتجاذبات فى الدين والسياسة؛ بل بالأحرى كانت رواية الحب هى المَخرج المنطقى الجاذب للقارئ ليفهم ما تريده بسيونى من رواياتها، فكانت لغة الإسقاط هى الوعاء للرواية واختبار تتحول معه التجارب لكشف ما يدور فى مجتمع أرحب من مجرد قصة عاشقين للتتسع دوائر السرد والحكى وتتلاقى فى النهاية. دراستها للأدب الإنجليزى كان مقصدًا لتكتمل الهواية وحلم الروائية لديها بدراسة الأدب الإنجليزى والتعمق فى الأدب والتاريخ العربى خارج أسوار المنهج الجامعى، إلى أن وقعت أسيرة فى حب التاريخ؛ لا سيما تاريخ المماليك. اتجهت ريم بسيونى للكتابة عن الرواية التاريخية بعد أن وقعت فى حب مسجد السلطان حسن عندما كانت فى زيارة لأرجائه. تقول لى دكتورة ريم بسيونى أنها قبل أن تكتب عن المماليك حكى عنهم بعض رواة التاريخ بأنهم كانوا ملوكًا سفاحين بينما عندما بدأت «بسيونى» رحلتها البحثية والاستكشافية وجمع المادة عرفت أن المملوكيين كان بينهم شعراء وصوفية وبناءون وتكمل.. للأسف أعيب على بعض الكتّاب الكبار أن يعيدوا توصيف شخصية تاريخية مرموقة أو عهد ما من خلال أكاذيب لكتّاب ظهروا ضد هذه الشخصية التاريخية مثل ما حدث مع القائد العظيم صلاح الدين الأيوبى، لذا التاريخ مسئولية كبيرة على من يكتبه لأنه يجب أن يدقق جيدًا ويجب قراءة التاريخ فى إطاره الزمنى الخاص به ومن خلال عدة كتّاب وكتابات إلا أن هناك من يبحثون عن شهرة زائفة أو فرقعة تعيد لهم البريق! تصحب ريم بسيونى قارئيها أو بالأحرى مريديها فى رحلات ميدانية أثرية داخل المعالم التى تحكى عنها سردها تقف كأنها باتت جزءًا من المكان واحدة من ساكنيه الحقيقيين، كأنها عاشت كل لحظة تحكى عنها؛ بل هى كانت شاهدة ترصد وعادت إلى الحاضر لتكتب شهادتها! رواياتها التاريخية ثلاثية المماليك أولاد الناس ورواية القطائع ثلاثية ابن طولون ورواية سبيل الغارق المرأة بداخلها نساء فى التاريخ وقفن خلف الرجل ووقفن معه لمحاربة الإنجليز ووقفن ضد المجتمع من أجل الذهاب إلى المدرسة للتعلم. وتقول بسيونى: لدى فى المعرض هذا العام رواية (سبيل الغارق) المترجمة للإنجليزية، والرواية تتحدث عن احتلال الإنجليز لمصر وكيف كانت المرأة المصرية فى هذه الظروف وبناء قناة السويس وهزيمة المماليك فربطت الأحداث برباط تاريخى سياسى إنسانى وكيف دخلت المدرسة لأول مرة سنة 1882 ودرست وعلّمت بنات جيلها، كل ذلك لتقف ضد الاستعمار، بطلة روايتى جليلة المرأة التى تحدت المجتمع بكل ما قيل وقتها عندما خرجت من منزلها وتم التنمُّر عليها وتحملت كل الشتائم لتفتح لنا الطريق لتتعلم فى مدرسة السَّنية بالسيدة زينب أو كما كان اسمها من قبل مدرسة السيوفية فى عصر الخديو إسماعيل، وبالمناسبة هى ذات المدرسة التى تخرجت فيها أول امرأة حصلت على البكالوريوس وهى نبوية موسى، هذه السيدة العالمة التى أشعر أنى قد أكتب عنها ذات يوم لأنها أيضًا أول امرأة تقوم بالتدريس للبنات فى مدرسة السَّنية ورُغم وصول نبوية موسى؛ فإن قبلها جاءت من فتحت الطريق وأقصد جليلة التى حصلت الابتدائية. وأتساءل؛ كم جليلة اليوم ونحن نرى أن السيدات دخلن النيابة والقضاء وكل المجالات التى كانت قديمًا حكرًا على الرجل؟. وهناك مشهد بين جليلة وأحد الصحافيين فى الرواية وأن هذا الرجل يسألها ما معنى الحرية لديها ما الذى تبحث عنه هل الحرية فى العلاقات مع الرجال مثلاً، فهى تشرح له أنها تريد الحرية لتحقيق ذاتها وأن حريتها سيتلوها حرية وطن وستكون ندًا للمستعمر فكرة المرأة المصرية أنها تبحث عن أكثر من حريتها الشخصية وأن كل خطوة تتخذها هى دائمًا مرتبطة بحرية الوطن تختلف فى ذلك عن المرأة الغربية التى كانت تبحث عن حريتها هى فقط! الحقيقة أن المرأة المصرية كان لها دور كبير منذ أيام عرابى وفى ثورته، وهى من كانت تصل بالخطابات بين الجنود وتسلمها، تخيلى كيف كانت قوية!. هذه الرواية تمت ترجمتها للإنجليزية من خلال مترجم روايات نجيب محفوظ المترجم روجر ألن، وهو من اقتنع بالرواية وقرر أنه يجب أن تترجم لتصل إلى القارئ الغربى. لريم بسيونى رواية أخرى فى معرض الكتاب هذا العام رواية (القطائع) تسرد فيها عصر أحمد بن طولون والنساء فى حياته اللاتى وقفن معه؛ ابنته وزوجته وامرأة أحبها والى الخراج بمصر وكانت امرأة قوية للغاية. اختبرت الحياة ريم بسيونى اختبارًا صعبًا بفقْد عزيز لديها، وكما قالت لى لا تزال داخل معترك من الاختبارات، إلا أن كل ذلك لم يزدها إلا إيمانًا بذاتها وبقدرها لينعكس كل ذلك على رواياتها وقرائها. وما المحن فى حياتها إلا زاد لرحلة بدأتها ولزامًا أن تعيشها حتى وإن هربت من حاضرها إلى ماضٍ صنع أبطال رواياتها الكثير من التحديات فى الحياة. 2