إن الذكريات عن مَولد «صباح الخير»، لا تنتهى، ولعل أحد شبابها يفكر يومًا فى كتابة «كتاب» عن هذه التجربة؟ كانت بالنسبة لى- مشروعًا مستحيلًا تمامًا! منذ ظهرت عشرات المجلات ذات الطابع الاجتماعى.. أو للشباب.. أصدرتها كبريات الصحف، والحكومة أحيانًا، وكانت سرعان ما تغلق أبوابها! فمجلة للشباب لا تجذب عددًا كافيًا. وفوق ذلك لا تجذب إعلانات أبدًا. ومعنى ذلك الإفلاس بعد بضعة أعداد. وأنا وقتها صحفى وكاتب «ناشئ» وقد كوّنت والحمد لله فى وقت مبكر اسمًا لا بأس به ككاتب سياسى فى «روزاليوسف»، فلماذا أقوم بإصدار مجلة فاشلة مقدمًا، وأنا فى مطلع حياتى الصحفية؟! ولكن السيدة «روزاليوسف» مصممة تقول لى بإصرار: عندى رخصة باسم «صباح الخير»، وأنا أريد إصدارها قبل أن أموت، وأنت اللى ستصدرها ! وقد كانت السيدة «روزاليوسف» سيدة عظيمة بكل معانى الكلمة.. إن قصتها لم تُكتَب بعد. ومن دون مبالغة أقول إنه ليس فى نساء العالم العربى كله ممن اشتهرن مَن تضارعها. «هدى شعراوى» مثلًا كانت أولًا زوجة «على باشا شعراوى» أحد أغنياء مصر وأحد كبار زعماء الوفد. ولكن «فاطمة اليوسف» بدأت من نقطة الصفر. من ممثلة كومبارس إلى نجمة المسرح الأولى إلى صاحبة أجرأ مجلة فى الصحافة فى وقتها. إنها الوحيدة التى صنعت نفسها حقًّا. ولستُ أروى هنا قصة «فاطمة اليوسف»، فقط أشير إلى عنادها الأسطورى، وموهبة أخرى نادرة، هى بث الثقة فى الناس وتشجيع الكفاءة بنزاهة هائلة. فهى فوق المنافسة. وفضلها وأثرها علىّ كصحفى لا يماثله أى تأثير آخر. ولأننى فقدت أمى وأنا فى العاشرة من العمر، فقد كانت بالنسبة لى فوق تأثيرها العام، تأثير خاص بى، وجدت فيها أمًّا جديدة. هكذا رضخت لإصرارها، إذ كان من المستحيل بالنسبة لى أن أخذلها فى أى شىء. ودار «روزاليوسف» دار مكافحة دائمًا. وبالتالى فلا إمكانيات مادية. ولا قدرة على شراء مطابع مختلفة عن مطبعة «روزاليوسف» وقتها. نفس العروض ونفس المطبعة ونفس الشقة الصغيرة. فكيف نختلف عن «روزاليوسف» وهى فى أوج مجدها؟ ومن ذكرياتى التى لا أنساها فى ذلك الوقت، أننى قد أوشكت أن أكون «رئيس تحرير!» إن أعطيت لى غرفة بمفردى. ولكن الغرفة- بعد أن فرحت بها -وجدت فيها فقط مكتبًا قديمًا ومقعدًا أجلس عليه.. فقط. وبدأ الناس- خصوصًا الأغراب والمرموقين- يزوروننى ولا أجد لهم مقعدًا يجلسون عليه.. وذات يوم ذهبت إلى محل أثاث. واشتريت من مالى القليل كنبة و2 فوتيل، وكليم بسيط، ومكتبة بسيطة. ودفعت فيها كلها ثلاثين جنيهًا! وكان ذلك مبلغًا فادحًا بالنسبة لى. واشترطت على البائع أن يوصل الأثاث إلى المجلة بعد منتصف الليل! وجاء الأثاث وكأننى أقوم بعملية سرّية و«فرشت» المكتب! وفى الصباح التالى جاءت السيدة «روزاليوسف» فدهشت من هذا الأثاث الجديد، ولم تبد أى ملاحظة. وبعد انصرافها جاء مدير الإدارة مصممًا على أن يدفع لى ثمَن الأثاث، وأن السيدة «روزاليوسف» غاضبة لأننى لم أطلب منها ذلك، ولكننى رفضت، واستمر الشد والجذب شهورًا، وأنا أضحك وأقول: هذا «جهازى» كرئيس تحرير جديد، حتى إذا أفلست المجلة، آخذ «عفشى» إلى بيت أبى! لم يعين للمجلة إلا اثنان ممن سبق لهم احتراف الصحافة. أنا والفنان حسن فؤاد! وقررت أن أعتمد على طلبة وطالبات قسم الصحافة.. وعلى الهواة أصحاب المواهب المستعدين للعمل وهو مجانًا أو نظير مكافآت رمزية.. أصدرت المجلة وكلها، رسمًا وكتابة وصحافة، من صنع شباب لم يشتغلوا بالصحافة قط.. أو ليس لديهم فرصة فى صحفهم. ومن هؤلاء، صارت عشرات الأسماء التى لمعت وملأت الصحف حتى الآن.. أذكر على سبيل المثال: «لويس جريس، أحمد بهجت، زينب صادق، محمود المراغى.. نجاح عمر، رءوف توفيق، راجى عنايت، إيزيس نظمى، فاطمة العطار، ومصطفى نبيل». وجاءنا شاب قصير بدين هارب من كلية الحقوق ومن بيت أبيه المستشار الجليل؛ لأنه يهوى الرسم والشعر الشعبى، وبدأنا نستعين به فى البروفات وما إلى ذلك، وذات يوم وجدت أنه ملأ الفراغات المرشحة ليملأها كاريكاتير، برسوم كاريكاتيرية فعلًا. ودهشت لما فيها من خطوط جديدة وروح جديدة ونبض جديد. وسألته: لماذا لا ترسم كاريكاتير وتترك حكاية الأغانى.. فقال لى: فى عرضك! لا أحد يعطينى الفرصة. وظهرت «صباح الخير» وأحد أعظم مفاجآتها رسام كاريكاتير اسمه «صلاح جاهين»!! نفس الشىء للرسام «أحمد حجازى».. وإيهاب شاكر.. وناجى شاكر.. ورجائى! أثبتت التجربة أن من يعطى فرصة حقيقية للشباب، يجد كنوزًا متفجرة! وتعلمت طول حياتى الصحفية بعد ذلك أن أعظم مساهمة منّى للصحافة، هى إعطاء كل موهوب الفرصة الكاملة.. وما أعتز به حتى الآن من مساهمة فى الحياة الصحفية ليس مبانى ولا عمارات.. ولكن مئات الصحفيين الذين أعتز بأنهم عملوا معى.. وهم خيرة الصحفيين فى كل دور الصحف! كُتّاب.. وشعراء وصحفيون.. ورسامون.. أعتز كثيرًا بأنه كان لى دور فى تقديمهم للقراء. وإلى أن تم طبع أول عدد من المجلة.. كنت أرى أنه تجربة رائعة. ولكن هل يقبل الناس على هذا؟ مجلة واجتماعية وللشباب وتنجح؟! كنت خائفًا لدرجة الرعب. ومن باب توسيع دائرة الاهتمام اخترت لها شعارًا شاملا «للقلوب الشابة والعقول المتحررة». لقد قررنا أننا مقبلون على عصر جديد. وهناك قيم وعادات وأفكار وتقاليد يجب مناقشتها. وقيم وعادات بالية يجب أن تتراجع. فهناك قضايا مهمة ولكنها ليست مألوفة وقتها للناس. وليلة إنهاء طبع العدد الأول، اختفيت فى مكان لا يعرفه إلا قليلون، وأخذت أول ممنوعات فى حياتى، لا أريد أن أواجه الصباح وما سيحمله من حظ للمجلة الجديدة.. وبقيت مختفيًا حتى الساعة الثانية عشرة ظهرًا، حين عثروا علىَّ.. وأرسلت السيدة «روزاليوسف» إلىَّ تقول: اظهر وبان.. لقد نفدت المجلة من السوق، والباعة يطلبون المزيد! ووجدت الشجاعة للخروج إلى الشارع.. والذهاب إلى المجلة! وكانت ابتسامة الرضا من السيدة «فاطمة اليوسف» أعظم مكافأة! فتلك كانت موهبتها.. السيدة التى عمل معها «العقاد وطه حسين وأحمد شوقى ومحمود عزمى» وكل اسم كبير فى الصحافة والأدب! («صباح الخير»- 12فبراير 1981)