بدأت معظم دول العالم خلال الأيام الأخيرة في فتح النشاط الاقتصادي تدريجيًا ورفع شعار «التعايش مع كورونا» بعد أشهر من الإغلاق، تحت وطأة الخسائر الفادحة التى تكبدتها أسواق الدول الكبرى والناشئة من جراء هذه الجائحة. وخلّفت تداعيات فيروس كورونا خسائر فادحة لأكبر اقتصادات العالم، وذلك بعدما أدت إلى خسارة عشرات الملايين من الوظائف حول العالم، ومضاعفة الديون العالمية، فضلا عن التسبب في دخول الاقتصاد العالمى في ركود لم يشهده منذ الحرب العالمية الثانية.
أفادت إدارة الشئون الاقتصادية والاجتماعية التابعة للأمم المتحدة في تقرير حول الوضع والتوقعات الاقتصادية في العالم، بأن الاقتصاد العالمي سيتقلص بنسبة 3.2 % في العام 2020.
وتوصل التقرير الأممي إلى أن التقلص سيتسبب في خسائر تبلغ حوالي 8.5 تريليون دولار، وهو ما يعادل حولي 4 أعوام من مكاسب حققت، في إشارة لأن الناتج المحلي الإجمالي في البلدان المتقدمة سوف ينخفض إلى سالب 5 %، بينما ينكمش ناتج البلدان النامية الإجمالي بنسبة 0.7%.
الكساد والوظائف
بقدر ما حصد الفيروس عشرات الآلاف من أرواح الأمريكيين، فقد بات يهدد حياة عشرات الملايين ممن هم على قيد الحياة، بعدما خسر 33 مليون مواطن أمريكي وظيفته منذ بداية انتشار الفيروس وحتى الآن.
ويأتي ذلك رغم السيولة الهائلة، التى ضُخّت لإنعاش أكبر اقتصاد في العالم المقدرة ب6 تريليونات دولار، حيث ارتفع معدل البطالة في الولاياتالمتحدة إلى 14.7 %، وبذلك الارتفاع أصبح معدل البطالة في الولاياتالمتحدة أسوأ مما كان عليه في أي وقت مضى، منذ الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي.
ومنذ تفشي المرض، سجلت أمريكا أسوأ معدل لمبيعات التجزئة على الإطلاق، وتقول إيريكا غروشين، الرئيسة السابقة لمكتب إحصائيات العمل الحكومي: «لقد وضعنا اقتصادنا في غيبوبة لنجعله يتعافى من الوباء، وهو ما تسبب في فقدان الوظائف بشكلٍ حاد».
وتعزز الأرقام السلبية توقعات المحللين بتعافٍ بطيء من الركود الناجم عن الجائحة، إذ يقول مايكل ماير، الخبير الاقتصادي الأمريكي: «نحن نعلن بشكل رسمي سقوط الاقتصاد الأمريكي في هوة الركود لننضم إلى بقية دول العالم. السقوط كان مدويًا وعميقًا» .
وتابع أنه سيتم التخلص من الوظائف وسيتم تدمير الثروات والقضاء على الثقة، متوقعًا انهيار الاقتصاد في الربع الثاني والانكماش بنسبة 12 %، وتوقع كذلك انكماش إجمالي الناتج المحلي بنسبة 0.8 % للعام بأكمله.
الصادرات والعولمة
الخسائر الفادحة التى لحقت بالاقتصاد الألماني جراء إجراءات الغلق خلال الشهور الثلاثة الماضية، تشير إلى ما يمكن أن يواجه الاقتصاد الأكبر في أوروبا خلال الفترة المقبلة. فمن المعروف أن الاقتصاد الألمانى هو أكبر اقتصاد في العالم استفاد من نظام العولمة، إذ إن نصف الدخل القومي يأتي عبر نشاط التصدير، لذلك فمن المتوقع أن يكون الاقتصاد الألماني هو الاقتصاد الأكبر من حيث الخسارة في حال أنهت أزمة كورونا على العولمة. وأظهرت بيانات مكتب الإحصاءات مؤخرا، أن الطلبيات على المنتجات الصناعية الألمانية تراجعت في مارس الماضي لأدنى مستوى منذ 1991، حيث قلص فيروس كورونا الطلب محليا وخارجيا على البضائع، بالإضافة لانخفاض بنسبة 15.6 % في طلبيات السلع المصنعة في ألمانيا، بزيادة تقارب ال 6 % عما كان متوقعًا في أسوأ التقديرات.
كما تراجعت العقود المحلية بنسبة 14.8 % وانخفضت الطلبيات من الخارج بنسبة 16.1 %، وهو ما يعتبر ضربة كبيرة للاقتصاد الألماني المعتمد على الصادرات.
وحذرت وزارة الاقتصاد الألمانية من أن البلاد تتأهب لأكبر ركود منذ الحرب العالمية الثانية، إذ تسببت إجراءات العزل العام في إغلاق المتاجر والشركات والمصانع، ويؤكد هذا التراجع في معدل الطلب على البضائع الألمانية، على صحة توقعات معهد إيفو الألماني والذي تنبأ من قبل أن اقتصاد ألمانيا قد ينكمش بما يصل إلى 6 % خلال هذا العام في ظل أزمة فيروس كورونا.
الاتحاد الأوروبى
أثيرت العديد من الشكوك حول قدرة الاتحاد الأوروبي على الصمود طويلًا خلال الفترة المقبلة، بعدما كشفت جائحة كورونا عن ضعف التضامن الأوروبي وزيادة الاختلافات حول المعالجة الاقتصادية للأزمة.
وعلى ضوء هذا التباعد بين الدول الأوروبية خاصة بعد إعلان خروج بريطانيا من الاتحاد، أشارت التوقعات أن الاتحاد سيكون ضمن أكبر الخاسرين اقتصاديا من أزمة كوفيد19، وأشار الدكتور محمد العريان، الخبير الاقتصادى إلى انكماش الاقتصاد الأوروبي بما يتراوح ما بين 10 و15 % خلال العام الجاري.
وفي اختبار «كورونا» كان الاقتصاد الفرنسي من أوائل الاقتصادات العالمية الكبرى التى وقعت في هوة الركود، وذلك على الرغم من الاتفاق على حزمة إنقاذ أوروبية ضخمة. وكشفت تقديرات المعهد الوطنى الفرنسي للإحصاءات في نهاية أبريل الماضي، عن أن الاقتصاد الفرنسي دخل مرحلة الركود بعد أن سجل انكماشًا بنسبة 5.8 % في الفصل الأول من العام الجاري بسبب إجراءات العزل التي فُرضت للحد من انتشار الوباء. وأوضح المعهد أنه أكبر انخفاض في تاريخ التقديرات الفصلية لإجمالي الناتج الداخلي التي بدأ تسجيلها في 1949، وانخفضت التجارة الخارجية بنسبة - 6.5 % بالنسبة للصادرات وبنسبة 5.9 % للواردات، كما سجل الاستثمار التجاري انخفاضًا حادًا بنسبة 11.8 %، بينما تتوقع الحكومة الفرنسية في هذه المرحلة انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 8 % هذ العام.
تكبد الاقتصاد الإيطالى خسائر ضخمة؛ حيث انهارت حصيلة الضرائب، وارتفع عجز الميزانية إلى 10.4 % من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام.
وتتوقع الحكومة الإيطالية أن يرتفع الدين العام حوالي 20 نقطة مئوية إلى 155.7 % من الناتج الإجمالي، وتتوقع روما أن ينكمش الاقتصاد بنسبة 8 % على الأقل هذا العام.. فيما قالت المفوضية الأوروبية إن إيطاليا يجب أن تستعد لتراجع اقتصادي حاد، حيث من المتوقع أن ينخفض إجمالي الناتج المحلي لنحو 10 %.
لم تختلف الأوضاع الاقتصادية في بريطانيا عن باقي الوضع في البلدان الأوروبية الأخرى، حتى بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، فمن المنتظر أن تقترض الحكومة البريطانية 180 مليار جنيه استرليني (222 مليار دولار) بين مايو ويونيو، وهو ما يتجاوز خططها السابقة للسنة المالية بأكملها.
ويتجاوز الدين العام البريطاني 2.5 تريليون دولار في حين بلغ صافي اقتراض القطاع العام 14 % من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام، وهو ما سيكون أكبر عجز سنوي منذ الحرب العالمية الثانية.
وتشير التقديرات إلى تسجيل بريطانيا معدل انكماش بنحو 13 % للناتج الاقتصادي في ربع السنة الحالي، وهو ما سيكون الأضخم منذ بدء حفظ السجلات بعد الحرب العالمية الثانية.
رغم أن الصين كانت هي البؤرة الأولى لانتشار الوباء، فإنها كانت الأقل خسارة والأقدر على تجاوز الأزمة مقارنة بالدول الأخرى.
بالطبع تأثر الاقتصاد الصيني بتداعيات فيروس كورونا، حيث انخفضت الصادرات الصينية بشكل ملحوظ ، فقد سجلت الصادرات الصينية باليوان انخفاضًا بنسبة 3.5 % على أساس سنوي في مارس الماضي، فيما ارتفعت قيمة الواردات بنسبة 2.4 %، إلا أن تلك الخسائر تبدو ضئيلة للغاية بالنسبة لخسائر المنافسين.
وكحال الاقتصاد الألماني يعتمد الاقتصاد الصيني بشكل كبير على التصدير والصناعة، لكن الصين تمتلك ميزة نسبية تتمثل في كبر حجم السوق الداخلية واتساع شريحة الطبقة المتوسطة والتى تراكمت لديها ودائع ضخمة قادرة على حماية الصين من الهزات التى قد تطال التجارة الخارجية.
ويبدو أن الصين كانت تدرك أن النظام الاقتصادى العالمي القائم على العولمة لا يمكن أن يستمر طويلا، لذلك فقد بدأت مبكرا في التمهيد للاعتماد على السوق المحلية كأساس لقيادة النمو بدلا من الصادرات التى قادت دفة الاقتصاد الصينيى لأكثر من ثلاثين عاما . فمنذ أن شهد الاقتصاد الصيني في عام 2016 أبطأ معدل نمو له منذ 26 عامًا، بعدما ارتفع الناتج المحلي الإجمالي بنحو6.7 %.؛ بدأت الصين في إقرار خطة تستهدف تغيير هيكل الاقتصاد الذي طالما اعتمد على التصنيع والتصدير، مستهدفة انتهاج سياسات تركز على الاستهلاك والخدمات، وهو ما كان سببا في جعل الصين تتجنب الصدمة الاقتصادية التى خلفها فيروس كورونا.
وفي اليابان كانت الأوضاع الاقتصادية تكاد تشبه تماما ما يجرى ويحدث في باقي الاقتصادات الكبرى، إذ توقع الصندوق أن ينكمش اقتصاد اليابان بنسبة 5.2 % في 2020، فيما توقعت مؤسسة «غولدن مان ساكس» أن يتجه اقتصاد اليابان إلى تسجيل أكبر انكماش بنحو 25 % خلال الربع الحالي.
وتقلص الناتج المحلي الإجمالى لليابان بنسبة 7.1 في المئة سنويًا خلال الربع الأول من العام الجاري مقارنة بالربع الأخير من عام 2019، وخفض المستهلكون الإنفاق بعد زيادة في ضريبة المبيعات، وتراجع استثمار الشركات بشكل أكبر منذ الأزمة المالية العالمية.
وفي ظل توقعات منظمة التجارة العالمية التى تنبأت أن تسجّل التجارة الدولية انكماشًا بين 13 و32 % في 2020 فمن المتوقع أن تزداد معاناة اليابان التى لا تستطيع أن تعتمد على سوقها المحلية لامتصاص الأزمة.
وتخشى منظمة التجارة العالمية من أن تواجه أمريكا الشمالية وآسيا تداعيات عنيفة تؤدي إلى انهيار صادراتها بأكثر من 40 في المئة و36 في المئة على التوالي، وفق السيناريو الأكثر تشاؤمًا لدى اقتصاديي المنظمة، كما ستشهد أوروبا وأمريكا الجنوبية انخفاضات أعلى من 30 في المئة.
الأسواق الناشئة
لا تقتصر التداعيات الاقتصادية للوباء على الاقتصاديات الكبرى، بل امتدت آثارها أيضا إلى الأسواق الناشئة، وبحسب تقرير لصحيفة «تاغس تسايتونغ الألمانية» فإن الاقتصاد التركي في طريقه للحصول على لقب أول اقتصاد ناشئ ينهار.
وقالت الصحيفة، إن تركيا دخلت ثاني ركود اقتصادي في أقل من عامين، وباتت مهددة بالإفلاس، حيث أصبح الدولار الواحد يعادل أكثر من 7.29 ليرة، وهو معدل انهيار يفوق ما وصلت إليه الليرة في صيف 2018.
وأشارت الصحيفة إلى أن «الليرة داخل عاصفة كبيرة، وأن سبب أزمة العملة الحالية هو جبل من خدمة الديون بقيمة 170 مليار دولار يتعين على تركيا سداده هذا العام».
وفي السابق، اعتادت تركيا تسديد ديونها من مصادر دخلها المختلفة، مثل الصادرات التي تبلغ إيراداتها سنويا 180 مليار دولار، والسياحة 36 مليار دولار، لكن هذه المرة فإن فيروس كورونا يضع الاقتصاد التركي في مأزق كبير خاصة أن نسبة الصادرات انخفضت 40 % في 2020 حتى الآن، ويتوقع أن تتهاوى أكثر في الفترة المتبقية من العام، كما توقفت السياحة تماما منذ شهرين أو أكثر ضمن إجراءات الغلق في العالم.