في رواية (شريعة الجستابو) للكاتب الألماني جان بيترسون.. كان أن أردف «رئيس المحكمة»، بعد أن استقر يقينه علي براءة كل المتهمين بقضية «الخيانة العظمي» قائلا: حرصا علي مصلحة الشعب.. تأمر المحكمة جميع الأشخاص الذين يتصلون بهذه القضية، أن يمسكوا ألسنتهم عن التشدق بما رأوا أو سمعوا خلال التحقيق.. وإلا عرضوا أنفسهم للسجن سنتين مع الأشغال الشاقة(!!) لخّص المشهد - رغم بساطته - تكيف إن إدارة الدولة عندما تعتمد في بنائها وممارسة دورها علي مبدأ (السطوة)، أيا كانت هذه السطوة (سياسية - اقتصادية - أمنية).. فإنه لا مجال فعلي لحديث جاد عن الفصل بين السلطات الثلاث (التشريعية - القضائية - التنفيذية). وإذا ما كانت السطوة من النوع الأخير، أي (أمنية).. فإن كل ما يتعلق بأفعال السلطات الثلاث السابقة، يصبح من مسلمات الأمن القومي للدولة، دون تمييز، وفقا لوجهة نظر القائمين عليه.. إذ يتقدم الحل الأمني علي كل من الحلين: السياسي والقانوني في أغلب الأحيان، إن لم يكن علي إطلاقها(!!) ومن المسلم به (سياسيا) أن هذا الأمر يصبح بمثابة خطأ (حتمي الحدوث) لا تستطيع (النظم) المستأثرة بصنع القرار، الفكاك منه إذا ما مكثت في الحكم فترة غير قليلة أو غير معتادة.. وهذا الوضع الأخير - أي حتمية الخطأ - يمكن سحبه علي الحالة المصرية، عبر أكثر من مرحلة تالية للعام .1954 وإذا ما تنامت قوة (العسكرة) لم يكن للحاكم - أي حاكم - قدرة لاحقة علي الخصم من هذه القوة، إذ أن وعيه - وربما لا وعيه أيضا - يستقر علي أن بقاءه في سدة الحكم مرهونا ببقاء هذه القوة المتصاعدة.. وأن تحكمه في صنع القرار لا يمكن عزله عما تقدمه استطلاعات وتوصيات (المؤسسة الأمنية) باختلاف مستوياتها.. وهو موقف يمكن القطع، في الوقت الحالي، بأنه كان ثقيلا - نوعا ما - علي نفوس الكثيرين من أبناء هذه المؤسسة أنفسهم. --- فقبل 30 يوما كاملة وداخل ميدان (التحرير).. كانت قلوبنا كشباب (عشريني) و(ثلاثيني).. كان بعضها قد انكسر في الخامس والعشرين من يناير، عندما هرولنا للخروج من الميدان بعد الوقوع تحت قصف (فخ أمني) مباغت.. تتراقص طربا ونشوة في «الأيام التالية» مع كل هتاف لإسقاط النظام وتغييره. لكن في هذه الأثناء، لم يكن عقلي كمراقب للشأن الداخلي بالأساس، يأبي إلا أن يسترسل - وسط كل هذه الأجواء المشحونة - في طرح أسئلة متنوعة عن البدائل المطروحة.. وخيارات التغيير المتاحة.. ومن ثم مخططات «الإجهاض» المحتملة.. وهو ما أرهق - آنئذ - العديد من زملائي، إذ نالت بعض سيناريوهاتي عن (ماذا بعد الثورة؟) من بعض عزائمهم. فعلي مدار الثلاثين عاما المنصرمة - وهي بالمناسبة عمري كاملا - تبدت الساحة (السياسية) مفرغة تماما ذ علي الأقل من وجهة نظري - من أية بدائل مقبولة يمكن أن نركن إليها، كجيل يريد تغييرا في الدماء والسياسات.. وبدت، أيضا، ثمار البديل المستحيل «The impossible alternative ideology» الذي كان يتنامي إلي سمعنا بعض من تفاصيله في وقت سابق، ناضجة بعض الشيء لتشعرنا بالخوف من إمكانية الحصول علي دولة (مدنية) خالصة، أساسها العدل والقانون والمساواة. ورغم أن اتهامات متنوعة قد طالت هذه الإيديولوجية من مؤيدي إدارة الحكم (المسقطة).. وأنها لم يكن لها أساس من الصحة، إلا أن الشواهد التي زخرت بها الساحة السياسية - ولا يزال لها تبعات آنية - تصب في صالح اعتمادها كمبدأ احتكاري (سلطوي) وضعه أحد مستشاري الرئيس السابق. إذ خلت الساحة - فعليا - من أي تواجد حزبي حقيقي.. وبدا أن هناك ثنائية ما، بين (الدولة والتيار الديني) خاصة جماعة (الإخوان).. قطعت الطريق أمام (القوي السياسية الشرعية) في الوصول إلي سدة الحكم، أو تداول السلطة في المستقبل القريب. فالتيار الديني يعمل خارج (قيود الشرعية) التي تكبل الحركة الحزبية، بمنتهي الحرية.. أما إدارة الدولة (السابقة) فقد استفادت طويلا من تصديره للغرب عموما، والولاياتالمتحدة خصوصا، علي أنه النموذج الوحيد المتاح إذا ما ابتعد (النظام القائم) عن السلطة، أو أرخي قبضته قليلا(!!).. ولم تجتهد الدولة كثيرا في أن ترسخ، علي وجه الحقيقة، نظاما (فكريا) صلدا يواجه،بصورة أساسية، أفكار «التأسلم السياسي» لا شخوصه (؟؟) اكتفت الدولة بالضربات الاستباقية لتقويض حركة الجماعة (المحظورة قانونا).. أو الكشف من حين لآخر عن علاقات تثير الريبة بين هذا التيار ونموذج الحكم (الثيوقراطي) في إيران، رغم الاختلاف المذهبي.. إلي جانب إطلاق العنان للتيار السلفي، الذي لا يجيز الخروج علي الحاكم لمزاحمة الجماعة علي مستوي القواعد، بعد أن فشل الاتجاه الديني - الموصوف بالرسمي - رغم وسطيته، في سحب البساط من أي من الفريقين. ولم يكترث أحد، أو يستشرف، أن النتيجة الأكثر قربا ل«المزاحمة والمزاوجة الإجبارية» بين السلف والإخوان.. هي إعادة إنتاج النموذج الجهادي (الشائه) الذي ضرب البلاد، ابتداء من سبعينيات القرن الماضي.. إذ كان قد وضع بذرته (الصريحة) الأولي القيادي بالجماعة، سيد قطب، في ستينيات نفس القرن(!!) --- وكان أن ارتكن النظام كثيرا لهذه الحال دون أن يدرك أن هناك كائنا حيا، اسمه (الديمقراطية) يريد أن ينمو في الداخل بشكل طبيعي. ولم يهتم - بشكل كاف - بأن الساحة الدولية، خاصة سياسات الولاياتالمتحدة التي دشنها (الجمهوريون) قد طلقت إلي حيث لا رجعة، مع بدايات ولاية (بوش الابن) دعم النظم الصديقة بمنطقة الشرق الأوسط، لحساب أچندة الديمقراطية.. إذ باتت سياسات (النظم الصديقة) أو الحليفة، لا ترضي في كثير من الأحيان نهم المصالح الأمريكية (البترولية والعسكرية والاستراتيجية) داخل أرض العرب.. ومن ثم لم تعد فكرة (حتمية بقاء النظام) في مواجهة (بديله المستحيل) غير ذات جدوي في أغلب الأحيان، خاصة إذا ما تم السعي لإيجاد أو خلق هذا البديل قسرا (!!) وخلقت هذه الحالة - غير المكترثة، و(القمعية) من قبل إدارة الحكم.. والساعية لمزيد من الديمقراطية من قبل القوي الوطنية و(الشعبية) غير المسيسة - مساحة خالية «land no man's» بين الطرفين، كان من المفترض أن تكون في أي نظام طبيعي، خط حماية مهما.. إذ ضمت هذه المساحة (الفارغة)، كلا من النقابات المهنية والعمالية والأحزاب السياسية وعدة من منظمات المجتمع المدني.. وهي الكيانات التي من المفترض أن تحتوي القطاع الأعرض من الجماهير، لا أن تكون أحد منفراته. وبدا كل طرف، مع مرور الوقت، كأنه قد أقام خندقا (trench) إجباريا .. لم يكن هناك سبيل للفكاك منه سوي بحدوث زلزال ثوري، يهدم (القائم) ليبني (القادم). نجح جيلنا (الثوري) في أن يفعل هذا، لكن لا يجب أن تستمر مطالب الإقصاء السياسي، خاصة في ظل المرحلة (الانتقالية) إلي ما لانهاية.. يجب ألا تتملكنا (فوبيا) الاستبعاد، فنقع في فخ الاستعباد (الفوضوي).. يجب ألا نترك جسدنا السياسي الخارج لتوه من جراحة حرجة، ليقع فريسة أمام مطالب (فئوية) أو تدخلات خارجية تنحرف بما أنجزته الثورة الوطنية. هذه هي (ثورة التحرير) القادمة بالتأكيد.. ثورة التحرير التي نريد وتدشن لأن هناك وطنا نضج سياسيا بما يكفي ليعرف ما يحيط به علي وجه اليقين.. لا علي وجه التخوين، والتربص. .. ويبقي أن: (التحرير) عمل وإنتاج.. أما فعل التحرير فهو الذي يتجه للآخرين (الأخ، والأخت، والمرأة، والرجل، والطفل).. فلا يوجد تحرير بدون اقتصاديين، أو تكنولوجيا، أو تخطيط، أو تشكيل اجتماعي تاريخي. «فممارسة (التحرير)، ما هي إلا عمل إنتاجي، متكامل، ينتهي به (نظام قائم).. ويبزغ من خلاله (نظام جديد) مؤهل لبناء نموذج اجتماعي أكثر عدلا». ..عن «فلسفة التحرير» للفيلسوف المكسيكي «ريكو دوسيل».