إنه يمنحنا اختلافًا مدهشًا ونادرًا أوركسترا القاهرة السيمفونى مع اليوم الرابع من العام الجديد، إذ قدم لنا دراما موسيقية على المسرح الكبير بدار الأوبرا المصرية. إذ تعاون الأوركسترا فى موسمه الحادى والستين من تاريخه المستقر فى تقديم العمل النادر الرقى «قصة جندى». النص لشارل فرديناند راموز، والموسيقى لإيجور سترافينسكى، وهى سباعية بطلها الموسيقى والكورال مكتوبة للآلات الموسيقية، وهى مأخوذة من مجموعة قصصية جمعها إلكساندر أفاناسييف الروسى عن حكايات شعبية روسية الحكاية تدعى الجندى الهارب والشيطان. وكان العرض الأول لها فى لوزان بسويسرا بتاريخ 28 سبتمبر 1918، حيث هرب مؤلفها الموسيقى إيجور سترافينسكى (1882 - 1971) إلى هناك من جحيم الحرب العالمية الأولى. وهو نوع موسيقى عرفته أوروبا ومنها سافر إلى جهات الدنيا الأربع، وهو يمزج الحكى والتمثيل المبسط الذى يحمل طابعًا أدائيًا بالدراما، والدراما هنا فى هذا النوع الفنى تتبع الموسيقى أو بتعبير أدق تتجسد بالموسيقى إذ إن الحبكة الدرامية التى تبنى هذا النوع تتأسس فى حركتها على التتابع الموسيقى، والذى هو سبع حركات متوالية تتأسس عليها الدراما ويتم تصميم البناء الدرامى عليها، إذ تبدأ بالموسيقى والراوى الذى قام بدوره الفنان د.محمد عبدالمعطى بفهم خاص وحيوية وإدراك لجوهر الحكاية الخفى فى سؤال فلسفى قديم جديد للإنسان عن معنى السعادة. فالتتابع الدرامى الموسيقى يبدأ بمارش الجندى العائد من إجازة لبيته من الحرب الدائرة، وفى الطريق يستريح ليتأمل محتوى حقيبته، حيث نعرف أنه فقير، لا يملك إلا آلة الكمان الخشبية وهى من النوع زهيد الثمن. ويبدأ الجندى بعزف الكمان وهى الحركة الموسيقية الثانية التى تعبر عن سلامه الروحى مع بساطة حياته، وهنا يظهر له الشيطان الذى يقايضه بالكمان ليسلبه إياه ويمنحه كتابًا يمده بالمال والسيطرة والتجارة وإدارة الأعمال حول العالم، ويصبح ثريًا، لكنه يشعر بالوحدة والوحشة حين يذهب لأهله وجيرانه فلا يعرفونه، لقد ذهب به الزمن للأمام مع كتاب المعرفة المادية الذى يمنحه طابعًا عالميًا إذ يسافر لكل مكان ويشترى ما يشاء ويكسب أموالاً لا يعرف لها عددًا. ثم تتوالى الحركات الموسيقية حيث ينجح الجندى فى الحصول على الكمان ويتخلص من المال ويترك الكتاب العالمى، ويعود فقيرًا ويذهب لينجح فى علاج ابنة الملك الفقيرة بالموسيقى، إذ يتزوجها، لكن الشيطان يعود له ليؤكد أنه سينتصر حتمًا وأنه عائد مرة أخرى ليسلبه روحه السعيدة، والعمل درس موسيقى فلسفى بسيط قدمه المخرج د.عبدالله سعد كما هو بطابعه التاريخى دون اللجوء لتفسيرات معاصرة، فحافظ على رؤيته الروحية المفتوحة الأفق، وإن احتمل العرض إمكانية ملهمة لدور الشيطان فى عالمنا المعاصر، كتفسير جديد لمسألة الاستلاب الروحى للإنسان المعاصر عبر تعزيز الرغبة فى الامتلاك والغرائز، مع إعتام للضمير والروح الإنسانى. إلا أن هذا النوع الموسيقى النادر شديد الرقى ذكرنى بحلم قديم حاوله بعض من المؤسسين الرواد فى مجال الموسيقى الشعبية القومية المصرية، أمثال زكريا الحجاوى الذى استخدم الراوى والكورال مع مقاطع الموسيقى لتقديم دراما شعبية مصرية مثل «حسن ونعيمة» التى ظلت دراما إذاعية وإن ألهمت المسرحيين معالجات جديدة. لكن هذا الحلم أراه ضرورة كلما شاهدت أوركسترا القاهرة السيمفونى، وكلما تذكرت المدرسة الموسيقية الابتدائية للكونسرفتوار المصرى،إذ أسأل عن الفهم العلمى النادر للآلات الموسيقية الشعبية المصرية، ألا تستحق مدرسة خاصة لتعليم الصغار هذه الآلات النادرة من الطبول والأوتار وآلات النفخ الخشبية. أتذكر الفرق اليابانية والهندية والصينية التى تصنع فرقًا موسيقية لفنها الشعبى القومى، وأسأل متى يحدث هذا الاهتمام الجاد بالموسيقى الشعبية القومية، إذ ذكرتنى الدراما الموسيقية التى قدمها الأوركسترا معتمدًا على الراوى المسرحى، بالراوى الشعبى المصرى وبما يملك من مقومات ذات طابع ملهم. لم تخل الفترة من الستينيات حتى أواخر التسعينيات فى مصر، من محاولات لصناعة هذه الأوركسترا من الآلات الشعبية القومية. ولكنها خلت من مؤلف موسيقى مصرى مؤمن بهذا الأمر، ولعل المؤلف الموسيقى د.أحمد الصعيدى، وهو المدير الموسيقى لأوركسترا القاهرة السيمفونى يتذكر بعضًا من محاولات الأوركسترا لمزج بعض الآلات المصرية بالأوركسترا الغربى، معظمها أخذ طابع «الكونشيرتو» حيث البطل الآلة المصرية مثل الناى والربابة مع الأوركسترا، إلا أن التأليف الموسيقى القائم على تعدد واختلاف الألحان والأصوات على تجانسها وهو ما يعرف «بالهارمونى» وهو سر رقى وتميز الموسيقى الغربية، بقى غائبًا عن فرق الآلات الشعبية القومية المصرية نظرًا لغياب هذا المؤلف الموسيقى المصرى المهتم بهذا النوع. ولعل قصة جندى التى قدمها أوركسترا القاهرة السيمفونى فى قالب الراوى الموسيقى تذكرنا بدور مهم للمركز القومى الثقافى «دار الأوبرا» فى الموسيقى القومية الشعبية ودورها المهم فى صناعة الوجدان والهوية المصرية، وما تمنحه إيانا من إمكانيات بلا حدود فى عالم الراوى الموسيقى الشعبى وغيره، من إبداع بلا حدود ينتظر إرادة وتفكيرًا علميًا مؤسسيًا فى فنوننا الشعبية القومية.