لا شىء يُترك للصدفة.. فبينما كان الجيش الوطنى الليبى يحرز تقدمًا كبيرًا على الأرض بالسيطرة بشكل كامل على مدينة سرت الواقعة غربى البلاد، ويعمل على تطهيرها من الميليشيات الإرهابية ويتقدم فى محاور عدة تجاه مدينة مصراتة والعاصمة طرابلس، كانت القاهرة تخوض معركة موازية عبر أدواتها الدبلوماسية لرسم خارطة طريق لحل الأزمة الليبية. فى القاهرة، وعقب اجتماع وزراء خارجية مصر وفرنسا واليونان وقبرص، الأربعاء الماضى، صدر بيان مشترك تعتبر فيه الدول الأربع أن اتفاقيتى تركيا مع حكومة الوفاق الوطنى الليبية برئاسة فايز السراج «باطلتان». وأضافت الدول الأربع أن اتفاقية ترسيم الحدود البحرية فى البحر المتوسط تشكل «تعديا على الحقوق السيادية لدول أخرى ولا تتوافق مع قانون البحار ولا يمكن أن تترتب عليها أى نتائج قانونية». كتلة دبلوماسية ورغم مشاركة وزير الخارجية الإيطالى لويجى دى مايو فى هذا الاجتماع الرباعى من دون أن يوقع البيان المشترك أو يحضر المؤتمر الصحفى، إلا أن التحرك المصرى أنشأ كتلة دبلوماسية كبيرة تعمل على الضغط ووضع حل سياسى بعيدًا عن العمليات العسكرية، خاصة بعد أن أعلن الرئيس التركى رجب طيب أردوغان بدء نشر جنود أتراك فى ليبيا استنادا إلى اتفاقين وقعتهما أنقرة مع حكومة الوفاق الوطنى فى ليبيا أواخر نوفمبر الماضى،أحدهما عسكرى ينص على أن تقدّم تركيا مساعدات عسكرية إلى حكومة السرّاج، والثانى يتناول ترسيم الحدود البحرية بين ليبيا وتركيا. واستطاعت مصر أن تجمع الأولويات المختلفة المتضررة من تلك الاتفاقيات، خاصة أن اتفاق ترسيم الحدود بين تركيا وحكومة السراج يمسّ باتفاق بحرى آخر موقع بين اليونان ومصر وإسرائيل وقبرص، ما أثار قلق هذه الدول، كما أثار اتفاق ترسيم الحدود البحرية غضب اليونان بشكل خاص التى دعت الأممالمتحدة إلى إدانة الاتفاقية التى من شأنها أن تمنح أنقرة سيادة على مناطق غنية بموارد الطاقة، وخصوصاً قبالة جزيرة كريت. وفى مؤتمر صحفى للوزراء الأربعة عقب الاجتماع، قال وزير الخارجية الفرنسى، جان إيف لورديان، إن تركيا يمكنها أن تكون «ركيزة للاستقرار» فى شرق المتوسط «ولكنها لا يمكن أن تصبح كذلك إلا إذا احترمت قانون البحار ووافقت على الدخول فى حوا18ر مع الدول المطلة على المتوسط». كما أكد لودريان أنه «لن يكون هناك حل عسكرى لهذه الأزمة الليبية»، معتبرا أن «الحل لا يمكن إلا أن يكون سياسيا». وأضاف: «لن يكون هناك حل للأزمة إذا لم يتم الالتزام حرفيا بقرارات الأممالمتحدة». من جهته، قال وزير الخارجية سامح شكرى «نحن مجمعون على دعم مؤتمر برلين»، والذى سيعقد الشهر الجارى فى محاولة للتوصل إلى تسوية للأزمة الليبية، معتبرا أن هذا المؤتمر «ربما يكون الفرصة الأخيرة» للتوصل إلى توافق بين الأطراف الليبيين حول تسوية سياسية للأزمة فى بلادهم. وندد شكرى ب «الدعم التركى المتواصل لمجموعات وميليشيات تقودها عناصر متطرفة معروفة وبعضها مدرج على قوائم عقوبات مجلس الأمن».
غطاء سياسى بالتزامن مع تلك التحركات الدبلوماسية فى القاهرة، شهد مساء الأربعاء الماضى إعلان القيادة العامة للجيش الليبى توسيع منطقة الحظر الجوى المعلن عنها سابقًا فوق العاصمة طرابلس، لتشمل مطار وقاعدة معتيقية الجوية، فى إطار التصدى للتدخلات التركية، لتتلقى المليشيات الإرهابية المسلحة، فى ليبيا خسائر كبرى فى ظل الانتصارات التى يحققها الجيش الليبى والذى توج مؤخرا بإعلان تحرير مدينة سرت التى استطاع من خلالها الضغط بشكل أكبر على الميليشيات المسلحة المتمركزة فى مدينة مصراتة والداعمة لحكومة الوفاق الوطنى. وتأتى هذه التطورات الميدانية، بعد فترة وجيزة من إعلان تركيا عن تحرك وحدات من جيشها إلى ليبيا، حيث حدث تلاحم بين الشعب الليبى وجيشه الوطنى بقيادة المشير خليفة حفتر للتصدى للغزو الذى يسعى من وراء كل ذلك لتأكيد حضور أنقرة فى شرق المتوسط، حيث يدور سباق للتنقيب عن موارد الطاقة واستغلالها وسط تسجيل اكتشافات ضخمة فى السنوات الأخيرة. لم تكن تلك الانتصارات المتتالية للجيش الليبى لتحدث لولا غطاء سياسى تقوده مصر على جميع المسارات الإقليمية والدولية لدعم الجيش الوطنى الليبى والوقوف بقوة أمام التدخل التركى، حيث شهدت الجامعة العربية أواخر ديسمبر المنقضى اجتماعًا على مستوى المندوبين بناءً على طلب مصر لبحث الملف الليبى، وشدد خلاله السفير علاء رشدى، مندوب مصر الدائم لدى جامعة الدول العربية، على خطورة التحركات التركية الأخيرة على أمن ومستقبل ليبيا، محذرًا من تداعيات «ما يتردد» عن إرسال قوات وعناصر إرهابية ومقاتلين أجانب إلى طرابلس. وأكد الوفد المصرى على ثوابت موقف مصر المُتمثل فى التوصل لحل سياسى يمهد لعودة الأمن والاستقرار فى ليبيا الشقيقة، بما يحافظ على وحدة وسيادة ليبيا وسلامة أراضيها وشعبها، فى إطار دعم جهود إيجاد تسوية شاملة تتعامل مع جوانب الأزمة الليبية، عبر دفع مساعى المبعوث الأممى والانخراط فى ترتيبات عملية برلين. واستطرد الوفد المصرى أن مصر حريصة على إنهاء الأزمة الليبية، نظرًا لارتباط الأمن القومى المصرى بشكل وثيق بالأمن القومى الليبى،فضلاً عن التهديد الذى تفرضه حالة عدم الاستقرار وغياب الأمن وانتشار الجماعات الإرهابية فى ليبيا على الأمن القومى العربى الجماعى. الموقف ذاته عبر عنه مجلس جامعة الدول العربية برفض وضرورة منع التدخلات الخارجية التى تسهم فى تسهيل انتقال المقاتلين المتطرفين الإرهابيين الأجانب إلى ليبيا، وكذلك انتهاك القرارات الدولية المعنية بحظر توريد السلاح بما يهدد أمن دول الجوار الليبى والمنطقة. وشدد المجلس، فى قرار بعنوان «تطورات الوضع فى ليبيا» أصدره فى ختام اجتماع دورته غير العادية برئاسة العراق وبناء على طلب مصر، على خطورة مخالفة نص وروح الاتفاق السياسى الليبى والقرارات الدولية ذات الصلة، على نحو يسمح بالتدخلات العسكرية الخارجية، بما يسهم فى تصعيد وإطالة أمد الصراع فى ليبيا والمنطقة.
ثوابت مصر منذ منتصف ديسمبر الماضى، أجرى الرئيس السيسى عدة لقاءات واتصالات هاتفية بعدد من زعماء العالم، منهم الرئيس الأمريكى دونالد ترامب والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورئيس الوزراء الإيطالى جوسيبى كونتى شرح خلالها بوضوح موقف مصر الداعم لتفعيل إرادة الشعب الليبى فى تحقيق الأمن والاستقرار لبلاده، وأهمية الدور الذى يقوم به الجيش الوطنى الليبى فى هذا السياق لمكافحة الإرهاب وتقويض نشاط التنظيمات والميلشيات المسلحة التى باتت تهدد الأمن الإقليمى ومنطقة البحر المتوسط بأسرها. كما استقبل الرئيس عبدالفتاح السيسى الأربعاء الماضى،السيد وانج يى،نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية الصينى،بحضور سامح شكرى، وزير الخارجية، وأكد الرئيس حرص مصر على وحدة واستقرار ليبيا، وأهمية العمل على حلحلة الموقف الداخلى الليبى الراهن، وكذا وضع حد لحجم التدخلات الدولية غير المشروعة، وتم التوافق فى هذا الصدد على ما يمثله التصعيد الأخير فى ليبيا من خطورة على أمن وسلم المنطقة الأمر الذى يتطلب دعم جميع الجهود الرامية إلى إيجاد حل سياسى شامل للأزمة. الثوابت المصرية تجاه الأزمة الليبية تنتصر عبر حضورها الدائم فى كل المناسبات واللقاءات الدبلوماسية، حيث تتأسس الثوابت المصرية على التزام مصر المبدئى والأخلاقى والسياسى القائم على وحدة واستقرار ليبيا، ودعم جهود الأممالمتحدة والتمسك بالحل السياسى كخيار وحيد للحفاظ على ليبيا مع ضرورة إعلاء المصلحة الوطنية العليا والاستقرار فى ليبيا فوق أية مصالح ضيقة والتركيز على إعادة بناء مؤسسات الدولة. كما تعتبر مصر أن استعادة الأمن والاستقرار فى ليبيا لا يحتل فقط أهمية قصوى بالنسبة لها لاعتبارات الجوار الجغرافى والصلات التاريخية القديمة، ولكن للإقليم والمنطقة العربية ككل على ضوء تشابك التهديدات ووحدة الهدف والمصير، خاصة أن المجتمع الدولى بات يرى صحة ما أعلنه الرئيس عبدالفتاح السيسى من أن عملية الناتو غير المكتملة فى ليبيا كانت لها عواقب وخيمة على الشعب الليبى الذى أضحى مصيره فى أيدى جماعات متطرفة مسلحة دون وجود جيش وطنى يحميه، وهو ما دعا الرئيس للإعلان بشكل واضح أن مصر تدعم الأطراف السياسية والعسكرية الشرعية، سواء كانت مجلس النواب فى طبرق أو الجيش الوطنى الليبى بقيادة خليفة حفتر.. حتى بات حضور خليفة حفتر كطرف من أطراف الحوار فكرة مقبولة لدى كل القوى الداخلية والدولية المهتمة بالشأن الليبى، وهو ما يُعد نجاحا لمساعى الدبلوماسية المصرية فى الملف الليبى.