معروف أن أنصاف الحقائق أكاذيب والفيديو أيضا بالرغم من أنه إحدي أدوات الإثبات القوية لكنك إذا شاهدت فيه نصف حدث أو نصف حقيقة يكون مضللاً. سمعت عدداً من التصريحات بشأن هجوم الخيول والجمال علي المتظاهرين بميدان التحرير في اليوم التالي لخطاب رئيس الجمهورية.. قال أصحاب التصريحات إن الذين اقتحموا ميدان التحرير هم أصحاب الخيول والجمال في منطقة نزلة السمان وأنهم قد جاءوا لينتقموا من هؤلاء الذي قطعوا أرزاقهم.. وكانت هناك ردود علي هذه التصريحات ومازالت الحقيقة غير موثقة.. كان هذا الحدث نقطة تحول في آراء كثيرين جداً ممن تعاطفوا مع خطاب الرئيس وصدقوه.. لكن كان السؤال الملح والذي لم يهتم الهاجمون الإجابة عنه هو: «لماذا يتحرك خيول وجمال يحمل راكبوها سيوفا وأسواطاً بعد أن كانت المظاهرات المؤيدة للرئيس مبارك ولخطابه قد خرجت بعشرات الألوف في أكثر من منطقة؟ هذا التساؤل هو الذي دفعني إلي أن أنزل إلي «نزلة السمان» لأحقق في الواقعة عن قرب مع ملاحظة أننا هنا نستمع لطرف واحد فقط هو أصحاب الجمال والخيول الذين لم يتحدثوا من قبل وبالتالي فهذه أيضا ليست الحقيقة كاملة. فكرت أكثر من مرة «هل أصطحب سيارتي معي إلي هناك؟» كنت أخاف أن يخرج «البلطجية» ويهجمون علي السيارة إذا عرفوا سبب مجيئي.. إذا كانوا هم من دخلوا ميدان التحرير بالفعل فمن المؤكد لن أكون ضيفة خفيفة علي قلوبهم. وصلت إلي «نزلة السمان» فقابلت أحدهم وأمسك بزجاج السيارة وكأنه يخاف أن ترحل وعلي عكس توقعي تمامًا رحب بي بشدة.. كان هذا الترحيب هو أول نقطة دفاع في صالح أهالي المنطقة فإذا كان هؤلاء الرجال مأجورين بالفعل لممارسة أعمال قتل وبلطجة هل كانوا سيرحبون بي بهذا الشكل دون خوف؟ عالم «نزلة السمان» مررت بين أهالي المنطقة المجاورة للأهرامات فوجدت وجوهًا متجهمة والحواري صامتة في حزن.. حتي لعب الأطفال فاتر هاديء خالٍ من الشقاوة. منطقة الأهرامات قد أغلقت تماما والسائحون رحلوا عن مصر فقطعت أرزاق الكثيرين هناك خاصة ممن كانوا يجلبون قوت اليوم بيومه والخيول تأكل من صناديق الزبالة. عندما تتحدث إلي أهالي «نزلة السمان» تدرك أنها بمثابة دولة منفصلة نادراً ما ينزل أهاليها إلي خارجها أو خارج الحيز الذي يؤجرون فيه الخيول والجمال.. العالم كله يأتي إليهم لكنهم لا يخرجون حتي إلي وسط المدينة إلا لأسباب اضطرارية.. تتكون من عدد من العائلات التي توارثت مهنة تأجير الخيول والجمال أباً عن جد. قادني الرجل إلي أحد المقاهي ونادي علي شخص آخر يدعي «سامي عبد السلام».. توجه «سامي» نحوي وكأنه وجد شيئا كان يبحث عنه منذ دهر ويتمناه بشدة. والصدفة وحدها جمعتني بصحفيين ومصورين سويديين نزلوا للتحقيق في نفس الموضوع.. وأنشر هنا صورة من الموضوع المنشور في جريدة الإكسبرسن السويدية الشهيرة الذي دافع عن أهالي نزلة السمان. دخلت مقهي يجلس عليه بعض الرجال تضاعف عددهم في دقائق معدودة. وجدت جروحاً تملأ يد (سامي) فسألته عن مصدرها.. أجاب «ضربني المتظاهرون في ميدان التحرير». سامي لا يقرأ ولا يكتب لكنه يجيد التحدث باللغة الإنجليزية حيث إنه أخذ يتحدث مع الصحفيين الأجانب ومعي باللغة الإنجليزية دون توقف أو تلعثم. لديه 4 بنات و3 أولاد تركوا التعليم ليعملوا معه في نفس المهنة. حكي لي «سامي» القصة كلها وهي نفس القصة التي حكاها لي كل أهالي المنطقة بحذافيرها دون اختلافات تذكر. بعد خطاب الرئيس سمعنا الكابتن «حسام حسن» يقول من يريد أن يعبر عن رأيه ينزل مصطفي محمود وقد كنا سعداء بخطاب الرئيس لأننا اعتقدنا أن السياحة ستعود ونعود كلنا إلي حياتنا المعهودة. تحركنا في صباح اليوم التالي في حوالي الساعة العاشرة والنصف.. حوالي 30 حصانا و5 جمال. كنا سعداء جدا وانضمت إلينا جموع كثيرة من المناطق المجاورة .. من الطالبية. سألته: هل تعمدتم الذهاب إلي التحرير للإعراب عن غضبكم من استمرار المظاهرات رغم الوعود الرئاسية؟ أجاب: هل أنا مجنون؟ طبعا لا.. أنا لا أعرف أساسا الطريق إلي ميدان التحرير ولا أتذكر أنني ذهبت إلي هذا المكان أكثر من مرتين أو ثلاث في حياتي. يستكمل «سامي: فوجئت بأناس يشدوننا من علي الخيل ويضربوننا ويسحلوننا ولم نفهم ما الذي يحدث. كل هذا لأننا كنا نقول «نعم مبارك».. «لا للتخريب». نقل فتي صغير يدعي «طارق محمود» عمره 14 عاما.. كان أحد الذين دخلوا ميدان التحرير راكبا علي حصان.. تحدث في هدوء وحماس منكسر وقال لي «أنا لم أنزل ميدان التحرير ولا مرة في حياتي ولا أعرف حتي الطريق إليه».. طلب منه أحد الجالسين علي المقهي بتعرية ظهره وقام بالفعل ورفع فانلة «طارق» فأغمضت عيني من قسوة المشهد.. الجروح تملأ ظهره وآثار الضرب بآلة حادة واضحة جدا.. بعد ثوان من رفع الفانلة أزاح الفتي يد الرجل وأنزل فانلته وخفض رأسه في خجل وانكسار وظل ممسكا بطرف الفانلة وكأنه شعر بإهانة عندما عري جسده أمامنا. وعندما طلب منه المصور الأجنبي أن يرفع فانلته مرة أخري ليجيد التقاط الصورة رفض الفتي رفضاً عصبياً. - سألت سامي: تقول إنك كنت سعيدا بخطاب مبارك فنزلت أنت وأهالي المنطقة للاحتفال في القاهرة.. فهل كنت سعيدا لأن مبارك لن يرشح نفسه مرة أخري أم كنت تريد تأييد بقاء الرئيس مبارك؟».. أجاب «أنا لا يهمني.. مبارك يأتي.. أو آخرون يأتون أنا تهمني لقمة عيشي وبعد خطاب مبارك ظننا كلنا أن المشكلة انتهت وأن الحياة ستعود إلي وضعها الأول. دخل أحد الأشخاص إلي الحوار يبدو أنه لم يكن جالسا قبل 5 دقائق فكرر نفس كلام سامي والطفل طارق فقال «كل هؤلاء البشر لا يعرفون طريق ميدان التحرير من الأساس». ولأن أهل نزلة السمان يعيشون اليوم بيومه فلا يعنيهم إلا كسب قوت يومهم من منطقة الهرم.. عبر عن ذلك سامي عندما قال «30 سنة آكل عيش وحصاني معي وأنام مرتاح البال.. فلماذا أحتاج إلي المزيد؟». عدت إلي أحداث يوم الأربعاء وسألت: ما الذي حدث يوم الأربعاء؟ ما الذي حدفكم علي ميدان التحرير؟ أجاب سامي: نحن كنا فرحين.. قدمنا Show في الشوارع والكل كان يصفق لنا والنساء كانت تزغرد وكنا في غاية السعادة. - عدت وسألته: عندما تحركتم من هنا في العاشرة والنصف صباحا أين كنتم تودون التوجه؟ - أجاب سامي: كنا نريد الذهاب إلي المهندسين كما قال كابتن حسام حسن.. وكنا نود أن نقدم الshowثم نعود إلي بيوتنا قبل حظر التجول. سألتهم: لكنكم تقولون إنكم لا تعرفون أي طرق خارج نزلة السمان.. فكيف عرفتم الطريق للمهندسين؟ أجاب سامي: انضم إلينا الكثير من الناس من كل مكان من الطالبية والجيزة ومن تحت الكوبري وبعضهم كان بموتوسيكلات وأخذنا نحتفل طوال الطريق. ثم تدخل أحدهم وقال: يا أستاذة أريد أن أسألك بالعقل.. إذا كنا نريد أن نذهب إلي التحرير من البداية فلماذا ذهبنا إلي المهندسين قبلها فلو كان هدفنا اقتحام التحرير لكنا ذهبنا من البداية. - سألتهم: متي وصلتم إلي المهندسين؟ - أجاب سامي: وصلنا حوالي الساعة الواحدة ومن كثرة زحام مظاهرات التأييد تُهنا من بعض فلم نعد كلنا مع بعض. - فسألتهم: وصلتم إلي المهندسين والناس رحبت بكم.. فلماذا تحركتم إلي التحرير؟ - أجابوا في نفس واحد أيضا: كنا نسير مع الناس.. في وسطهم نحتفل في الشوارع.. لم نعرف. - سألتهم: هل تعتقدون أنكم تعرضتم لمؤامرة؟ - أجاب أحدهم: ربما. - سألتهم: كم منكم ذهب إلي التحرير؟ - أجاب أحدهم: حوالي 10 أنفار يا «ست الكل» معظمهم صغيرو السن في عمر طارق.. الذين لا يفهمون أي شيء ومعظمهم كان يري وسط البلد لأول مرة. - سألتهم: أنتم وصلتم إلي التحرير.. فماذا حدث؟ - أجاب سامي: لم ندخل التحرير إنما دخلنا في شارع اسمه «أخذ يتذكر اسمه وباءت محاولته بالفشل».. منطقة مجاورة للتحرير. - قلت له: عبد المنعم رياض؟ - أجاب: نعم.. عبدالمنعم رياض - سألته: وماذا بعد؟ - أجاب الطفل طارق: كان كل الناس تصفق لي والكل كان فرحا وفجأة وجدت مصر كلها تهجم علَّي وتضربني. - سألته: وكيف خرجت؟ - أجاب: الجيش أنقذني من بين أيديهم. - سألته: وكيف أنقذت حصانك؟ - أجاب: لم أنقذه إنما تركته هناك. تدخل سامي: كل هذا حدث في أقل من دقيقتين. - سألت سامي: وأنت هل تمكنت من الحفاظ علي موقعك فوق حصانك؟ - أجاب: لا إنما أوقعوني من علي الحصان وضربوني بالزجاجات. - سألته: ماذا عن حصانك؟ أجاب: حصاني «ماكس» هو الذي جري ورائي ولحق بي. سألتهم: الكل يتهمكم أنكم مأجورون لإرهاب المتظاهرين. - هاج الجالسون علي المقهي ووقف أحدهم مدافعاً عن أهل منطقته: كل الناس تعرفنا.. كبار النجوم ومشاهير المجتمع يأتون لتأجير الخيل وهؤلاء من دافعوا عنا لأنهم يعرفون أننا لا يمكن أن نفعل ذلك. - سألتهم: ألم تحملوا سيوفا؟ - أخرج «سامي» نسخة من جريدة المصري اليوم التي نشرت صورة هجوم الخيول والجمال في صدر صفحتها الأولي وأخذ يشير إلي الأشخاص الموجودين في الصورة.. وأخذ يبرهن علي كلامه قائلا: انظري ماذا كنا نحمل؟ لا نحمل إلا سياط الخيل فقط. وأخذ يشرح الصورة وصوته متحشرج: انظري هم يحملون طوباً وسنجاً ويضربوننا والخيول مفزوعة تحاول أن تفر منهم. وقال سامي: مازال هناك 3 من أبنائنا لا نعرف عنهم شيئا، ثم قام أحدهم وتحدث بحديث أثبت لي أن هؤلاء الناس لم يسبق لهم أن نزلوا إلي وسط البلد من قبل بالفعل إلا نادرا. حيث قال هذا الرجل: 3 من أبنائنا مازالوا هناك.. الإخوان المسلمون حبسوهم تحت الأرض.. حيث إن في مترو الأنفاق تحت الأرض هناك غرف كثيرة. هذا هو تصور الرجل المسكين عن مترو الأنفاق.. مكان تحت الأرض به غرف مغلقة. لكن ألم يكونوا مغتاظين من المتظاهرين في التحرير؟. - سألتهم: ما رأيكم في المتظاهرين في التحرير؟ - أجاب علَّي رجل عجوز يدعي إسماعيل رمضان عمره 67 سنة: نحن نريد أن نأكل عيش.. هذا ما نعرفه.. نحن لا نعرف إلا أننا لم نأكل منذ أسبوعين.. أنا أعمل في مجال الخيول منذ 55 سنة ولم أر ذلك في حياتي. خرجت للتجول في حواري «نزلة السمان» فأوقفني أحدهم وقال لي: يا أستاذة هل ترين هذه الكنيسة؟ المسلمون وقفوا هنا ليحموها.. وقضينا ليالي مخيفة وقبضنا علي أحد المجرمين وكان يحمل سلاحاً سلمناه إلي الجيش. التقيت بأحمد عاطف - 14 سنة - كان أحد الذين دخلوا الميدان بالخيول.. رأسه ووجهه يمتلئان بالجروح. - سألت الطفل عاطف عما جري فقال: - سمعت أن مؤيدي الرئيس مبارك سيذهبون إلي مصطفي محمود فقلنا إن علينا أن نذهب، فلعلنا إذا ذهبنا يفتحون لنا منطقة الهرم لنعود ونأكل عيش أنا وأهلي.. لكنني عندما ذهبت إلي التحرير ضربوني وكان معهم أسلحة وأخذوا حصاني وأخذوا يسألونني من أرسلك ومن دفع لك مالا؟ ثم عاد الأب وأراني ابنه الآخر: طفلي مصاب بضمور في المخ وأصرف عليه حقنة ب107 جنيهات يوميًا فكان هدفنا أن نجعلهم يفتحون لنا الأهرامات لأستطيع أن أعود وأصرف علي علاج طفلي فكانت النتيجة أنني فقدت حصانين هناك.. وفي اليوم التالي اصطحبت طفلي وزوجتي وتوجهت إلي التحرير لعلني أستطيع أن أقنعهم لإعادة حصاني ورأيت حصاني بعيني لكن الجيش قال لي لو دخلت سيذبحونك.. فتركته ومضيت وأنا قلبي يتقطع. وأخيرا دخلت إلي بيت الحاجة أم عادل والدة عادل حافظ الذي فقِدَ في هذه الأحداث ولا تعرف مكانه.. لم يعد هو و سامح حافظ وعادل علي ومحمد عبد المجيد حتي الآن. قالت لي آخر شيء طلبه مني كوب شاي وشربه وانطلق مع أصدقائه لا أعرف إلي أين. أرسل لي أحد الواقفين صورة طفلها وهو مجروح في ميدان التحرير وكانت هذه هي الصورة الأخيرة التي تراها الأم المريضة العاجزة لوليدها.. توسلت إلي أن أعيده إليها بأي ثمن. والآن وبعد أن قرأت هذا التحقيق أرجو منك أن تعيد مشاهدة فيديو الاقتحام فربما تكتشف أن هؤلاء الشباب والخيول كانت تحاول الفرار من المتظاهرين لا الهجوم عليهم.. حتي من صدمتهم الخيول صدمتهم في محاولة الفرار وليس هجوما.. فقط تأمل وجوه راكبي الخيول لتجدها مليئة بالرعب والخوف.